صدر عن سلسلة "ترجمان" في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب تطور سوريا السياسي في ظل الانتداب، وهو ترجمة سليمان رياشي العربية لكتاب إدمون رباط بالفرنسية L’évolution politique de la Syrie sous mandat de 1920 à 1925. ويهدف إلى تبيان العمل السياسي للقوة المحتلة الفرنسية المنتدبة في سوريا، والقضايا الاجتماعية والسياسية التي طرحت نفسها، وكانت تنتظر دائمًا حلًا جذريًا لها. لذا كان من الضروري معرفة النظام الاجتماعي والسياسي الذي عاشت سوريا في ظله منذ قرون، والمحاولات التي قام بها قادة ما قبل الحرب العالمية الأولى من أجل تحديث الدعائم الهرمة لنظام الدولة العثمانية وفق التصورات الغربية؛ ذلك أن النظام الطائفي والمنظومة الإدارية العثمانية هما نتاج الماضي، ويعثّران في سوريا صنع المستقبل.
يناقش الكتاب (ستة فصول في 356 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) أيضًا التنظيمات الإدارية في لبنان الكبير، والمحاكم، والعدالة المجتزأة وأثر ذلك في الهوية والانتماء الوطني.
في الفصل الأول، "الانتداب"، يقصر رباط عرضه على تقييم مبادئ عامة متصلة بهذه الحقبة من التاريخ السوري. فبعد انهيار السلطنة العثمانية، لم تُمنح سوريا الاستقلال الذي وُعدت به مرارًا إبان الحرب الأولى. كما أن عددًا من رجال السياسة السوريين، وهم خصوم معلنون للفكر الاستعماري، تصوروا نظامًا وسطًا بين الاستقلال والحماية، يسمح لبعض الدول بممارسة سلطة مطلقة إلى حدٍ ما، على الأراضي التي كانت عثمانية. سُمي هذا النظام بالانتداب الدولي، وهو في نظر رباط ابتداع جديد في القانون الدولي.
ويقول عنه في هذا السياق: "يتضمن هذا التعبير القانوني الحديث معنى واسعًا وآخر تقنيًا. فبالمعنى الواسع، هو يعني نظام الانتداب الدولي كما جرى تحديده في المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم، وهو نص أساسي في مادته. أما في معناه الأضيق، فهو يعني النص نفسه الذي ينظم ويحدد بدقة صلاحيات وواجبات القوة المنتدبة على الإقليم الذي تمارس عليه هذا الانتداب. وهكذا عندما نتكلم على الانتداب على الأراضي المنتزعة من الدولة العثمانية، إنما نقصد إعلانَي الانتداب الممنوحين لبريطانيا العظمى على فلسطين، ولفرنسا على سوريا ولبنان في 29 أيلول/ سبتمبر 1923".
في الفصل الثاني، "أجهزة الانتداب: المفوض السامي ومندوبوه"، يتناول رباط الأجهزة المركزية، والأجهزة المناطقية والمحلية، وهي التابعة لسلطات الانتداب الفرنسي. ويرى أن إدارة الانتداب لم تفتقر لا إلى الإرادات الطيبة ولا إلى الطاقات العديدة، "لكنها أظهرت عقمها من حيث الإصلاحات المُرضية. فجزء كبير من عملها، كالبنية التنظيمية السياسية التي أُنشئت، والحواجز والاتفاقات الجمركية التي أُقرّت، قد أخفق. وهو إذا أُضيف إلى سياسة قليلة التحرر تجاه الحركة الوطنية السورية التي تَصْلُب أكثر فأكثر، فهو مسؤول عن الاستياء السياسي والكساد الاقتصادي".
ويذهب رباط إلى أنه بصرف النظر عن الظروف التي أحاطت بإقامة الانتداب، فإن السياسة الفرنسية في سوريا استوحيت دومًا من اللامبالاة الملحوظة تجاه رغبات السكان، "بَدءًا من المفوض السامي الذي، من خلال قرارات قنصلية، يبدّل ثم يلغي ليعيد البناء ثم ليلغي من جديد، ولا يستشير سوى تفضيلاته وأحكامه المسبقة، أو تفضيلات وأحكام معاونيه الفرنسيين، حتى مستوى مستشار القضاء الذي يدير ويشرّع وفق رغباته، كما أن كافة مستويات الإدارة الانتدابية مشوبة بعقلية الوصاية المطلقة تجاه السكان الموصومين بعدم الكفاءة وبكونهم في مرتبة أدنى".
