الانتخابات والانتقال الديمقراطي: مقاربات مقارنة

صدر عن سلسلة "دراسات التحول الديمقراطي" في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الانتخابات والانتقال الديمقراطي: مقاربات مقارنة، وهو يضم نخبة من البحوث المقدمة في ندوة دولية بالعنوان نفسه، عقدها المركز في تونس خلال الفترة 5-7 آذار/ مارس 2015، بحث فيها المشاركون ما شهدته المنطقة العربية في العقدين الماضيين من تنامي مطالب الحرية والديمقراطية، واشتداد الضغط للحدّ من النزعات التسلطية للأنظمة الحاكمة، ولتوسيع نطاق المشاركة السياسية، ولو بأشكال محدودة. فقد بان للنخب السياسية العربية تأكّل شرعية الحكام، على نحو أدى إلى أزمات حادة وصدامات دامية، علاوة على تنامي مظاهر العنف والإرهاب، وقاومت أنظمة الاستبداد المطالب الشعبية متبنّية خطابات تخلط بين الديمقراطية والتعددية، والديمقراطية والانتخابات الشكلية، والحريات الفردية والحريات العامة، والتفويض والمشاركة؛ ما أفضى إلى سلب تلك المطالب جوهرها الكامن في الحريات والمشاركة الواسعة في إدارة الشأن العام.

يقع هذا الكتاب (468 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) في أربعة عشر فصلًا، قُسمت منهجيًا ستة محاور.

خصوصيات وعراقيل

ركز المحور الأول على قضية "الانتقال الديمقراطي في دول الربيع العربي: الخصوصيات والعراقيل"، واشتمل على ثلاثة فصول. أكد عبد الرزاق المختار في الفصل الأول، "في الهندسة الانتخابية للمراحل الانتقالية: انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في تونس مثالًا"، أن لكل انتقال هندسته الانتخابية، وداخل الانتقال نفسه يمكن المرور من هندسة انتخابية إلى أخرى بناءً على متغيرات تتصل باختلاف نوعية الاستحقاق الانتخابي، وتغير الفاعلين السياسيين، والتحولات الطارئة على الحقل السياسي. وتؤكد التجربة التونسية هذا الأمر؛ فكان مراد الهندسة الانتخابية للمرحلة الانتقالية الأولى تشكيل البناء المؤسساتي الجديد، ومراد الهندسة الانتخابية للمرحلة الانتقالية الثانية تثبيت البناء المؤسّساتي الجديد.

ويقول برنابي لوبيز غارسيا، في الفصل الثاني، الذي كان موضوعه "المغرب: الانتخابات ومشكلات الانتقال غير المكتمل"، إن قواعد اللعبة السياسية لم تتعدّل بطريقة جوهريّة في المغرب، مع أن المنظومة أصبحت أقلّ اعتباطًا، وأنّ ضمانات حقوق الأفراد اتّسعت من دون أن تبلغ مستوى دولة القانون. ويظلّ الانتقال غير مكتمل، بما أنّ دستور 2011 لم يضع الأسس الفعلية لمملكة برلمانية طالبت بها حركة 20 فبراير.

أما الفصل الثالث الذي كان موضوعه "الربيع العربي وخصوصية الانتقال الديمقراطي والمؤسساتي في المغرب"، فيرى فيه حسن الزواوي أن دراسة الديمقراطية الخصوصية تفرض البقاء على حذر فيما يخص استهلاك الأدوات والمفاهيم والنظريات المتبلورة؛ لأن السؤال الذي يُطرح متعلق بالقيمة التجريبية لهذه الأدوات ولهذه المفاهيم ولهذه النظريات، حين يتعلق الأمر بدراسة نظام عربي إسلامي مثل النظام السياسي المغربي.

تجارب انتقالية

تطرق المحور الثاني إلى مسألة "تجارب مختلفة للانتقال الديمقراطي"، وانبنى على ثلاثة فصول. تقول أناس المشيشي في الفصل الرابع، الذي انبنى على "دراسة مقارنة لتجارب الانتقال الديمقراطي في إسبانيا وجنوب أفريقيا والمغرب"، إن التجربة المغربية في مجال الانتقال الديمقراطي راكمت مجموعة من الإصلاحات في الحقل السياسي، وساهمت في تفكيك النسق السلطوي في المغرب، كما ساهمت التراكمات التي عرفها المغرب ابتداءً من تسعينيات القرن الماضي، إضافةً إلى ثورات الربيع العربي، في تعزيز الانتظارية للانتقال إلى نظام ديمقراطي.

