الوخز بالكلمات: مجازات سحر الرباطاب ولجام الشرع

05 مارس،2018

درس كتاب عبد الله علي إبراهيم الوخز بالكلمات - مجازات سحر الرباطاب ولجام الشرع، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، المجازات البلاغية المضمنة في ممارسة خطاب السَحِر عند الرباطاب، وهم من المسلمين العرب في السودان.

ومادة هذا الكتاب (قاموس مصطلحات ومقدمة وستة فصول وخاتمة في 280 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا)  ثمرة عمل ميداني قام به المؤلف في عام 1984، عربها وحررها عبد الله علي إبراهيم والخاتم المهدي، وأصله أطروحة دكتوراه قدمها إبراهيم في جامعة إنديانا، عمل عليها بين عامي 1981 و1987، كتبها بالإنكليزية ثم ترجمها باحثًا عن معادل عربي للكلمات المفاهيم الذي أوردها في ثبت معرّب.

الرباطاب قوم مزارعون بلغ عددهم حينذاك 38 ألف نسمة، يسكنون ويزرعون ضفاف وجزائر منطقة النيل الوسطى في السودان. وهم مسلمون يتحدثون العربية، ويزعمون لأنفسهم، مثلهم في ذلك مثل مجموعة الجعليين النيلية في السودان الشمالي، نسبًا عربيًا يتصل بالعباس عم النبي محمد.

إغراء سوق العمل

في الفصل الأول، عن الناس وأجناس القول، تحدث إبراهيم عن الطشيش، أو الهجرات المنظمة لجيل الرباطاب إلى سوق العمل ذهابًا وإلى القرية إيابًا، والطشيش بلغتهم هو الضلال عن الطريق، أي الهجرة والغربة، "اعترافًا بالإغراء الشيطاني الذي تجسده سوق العمل، وبالواقع الذي تجسده القرية، مسقط الرأس وعقبى الدار. كما تحدث عن زراعتهم الفول وإتجارهم به، فالعائدات المالية التي تحصّلها الرباطاب من بيع فولهم ساهم في اقتنائهم الأرض بغرض الزراعة، وعن نادي "الناس الماشين لا ورا" الوهمي الذي نسّب إليه المزارعون من هاجر إلى سوق العمل، وعن تقريع الرباطاب أسلافهم بسبب بؤس مهن هؤلاء الأسلاف وعدم جدواها.

بحسبه، ينظر جيل الرباطاب إلى التغييرات التي أحدثوها بإجراء مقارنة بين أساليب آبائهم وأساليبهم هم في طور الأبوة، ويرون أنفسهم ضحية آبائهم وأبنائهم على حد سواء، ويقترحون بإلحاح أنهم "جيل الساندويتش". وتناول صدمة الحداثة، وتقاليد وأعراف خاصة بالرباطاب كاستنكارهم مثلًا تناول أحدهم الطعام في أي مكان غير بيته، وتسميته هذا التعاطي الشاذ للطعام "كِدَاية".

في الأخرنة

في الفصل الثاني، السَحِر وفنتازيا الاختلاف، تناول إبراهيم جماعات غيرهم ينسب إليها الرباطاب ممارسة ضرب أو آخر من ضروب السَحر، "ونريد بذلك مناقشة جوانب من هوية الرباطاب من جهة تمييزهم أنفسهم من الآخرين بما صار يعرف بالأخرنة، أي جعل غيرك، أي غير رباطاب، آخَر. فصورة الرباطاب الغراء عن أنفسهم لن تسوغ لغيرهم، لو لم يرموا الآخر بشين (وهو السَحِر هنا) هم براء منه".

كتب: "صاحب العين الحارة من الرباطاب، متى وصف بأنه سحَّار، دخل تلقائيًا في زمرة أشخاص وأفعال تحدد هويته وشوكته. ومن هؤلاء الأشخاص والأفعال التي يندرج سحَّار الرباطاب فيها: عرب المناصير الرحل، وهم متهمون عند الرباطاب بممارسة نوع من السَحِر يدعى "العَقِدْ"، وفيه يتم تقييد حركة شيء منعًا لسرقته؛ والدناقلة، وهم جماعة ناطقة بغير العربية تسكن ضفاف النيل إلى الشمال مباشرة من ديار الجعليين. ويطلق الرباطاب لفظ سحَّار على أشخاص منهم يحولون أنفسهم إلى تماسيح ويفترسون الناس؛ والنم نم، أي أكلة لحم البشر والغيلان والسعلاة في الحكايا الشعبية، هم عند الرباطاب سحارون. ويصور الرباطاب النم نم قادرين على التحول إلى كائنات أو جمادات متورطين في خطط إغراء النساء للهرب بهن، ثم أكلهن؛ والجماعات السودانية - السوادنة الناطقة بغير العربية التي تعيش إلى الجنوب والغرب من ديار الجعليين. ويشيع الاعتقاد أن تلك الجماعات تتحول إلى آكلي لحم بشر ومصاصي دماء وغيلان، تبقر بطون ضحاياها".