في الفصل الثالث، "استيلاد الدول"، يقول رباط إنه منذ بدء السيطرة الفرنسية، هناك قضية أشغلت العقول وألهبت الرأي العام، طرحت نفسها على المنظمين الجدد: هل كان لسوريا أن تشكل دولة واحدة أم دولًا عدة؟ إنه سؤال نظري، لم يتوقعه النص الوحيد حينئذٍ، المادة 22 من الميثاق، ولا وَجَدَ له حلًا، كان الأمر يتعلق بالشكل الذي يعطى للإدارات المحلية، وللصِلات التي يجب أن تقوم في ما بينها، وبالسلطة الوطنية العليا، هل هي واحدة أم متعددة، بسيطة أم مركبة، المؤسسات مشتركة أم خصوصية حصرًا؛ باختصار قضية معرفة إن كانت سوريا التاريخية والجغرافية يجب أن تشكل دولة واحدة أم دولًا عدة مستقلة ومنفصلة.
يضيف: "في سوريا هذه، التي عملت على تقليصها الاتفاقات الفرنسية - البريطانية والفرنسية - التركية إلى ما بين الليطاني جنوبًا وريف حلب شمالًا، بادرت القوة المنتَدَبة فور سقوط الملك فيصل إلى خلق أربعة كيانات جديدة، وهي دول دمشق وحلب وجبل العلويين ولبنان الكبير. ولم يمر عام من دون أن ينبثق أو يختفي تشكيل ما. في السنوات التالية، سوف نشهد دوريًا انبثاق دولة الدروز، الاستقلال الذاتي لسنجق الإسكندرون وأنطاكية، الاتحاد الفدرالي السوري، الدولة الموحدة في سوريا".
في الفصل الرابع، "المظهر العام للتنظيم الإداري"، يقول رباط إن بعد انفصال سوريا عن الدولة العثمانية وتقسيمها إلى دول مستقلة، كان يجب تزويدها بجهاز تنفيذي رفيع، لم يكن موجودًا حتى تلك اللحظة؛ رؤساء دول ووزراء في أمكنة عديدة يحلون محل السلطة العثمانية، في بلد جرى تقطيع أوصاله. إن طريقة تسميتهم، وصلاحياتهم، والقيمة المعطاة لأعمالهم، تُبرز سمات مشتركة وذات مغزى.
ويرى رباط أنّ على رأس كلٍ من تلك الدول رئيسًا يحمل تسميات مختلفة باختلاف المناطق، "فهناك رئيس دولة سوريا الذي يحل محل الحاكمَين السابقَين لدولتي دمشق وحلب. وموظف فرنسي رفيع يسمى الحاكم، يدير قبل العام 1926 لبنان الكبير. في الدولة العلوية أيضًا موظف فرنسي كان سابقًا مديرًا - موفدًا، أصبح هو الحاكم. في جبل الدروز، كان هناك عسكري فرنسي يقوم بوظائف الحاكم في عام 1925. وفي الإسكندرون متصرف محلي لديه صلاحيات حاكم من دون أن يحمل اللقب".
يضيف رباط: "إن النظام القضائي الذي وضعه الانتداب ينتمي إلى نمط الإدارة المباشرة، لا أكثر ولا أقل. ففي الظاهر، ليس المنتَدَب هو الذي يحكم والبلد الخاضع للانتداب هو الذي ينفذ، بل إنهم موظفو الانتداب الذين يتدخلون لإدارة عدالتهم، وفق تصورهم، وهم يتصرفون نظريًا بالتعاون مع مساعديهم السوريين، وعمليًا بفضل صلاحياتهم وحدهم ومن دون مساعدة".
في الفصل الخامس، "الحريات العامة والعمل الإداري"، يتناول رباط حرية المعتقد والعبادات، وحرية الرأي (التجمع والصحافة، وحرية تشكيل الجمعيات)، وحرية العمل، في سوريا تحت الانتداب الفرنسي. طوال القرن التاسع عشر، أزهرت القوانين والإعلانات فأكدت على الملأ المساواة أمام القانون وأقرّتها لرعايا الإمبراطورية كافة، كما أقرّت الحريات الأساسية للأفراد.