ويجد ناجي محمد الهتّاش في الفصل الخامس، الذي تناول مسالة "الفساد في ظل التحوّل الديمقراطي: العراق دراسة حالة"، أن مداخل الانتقال الديمقراطي يختلف بعضها عن بعض، وتقدم التجربة العراقية حالة غير مألوفة للانتقال الديمقراطي الذي تمَّ من خلال تدخل عسكري خارجي، ما جعله تحت الوصاية. وكانت سِمتُه حضور الأحزاب الإسلامية، فانتشر الفساد في السلطتين التنفيذية والتشريعية، فالديمقراطية تفسد ضمن هذا السياق المغشوش أصلًا، كما يقول.

أما الفصل السادس الذي كان تناول بالبحث "أثر ثورات الربيع العربي في المسار الديمقراطي في الجزائر"، فأكد فيه الباحث نصر الدين بن طيفور أن صورة المسار الديمقراطي في الجزائر لم تتغير بعد الربيع العربي. وعلى الرغم من الإصلاحات وتغيير قانون الأحزاب، فإن تلك الإجراءات لم تأتِ بشيء جديد ولم تقنع المواطنين بجدوى المشاركة.

مشاركة المرأة

انبنى المحور الثالث الذي كان موضوعه الأساس "الانتقال الديمقراطي: الفاعلون والرأي العام"، على فصل وحيد هو الفصل السابع، وكان عنوانه "نحو تعزيز المشاركة السياسية للمرأة في الوطن العربي: المغرب نموذجًا"، وقد اهتمت فيه الباحثة إكرام عدنني بمشاركة المرأة في الحراك السياسي، وأبرزت أن وضعيتها في المغرب لا تزال تتسم بالتمييز على مستوى الحقوق والتفاوت في درجة انخراطها السياسي، وأن مشاركتها السياسية تظل دون المأمول، على الرغم من الدور الذي اضطلعت به. ويستمر التعامل معها على نحو نفعي بوصفها ناخبة أو موضوعًا للمزايدات السياسية لا باعتبارها فاعلًا سياسيًا. والمطلوب، بحسب الباحثة، أن تعمل القوى السياسية والمدنية على تأهيل المرأة، والاهتمام بتكوينها لرفع نسب تمثيلها في الهيئات السياسية ودعمها لتتبوّأ المناصب القيادية، بوصفها موقعًا متقدمًا في المشاركة السياسية، انطلاقًا من حقيقة مفادها أن كلّ مرحلةِ انتقالٍ ديمقراطيٍ تُنتج معجمَها الخاص وأبجدياتِها القانونية والتنظيمية، كما تفرز فاعلين جددًا في الميادين السياسية والاجتماعية، وتفسح المجال لتأكيد حضور فئات اجتماعية جديّة على غرار المرأة والشباب. فالديمقراطية في مراحلها الانتقالية والتأسيسية تحتاج إلى تعزيز المشاركات السياسية الفاعلة للفئات كافة، حتى يترسخ السلوك الإيجابي، وتتجذر القيم في الواقع.

مآلات ومقاربات

تناول المحور الرابع قضية "مسارات الانتقال الديمقراطي: التحديات والمآلات"، وانقسم إلى أربعة فصول. يرى جورج جوفيه في الفصل الثامن، الذي كان التركيز فيه على "الانتقال السياسي في شمال أفريقيا"، أن الانتقال الديمقراطي عملية صعبة ومعقدة وطويلة المدى. وأن اختلاف التجارب في شمال أفريقيا أظهر بوضوح أهمية الخصوصيات التاريخية في تحديد النتائج في مثل هذه العمليات. كما أظهرت التجارب أن التشابه لا يحدد النتائج السياسية في ظروف كالتي حدثت في عام 2011، حتى وإن كانت الدوافع مشتركة، بل إن الخصوصيات التاريخية للدول والشعوب هي التي تقوم بذلك.

ويشدد لورنس ميتشالاك في الفصل التاسع، الذي جاء بعنوان "أضواء على التجربة التونسية في طور الانتقال الديمقراطي: مقاربة مقارنة"، على أن مفتاح الانتفاضة الديمقراطية في تونس، أسبابها ومسارها ومستقبلها، هو الاقتصاد. وساهم التراجع المهم لأداء الاقتصاد التونسي خلال الأعوام الأخيرة لحكم بن علي في حدوث الثورة. لكن، لم يكن الاقتصاد هو العامل الوحيد في الثورة التونسية، غير أنه لا يزال في صميم الدراما الظاهرة للعيان للسياسة التونسية. إن كيفية إدارة تونس للاقتصاد سيكون لها تأثير قوي في مدى نجاح انتقال تونس إلى الديمقراطية على المدى الطويل.

