الشرعية الديمقراطية: من التعاقد إلى التواصل، هبرماس في مواجهة رولز

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الشرعية الديمقراطية: من التعاقد إلى التواصل، هبرماس في مواجهة رولز، ويسلط فيه مؤلفه، عبد العزيز ركح، الضوء على أنموذجين من الإتيقا العمومية، هما النظرية الليبرالية التعاقدية كما تجسدت حصرًا في أعمال جون رولز، والنظرية التداولية القائمة على أسس فلسفة التواصل وإتيقا الحوار كما يعرضها يورغن هبرماس، والمقترحان مشروعَا شرعنة سياسية للمسار الديمقراطي، مركزًا على إبراز أوجه اختلافهما وتشابههما، مفترضًا أن الخلاف الظاهر بينهما يُخفي في العمق تداخلًا وتشابهًا كبيرين؛ إذ يمكن القول إنهما أنموذج واحد صيغ بطريقتين مختلفتين، نتيجة تباين البيئتين اللتين وُضِعا فيهما، واختلاف مرجعياتهما التاريخية والثقافية.

يتألف هذا الكتاب (327 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من ثلاثة فصول وخاتمة.

الديمقراطية الليبرالية التعاقدية عند جون رولز

يفتتح ركح الفصل الأول، "الديمقراطية الليبرالية التعاقدية عند جون رولز"، بتقديم نظرية العدالة عند رولز، ثم يعرضها باعتبارها غير مباشرة في المجتمع الديمقراطي، مبرزًا معناها الفلسفي وموضوعها الرئيس، قبل أن يتناول إجراء الشرعية المتبع في تلك النظرية وآلية التبرير المعتمدة فيها، منطلقًا من نقد إجراء التبرير المعتمد في المذهب البراغماتي، ومركزًا على إجراء العقد الاجتماعي بوصفه إستراتيجية أولى لاختيار المبادئ وتبريرها، وذلك في وضعية أصلية وتحت حجاب جهل يضمن حياد المبادئ وكونيتها.

ويتناول ركح مبدأي العدالة المنبثقين من تلك الوضعية، ثم يبرز الطابع الديونتولوجي للنظرية من خلال تركيزها على أولوية العادل على الخير، والمعقول على العقلاني، لتكتسي طابعًا ترنسندنتاليًّا يدرجها ضمن تيارات الفلسفة الكانطية الجديدة. كما يبحث في مفهومَي الأحكام الموزونة والتوازن التأملي، كمرحلة أخيرة من إستراتيجية التبرير الأولى التي تتبعها مرحلة ثانية كانت نتيجة للتعديلات التي ألحقها رولز بنظريته، استنادًا إلى وعيه المتمثل في عجز هذه الأخيرة عن التعامل مع واقع التعددية المميزة المجتمعات الغربية؛ إذ ينتقل التبرير الأخلاقي من مستوى التفكير الأناني إلى مستوى النقاش من خلال الاستعمال العمومي للعقل، والاعتماد على إجراء الإجماع بالتقاطع كآلية تأخذ في الحسبان التعددية الأيديولوجية للمجتمعات المعاصرة. ويصاحب هذا الانتقالَ انتقالٌ آخر في الهدف المسطر بدايةً؛ إذ لا يصبح هدف النظرية الحضَّ على تطبيق العدالة بقدر ما هو الحرص على إمكان تطبيق النظرية الفعلي، والعمل على استقرارها السياسي. ويختم ركح هذا الفصل بإبراز دور الدين في الفضاء العمومي وشرعية العصيان المدني.

الديمقراطية التداولية عند يورغن هبرماس

يعرض ركح في الفصل الثاني، "الديمقراطية التداولية عند يورغن هبرماس"، حيثيات الانتقال من نظرية الفعل التواصلي إلى نظرية الحق، ثم يتناول كيفية صوغ نظرية الحق وفق مصطلحات الفعل التواصلي، من خلال الكشف عن الازدواجية المحايثة للحق الحديث؛ باعتباره وسيطًا، وباعتبار أنه مؤسسة من جهة، وأنه متأرجح بين الواقعية والمعيارية من جهة أخرى.

وبالنظر إلى تحديد المفاهيم والوظائف، تُعاد صياغة الحق وفق تصور عقلاني إجرائي يجد تجسيده الأمثل في أنموذج الديمقراطية التداولية؛ كحل ثالثٍ بين المذاهب الجمهورية والليبرالية يستند إلى إتيقا الحوار بوصفها إستراتيجية لتبرير القواعد الأخلاقية والقانونية. ولأن إتيقا الحوار عاجزة عن تحقيق الحوار الأمثل، فإنها تلجأ إلى مكتسبات فلسفة اللغة المعاصرة، وإلى مبحث التداولية، خصوصًا الذي يمكن بوساطته جعل التفاهم البيني بين الذوات ممكنًا، ومنه مستوى العالم المعيش قابلًا للعقلنة؛ وهو المبحث الذي يقوم على نظرية أفعال الكلام، وعلى الحوار الحجاجي الذي يمكن أن تحققه الوضعية المثلى للكلام التي يحددها مبدآ الحوار والكونية بهدف التوصل إلى إجماع فعلي بعيد من كل إكراه.

