/ACRPSAlbumAssetList/2023-daily-images/book-review-culture-in-the-plural.jpg
مراجعات 18 يونيو ، 2023

مراجعة كتاب: الثَّقَافَةُ بالجَمْع: [سياسات ثقافيَّة جديدة] لميشال دو سارتو

محمّد أمين بن جيلالي

​أستاذ في قسم العلوم السياسية، كلية الحقوق بجامعة بومرداس (الجزائر). باحث في الفكر السياسي المعاصر والدراسات السياسية المقارنة والأبستمولوجيا. من أهم بحوثه المنشورة في مجلات علمية محكمة: "مقاربة بناء الدولة في ظل العولمة: قراءة في جدل الحقيقة الكونية وثقافة الخصوصية" (أيلول/ سبتمبر 2015)، و"هيغل والعلاقات الدولية: التمفصل المعرفي والتمثل الجدلي" (شباط/ فبراير 2016)، يحضّر حاليًا لشهادة الدكتوراه حول أطروحة "المساقات الأبستيمية لظاهرة بناء الدولة ما بعد الحرب الباردة"، بجامعة وهران.

العنوان الأصلي للكتاب: La culture au pluriel

عنوان الكتاب: الثَّقَافَةُ بالجَمْع.

المؤلف: ميشال دو سارتو.

المترجم: محمد شوقي الزين.

الناشر: بيروت: دار الروافد الثقافية؛ وهران: دار ابن النديم للنشر والتوزيع.

سنة النشر: 2022.

عدد الصفحات: 263.


مقدمة

يضطلع كتاب الثقافة بالجمع La culture au pluriel (1993) لميشال دو سارتو Michel de Certeau بمهمّة ترسيخ مقاربة جديدة من أجل فهم مغاير للثقافة التي لم تَعد في المنظور التداولي عند دو سارتو منفصلةً عن المجتمع، بل هي ما يشبه تعبير كليفورد غيرتز Geertz Clifford في تأويل الثقافات عام 1973 "نسيج المعنى الذي يولّد الأفعال الاجتماعية"، على عكس ما كان سائدًا في التَّصور الحدّي الثابت للثقافة الذي اختزلها في "مجموع الإدراكات والتقاليد والأفكار والمعارف والعادات التي تُشكّل رؤية العالم" (ص 10). عطفًا على ما سبق، يكتسي هذا المؤلَّف أهمية نظرية ونقدية وديناميكية بالغة للحقول المعرفية في العلوم الإنسانية. تُشير لوس جيار Luce Giard أنّه "يُمكن لكتاب الثقافة بالجمع أنْ يكونَ مقدّمةً مشروعةً للأنثروبولوجيا السياسية عند دو سارتو" (ص 34). ومن هنا أحدث دو سارتو تحوّلًا بارزًا في مسار الفكر والثقافة والدراسات الثقافية المعاصرة تحديدًا، إذ طرَقَ مسألة الثقافة باستدعاء اليومي والعادي من الحياة المعيشة، فأصبحت الثقافة معه مجالًا يُدرس على المستوى الجزئي "الميكروسكوبي"، وخصوصًا عند تفكيكه علوم الإنسان إلى مجالات أصغر وأدق هي: الدين والتاريخ والثقافة. ويبدو أنّ نقد دو سارتو لمفهوم الثقافة، كان في سياق ميلاد فلسفة الثقافة، في صلة قويّة بالحدث الثقافي الأهم؛ ثورة مايو 1968 بفرنسا، بالرغم من "صعوبة استيعاب المجتمع الفرنسي للقطيعة الثقافية والجيلية".

يتلّخص المسعى الحثيث للمؤلّف في محاولته نزع الطابع التجريدي عن مفهوم الثقافة، في مقابل الاشتغال على إضفاء السمة الإجرائية عليه، وذلك عن طريق جعله مرتبطًا بالفعل الثقافي، ومتميّزًا بدلالة واضحة، ومنتجًا لعمليات ثقافية مبدعة داخل الفضاء الاجتماعي. وعليه، تتمحور الإشكالية المركزية للكتاب حول البحث عن كيفية تشكّل الثقافة وتكوينها، باعتبارها نشاطًا خلَّاقًا داخل فضاءات إكراهية واشتراطات قسرية، مما يُبين عن مفارقة مستترة تُلزم الكاتب بالحفر في المقتضيات الأيديولوجية والسياسية التي تقبع تحت سطح الثقافة وتتحكم في الفعل الثقافي. لذلك ينطلق دو سارتو من فرضية "الابتكار" الثقافي التي يقصد بها كل ما يصنعه الجمهور ثقافيًا خارج إرادة النخبة، وبعيدًا عن كل ما تنتجه سلطتها، وبمعنى آخر؛ ما يمكنه أن ينفلت من المخطط الصارم للسياسة الثقافية، ويرتهن بفاعلية الإنجاز لدى الجمهور، بحيث يربط دو سارتو ذلك بشرط إمكانٍ هو الحرية؛ لأنّ هذا الكتاب حسب لوس جيار Luce Giard "يتبدى بشكل أساس نصًا سياسيًا، درسًا في الحرية" (ص 33)، اعتمد دو سارتو على نقد البداهات والمسلمات والخطابات الجامدة التي تحوزها النخبة حول الثقافة، وفي المقابل سار نحو الإزاحة على الممارسة التداولية للثقافة من الفاعل الاجتماعي. وارتكز على توليف منهجية مركّبة تتناغم داخلها الأدوات التاريخية، والأنثروبولوجية، والدراسات الفلسفية، والألسنية، والنفسية. واعتبر المفهوم التداولي للثقافة في حدّ ذاته أداة تأويلية وتحليلية للممارسات اليومية.

يتجه دو سارتو من خلال هذا العمل الذي تبرز مِعماريته الأساسية في بناء تمفصل بين الثقافة العالِمة والثقافة الجماهيرية للكشف عن المسارات الإبداعية للفعل الثقافي داخل الحياة الاجتماعية، على أنْ يكون هذا الفعل مصحوبًا بالدّلالية والفاعلية والتبادليّة. فالدّلالية متصلة بتبديد الأوهام العالقة في ذهن الفرد حول رؤيته للممارسات الاجتماعية ولغة الخطاب المتشكّلة حول المجتمع. أما الفاعلية، فمرتبطة بإيجاد الفضاء الملائم للممارسات الثقافية للحاضر، وإعادة بعث الطاقات الإبداعية من مكانها الهامشي. وأخيرًا التبادليّة التي ترسم خريطة طريق للبحث عن سياسات ثقافية في إمكانها وصل الدولة ومؤسساتها باليومي الخاص بالجمهور. ترتبط الرهانات السياسية والاجتماعية للأسئلة التي يتناولها الكتاب بخلق الحاضر والقدرة على إضفاء دلالة على معنى الاختلاف من أجل العيش المشترك.



* هذه المراجعة منشورة في العدد 44 من مجلة "تبيّن" (ربيع 2023)، وهي مجلة فصلية محكّمة يصدرها المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات ومعهد الدوحة للدراسات العليا وتُعنى بالدراسات الفلسفية والنظريات النقدية.

** تجدون في موقع دورية "تبيّن" جميع محتويات الأعداد مفتوحة ومتاحة للتنزيل.