فرص وعقبات

يرى زاهي المغيربي ونجيب الحصادي، في الفصل العاشر، الذي ركز على مسألة "التحول الديمقراطي في ليبيا: تحديات ومآلات وفرص"، أن الانتقال الديمقراطي لا يسير بصورة خطّية، إنما تواجهه تحديات كبرى في مساره وفي مآلاته وفي عملياته المختلفة التي قد تصل إلى إيقافه أو الانقلاب عليه، أو إفراغه من مضامينه المدنية والتاريخية والمجتمعية. وقد أبرز الباحثان انطلاقًا من المثال الليبي ضعف مؤسسات الدولة، ووهن المؤسسة العسكرية وحداثة التجربة الحزبية وهشاشة المجتمع المدني التي أفضت إلى المأزق الحالي.

كما أوضحت أليسون بارجيتر في الفصل الحادي عشر، "عقبات أمام الانتقال الديمقراطي في ليبيا"، العواملَ التي تفسّر الصراع الذي تخوضه ليبيا من أجل الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية. فالبلاد تتميّز بعوامل اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية خاصّة بها، تتمحور حول أربع قضايا جوهرية، هي تركة عهد القذافي، وغياب الثقافة السياسية، وبروز حدود رمزية جديدة بين العوامل الداخلية والخارجية التي زادت في انتشار الاستقطاب في البلاد، وتدخّل قوى خارجية في شؤون البلاد.

نخب تركيا النافذة

وقد اقتصر المحور الخامس، الذي ركز على مسألة "الانتقال الديمقراطي: التمثلات والثقافة والقيم والمسألة الدينية"، على فصل وحيد هو الفصل الثاني عشر، "التحول الديمقراطي في تركيا والنخب النافذة"، والذي سلط فيه حاجي دوران الضوء على رواج أطروحات تُرجع تعثّر التجربة الديمقراطية إلى سلبية الميراث الثقافي الديني الذي قد يكون ساهم في تغذية الاستبداد أو دافع عنه، وربما ذلك ما يدفع بعض الخصوم إلى منع اندماج الإسلاميين في المنظومة السياسية، خصوصًا أن بعض أطياف الإسلام السياسي ناصبت الديمقراطية العداء، ولم ترَ فيها إلا فكرة غربية غازية، أو اختزلتها في أفضل الوضعيات في مفهوم الأغلبية العددية. هذا الأمر أثير مع صعود الإسلاميين إلى الحكم، في إثر ما آلت إليه الانتخابات في تونس ومصر وليبيا، كما أُثير من جديد السؤال حول دور الدين في بناء الديمقراطية. واستند دوران إلى التجربة التركية تحديدًا ليبيَّن أن نخب الأحزاب الإسلامية لا تعرف بإسلاميتها بل ببعدها المحافظ والليبرالي والديمقراطي وتطويعها للعلمانية. لذلك تستمر المعركة الثقافية في صُلب الانتقال الديمقراطي من أجل بناء المعنى، مستهدفة القضاء على كل ما يهدد الحريات وبناء اللحمة الوطنية والاجتماع المدني، وقيم الديمقراطية وترسيخها.

تجدد النخب

جاء المحور السادس في فصلين، وتناول بالبحث "المسار الانتخابي: بروز النخب وتجددها". وقد أكد بسام كراي في الفصل الثالث عشر، الذي تطرق إلى "تسوية النزاعات الانتخابية طوال المسار الانتقالي في تونس"، أن للنظام الانتخابي الأثر العميق في بناء التوافقات وإزالة آثار الموروث الاستبدادي، لهذا تحمل المرحلة الانتقالية إكراهات يمكنها عرقلة التوافق السياسي والمجتمعي. ولا تمحو الانتخابات الصراعات والتجاذبات، بل تسعى إلى تأطيرها وتهذيبها وإيجاد قنوات التفاعل وجسور التواصل في سياق الاختلاف والتباين، بل التناقض، لكن ضمن بناء التسويات وصوغ الأرضيات المشتركة، والمساهمة في هيكلة الفضاء السياسي وتسييجه مؤسسيًا وقانونيًا.

أما الفصل الرابع عشر والأخير، فكان موضوعه "’حقل‘ الانتخابات ضمن هندسة إعادة تنظيم النظام السياسي والنخبة الحاكمة في أفريقيا جنوب الصحراء"، وأقام فيه كلود آبي مقارنة بين مسارين انتخابيَين؛ السنغالي والكاميروني. فإذا كانت تجربة الكاميرون قد تميزت بالهشاشة والضعف، وأفضت إلى انفراج سياسي، من دون استثمار سياسي للمجتمع المدني لم تتجدد النخب الحاكمة بموجبه، فإن التجربة السنغالية مثلت الانتخابات فيها قاعدة تأسيسية لنظام ديمقراطي تم فيه تجديد النخب الحاكمة، وصيانة التجربة، وحمايتها من المناورات، وأدت إلى تدعيم ذاتية المجتمع المدني، وتعزيز دوره في مراقبة الانتخابات واحترام قواعدها، وحماية الإرادة الشعبية.

اقــرأ أيضًــا

 

فعاليات