ولأن الاستعانة بإتيقا الحوار في نظرية الحق ليست التأسيس الفلسفي للقواعد الأخلاقية فحسب، بل للقواعد القانونية الملزمة أيضًا، فمن الواجب تمييز الحق من الأخلاق وإبراز الاختلاف بينهما، وحاجة كل منهما إلى الآخر ليكون في الإمكان تمييز المبدأ الديمقراطي القانوني من مبدأ الحوار الأخلاقي. ويحتاج الحوار الحجاجي إلى فضاء يحصل فيه، وهو ما يتناوله عنصر تشكل الرأي والإرادة السياسية الذي يُعنى بالفضاء العمومي والمجتمع المدني، ويوضح دور الدين في هذا الفضاء.

الليبرالية التعاقدية والديمقراطية التداولية ما بين هبرماس ورولز

يُدرج ركح في الفصل الثالث، "بين الليبرالية التعاقدية والديمقراطية التداولية"، أوجه الاتفاق وأوجه الاختلاف بين الليبرالية التعاقدية والديمقراطية التداولية، محاولًا في مبحث أول إظهار أن النقاش الدائر بين نظريتَي رولز وهبرماس هو نقاش عائلي، وأن اختلافهما الظاهر في بعض القضايا لا يعدو كونه سوءَ تفاهمٍ، ويدل على ذلك رفضهما النزعات اللامعرفية أو الشكية في الفلسفة العملية، وتأكيدهما الطابع الموضوعي للقضايا الأخلاقية وإمكان تأسيسها عقلانيًّا، من خلال التركيز على الجانب الإجرائي والطابع الكوني في النظرية الأخلاقية، ما يجعل منهما أنموذجين رائدين في البنائية المعاصرة. ويفسر هذا التشابه بدرجة كبيرة انتماء النظريتين إلى المرجعية الفلسفية العملية نفسها، المتمثلة في الديونتولوجيا الكانطية، وبتأثرهما بالمرجعية السيكولوجية نفسها المتمثلة في نظرية التطور الأخلاقي عند لورنس كوهلبرغ.

في مبحث ثانٍ، يتطرق المؤلف إلى أصل الاختلاف بين النظريتين، باعتباره راجعًا إلى تباين الأدوات المنهجية والخلفيات الفلسفية التي ترجع كل منهما إليها، ويعرض الانتقادات التي وجهت إلى نظرية العدالة من الديمقراطية التداولية وردود رولز على ذلك، مركزًا على دور الفلسفة السياسية بين التصور السياسي والتأسيس الفلسفي، ومونولوجية الوضعية الأصلية وأسبقية الحقوق الأساسية على المقتضى الديمقراطي.

اختلاف غير جوهري

في الـ "خاتمة"، يقول ركح إن المواقف التي تطرحها الليبرالية السياسية الدستورية لدى رولز والنزعة الجمهورية الكانطية عند هبرماس هما أقرب إلى بعضهما أكثر مما يبدو في الظاهر: "وإذا كان متتبعون كثر للنقاش الذي دار بينهما، يعتقدون أنه نقاش يعكس اختلافًا جوهريًّا وتعارضًا فعليًّا في تصور الشرعية الديمقراطية، حيث إن النظرية الأولى تنظر إلى الديمقراطية كمثل أعلى من التعاون المنصف وتضيّق التداول الديمقراطي الفعلي من خلال إقصائها الحجج التي لا تتماشى وقاعدة معينة من المعقول محددة بطريقة مستقلة بتصور سياسي للعدالة، في حين تتصورها النظرية الثانية كمثل أعلى من الحكم الذاتي من طريق التداول العمومي وترفض أن تلحق التداول بمبادئ مستقلة، بل تجعله المصدر الرئيس لكل شرعية، فإننا نميل إلى الاعتقاد، وفق ما بيّن ذلك ستيفان كورتوا، أن التعارض الظاهر بين النظريتين حول مصادر شرعية الحق والمبادئ الدستورية لمجتمعاتنا الليبرالية ليس بذلك الإطلاق بمعنى أنه ليس اختلافًا في المبدأ بقدر ما هو تفاوت في الدرجة أو في التركيز على هذا الإجراء أو ذاك".

اقــرأ أيضًــا

 

فعاليات