الشرع الصارم

في الفصل الثالث، الخطاب ولجام الشرع، فحص إبراهيم خطاب الرباطاب من منظور معتقداتهم الإسلامية، وتناول أجناس خطاب الرباطاب الشعرية والسردية ومناسبات القول عندهم على حدة، وبتوسع، مركزًا على التوتر الكائن بين خطاب الذهنية الشرعانية المسيطر والأشكال المذكورة من فن القول، والمقصد من النقاش تبيان أن مواقف الرباطاب من الخيال (مثل المجاز) والفن اللفظي (بما فيه الإلهام الشعري) وإعادة إنتاج الفن اللفظي (مثل العنعنة أو التواتر)، لا تتقيد بمدوّنة سلوك دينية صارمة فحسب، بل يجري تداولها في سياق اجتماعي اقتصادي يستوجب أعباءً غير مسبوقة على اقتصاد الوقت للجماعة وسبل إنفاقه.

كتب: "تنحو حوادث الرباطاب الكلامية عمومًا إلى إعادة إنتاج نماذج الكلام الموصى بها من الذهنية الشرعانية. فالمستحسن منها جنس ’قال الله، وقال الرسول‘، والمرذول من جنس ’القطيعة‘ (أي النميمة)، يشفان عن فريضة الصمت التي تقيمها الذهنية الشرعانية. وهو صمت لا خروج منه إلا لقول خير عن معاد المرء أو معاشه في ما يعود إلى قول الرسول في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: ’من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت‘".

عين وفم

في الفصل الرابع، السَحِر نظرية وممارسة، تناول الباحث مفاهيم خاصة بالسحر، كالعين الشريرة والفم الحار، وماهية السَحْرَة، والسَحِر باعتباره أسلوبًا في الكلام والسَحْرَة الانتقامية والكلام الذي يثلم حد السَحِر وتعريف السحَّار.

كتب: "السَحْرَة هي أداء يعرض المؤدي فيه مهارة، مهما كان الرأي في ما يترتب عنها من خسائر. وتشمل مؤديًا وجمهورًا وموضوعًا وحكمًا قيميًا. وككل أداء فهي مخاطرة، لأن المؤدي يتحمل مسؤولية عرض مهارته أمام جمهور. وككل أداء أيضًا فهناك مفاتيح دالة على أن الرجل المعروف بالسَحِر على وشك أن يَسْحَر".

وكتب في مكان آخر: "يقع السَحِر في فئة من الحوادث الكلامية من مزاح الرباطاب الماسخ مما يعرف بالرد السريع. وتستخدم اللغة في مثل هذا المزاح بواسطة متفنن بها للضبط الاجتماعي. وبشكل عام يمكن تعريف هذا الاستخدام بأنه يقع في مواقف يستعين فيها البليغ بسرعة بدهته ليزلزل بها منطق غريمه، ويفرض سيادته على الموقف. تشمل فئة الرد السريع، إضافة إلى السَحِر، حوادث كلامية أخرى، منها المساخة (وهي الكلام الماسخ، أي بغير ملح يلطف مذاقه) والمخَاتاة (المخاطاة، من خَاطَأ، أي تحرش بالآخر يطلب الخصومة واللجاج، جر الشكل)".

لسان ومزاح وفاكهة

في الفصل الخامس، أي نوع من المَقْرَدة؟، توسع إبراهيم في الكلام عن كلمات السحر وطقوسه. وتحت عنوان "النية زاملة سيدها"، كتب: "يتيحُ لنا سَحِر الرباطاب زواية مفيدة للنظر إلى دور النية في مضاء الكلمات. فسبق أن رأينا كيف أَخَّر الإثنوغرافيون النية في أبحاثهم وقدموا أعراف القول، الدماثة، عليها في بحثهم عن مصدر قوة الكلمات في السِحْر".