يكتب رباط: "صحيح أن القانون، في التطبيق، بقي غالبًا نصًا ميتًا، واستمر في بعض المقاطعات تطبيق أساليب الحكم البائدة، أو بما يناقض النصوص. حتى أنه كانت تطبق تجاه بعض فئات السكان في سوريا، رغمًا عن حرية الضمير المعلقة والموعودة، سياسة اضطهاد منهجي وأسلمة قسرية. ونحن هنا لا نلمح إلى النظام الذي كان يخضع له المسيحيون، نظام الحرية المطلقة في المعتقد والدين، والذي كفلته الحماية المصلحية للقوى العظمى، من خلال براءات السلطان والقانون الإسلامي العادل والمتسامح. إنما نشير إلى حرية المعتقد وممارسة العبادة التي مُنعتْ على الفرق المستضعفة في الجبال والتي لا ناصر لها، كالعلويين والإسماعيليين والأيزيديين. فمن طريق السلطة والقوة كان يُفرض عليهم الإسلام السُني برجاله ومساجده وقانونه، وهم لم يكونوا يريدونه. هنا، على الأقل، فإن الحرية بمعناها الأكثر تقبلًا، وبمعناها العملي، أي حرية الاعتقاد، كانت غائبة".
في المقابل، كان هناك في باقي أنحاء سوريا حرية دينية كاملة، وكذلك جملة من الحقوق الأساسية يقرها الدستور، وتنظمها قوانين خاصة. ولم يكن للانتداب أن يقوم بمهمة تمدينية على هذا الصعيد، فقد كانت القوانين موجودة، وكان المطلوب ضمان احترامها المطلق والنزيه.
في الفصل السادس والأخير، "نظام القبائل البدوية"، يلفت رباط إلى أن سيئات البدو "يجب ألا تحجب أبدًا أهمية دورهم في الاقتصاد والسياسة السوريين. فلنتذكر فقط أن المصدر الرئيس للإنتاج الوطني وتربية المواشي ومشتقاتها، يتركز في أيديهم".
يضيف رباط: "هناك فضلٌ آخر لحضور بربريتهم الطبيعية التي جنبت سوريا كارثة. فمقاومتهم العنيدة للتداول بالعملة الورقية في ما بينهم، تلك التي أدخلها الجنرال غورو إلى البلاد والتي كلفت الساحل السوري الذي قبِلها خسائر مالية هائلة إبان كارثة هبوط الفرنك الفرنسي في عام 1926، جنّبت الداخل السوري مشكلات كبيرة".
بحسب رباط، فضلًا عن القوة العسكرية التي يمثلها البدو بالنسبة إلى السلطة القائمة والقادرة على استخدامهم، فإنهم هم من عرَبَ سوريا ببطء وبلا ألم. عملهم المتقن هذا بدأ قبل الإسلام بقرون عدة، ويسّر للعرب حيازة البلاد، كما يسّر التحول الإثني والوطني للسوريين.
إن تفحّص الظروف التاريخية والجغرافية والسوسيولوجية التي عاش البدو في ظلها ولا يزالون، يسمح لرباط بإبداء ملاحظة مهمة: "إن الانحلال التدريجي للترحل حتى اختفائه يماثل في الواقع قِدم القبائل. ونحن لا نتكلم هنا إلا عن مجموعات كانت مترحلة، وهي اليوم مستقرة، ولا تزال تحافظ على شكلها القبلي. فالتاريخ والتقاليد لا يضعان موضع شك وجود قبائل عربية عديدة في الماضي وفدت قبل الإسلام، أو بعده بكثير، ولا نجد شيئًا من بقاياها في عصرنا. وهي عندما ذابت في الكتلة السورية - العربية، اختفى تنظيمها السابق تمامًا. لكن اليوم أيضًا، وفي بعض الأوساط (لبنان، جبل الدروز، دمشق، حلب وسواها) فإن تقاليد عائلية تحفظ حية دومًا ذاكرة الحياة الغابرة في الصحراء".