أضاف: "غير خاف أن الخلاف الذي يخوض فيه علماء اجتماع اللغة، عن نسبة السِحْر إلى النية أو الدماثة، في صميم بنية جدل الرباطاب حول فاعلية السَحِر. فضحايا السحر يتهمون السحَّارين بنفث سوء طويتهم في مجاز السَحِر. أما الدماثة، من الجهة الأخرى، فتجدها في ردة فعل الجمهور وفي حجج السحَّارين ببراءتهم من سوء الطوية. فيعلن الجمهور من أول وهلة أن المسحور ’قُتل‘ أو ’تَعوق‘ بعد تصويب السحَّار للمجاز نحوه. ويعتبرون في حكمهم هذا أعراف الأداء من جهة قيام الرجل المخصوص، السحَّار، بالفعل الذي يختص به، السَحِر، في الإطار المتفق عليه لمثله. وفي الحالات التي يزعم المسحور أن مصيبة أصابته من السَحْرَة، سواء في الحال أم بعد مضي الوقت، فهذا مصداق لتوقع الجمهور من مهارة السحَّار في أداء السَحِر. من الجهة الأخرى فالسحَّارون ينسبون مزاعم المسحورين بتلك المصائب إلى اعتقاد خاص بهم بخطر السَحِر. وهم يصرون على أن هذه العقيدة في السَحِر هي التي تجعلهم عرضة لفتكاته".

كما تناول مجازات السَحِر وسجن اللسان وحدود المزاح. وفي باب السَحِر والفكاهة، كتب إن السَحِر جنس قولي من فكاهة الرباطاب الماسخة التي هي في الأساس سلخ للمرء باللسان، "وتتربص هذه الفكاهة بمن تجعله هدفًا لها تنتظر أن يكشف عن هون في التعبير أو في تناسق حركة الجسد أو في التموضع أو في مراعاة أبجديات السلوك الاجتماعي. (...) ويبدو أن الذي يجعل السَحِر جنسًا فكاهيًا هو تربصه بعثرات القول والفعل أيضًا كما هي الحال مع أجناس الفكاهة الرباطابية الأخرى. والواضح أن فشل المرء في الامتثال للأحكام الشديدة التي تحكم السلوك قولًا وفعلًا هو الموضوع المثالي للفكاهة بين الرباطاب".

أجناس ورواة

في الفصل السادس والأخير، بهو الأصوات: أجناس السَحْرَة، قارن إبراهيم بين مختلف الأجناس التي تُروى فيها واقعة السَحِر، "لنرى كيف تعبر هذه الأجناس عن الآراء المتضاربة التي يراها مختلف رواة السَحْرَات،كلٌّ من زاويته، فتكلم عن السَحْرَة النكتة والسَحْرَة اللجند وسَحْرَة الحكاية والسَحْرَة اللغز والسَحْرَة المثل والسَحْرَات المؤَدَّاة.

ختم الباحث هذا الفصل بالقول: "ترتفع قيمة السحَّار باعتباره ونّاسًا بمثل السَحْرَات التي يؤديها أمام جمهور عادة ما نظر إلى السَحِر بصورة مرتبكة بين الشجب والاستحسان. فالسحَّارون، بأدائهم السَحِر على مسرح المجتمع، كمن يسعى إلى الحصول على مزيد من الشوكة الأدائية التي جاء في وصفها ما يأتي: حقًا، فإن الأداء للمجاز تشخيصًا يُقصد به صقل شوكة المجاز البلاغية. فالترجمة السيميائية من القول إلى التشخيص بالجسد تمكن لفعل التواصل بجذب انتباه المشاهدين بصورة خاصة وفاعلة. وتقع تلك الشوكة أيضًا بكشف التشخيص لمفارقات المعنى في المجاز الذي يصل ما لا يتصل من الأشياء إلا بإعمال الخيال".

في خاتمة المطاف، قال الباحث إن السَحِر بوصفه جنسًا فكاهيًا هو باب للهزء، وفي ذلك تهديد لوجه المرء، والوجه هو صورة الإنسان عن نفسه التي يرغب في أن يراها الناس كما أرادها، لا تبديل لها أو تعقيب عليها؛ وإنه أخذ مجاز سحر الرباطاب أخذًا إلى رحاب اللغة ومنعطف العلوم إليها، "والسَحِر كما بيَّنا في الكتاب حدث كلامي ذو وجوه عديدة مثيرة شديدة التعقيد. فهو، لغةً، تشبيه يعقده بليغ فصيح، هو السحَّار، بين شيئين، مما يجعله طرفة يضحك لها الناس لإصابتها وجه الشبه، وقد تخيب. ومن وجه آخر فالسَحِر وثيق الصلة بالاعتقاد بالفم المعيان. فيخشى الناس منه، ويعتقد بعضهم أنه يصيب من استهدفه بالأذى".

اقــرأ أيضًــا

فعاليات