في كتابه دولة الخلافة: التقدم إلى الماضي ("داعش" والمجتمع المحلي في العراق)، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (464 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا)، ينطلق الباحث العراقي فالح عبد الجبار من تحليل الدولة "العراقية" الفاشلة وتيار دولة الخلافة، بتوصيفه مُفتَتَحًا لتركيز البحث على تحليل المجتمع المحلِّي العراقي في تمثُّلاته لصورته الذاتية ومحنته، وتحوُّلات هذه التَّمثُّلات قبل صعود داعش وبعده، والتفاعلات بين المجتمع المحلي وأجهزة دولة الخلافة، من المحاكم الشرعية إلى أجهزة الحسبة وديوان بيت المال، وهي الأجهزة الأكثر تَمَاسًا بالحياة اليومية.
في الكتاب مقدمة وعشرة فصول وخاتمة. تُعرّف المقدمة بمشروع دراسة مِخيال المجتمع المحلِّي تحت سيطرة داعش في العراق تحديدًا، وتنقد التصوُّرات عن المجتمع المحلِّي بتوصيفه حاضنة لهذا التنظيم، فهذا التصور مغلوط بتوصيفه مفهومًا يشخِّص الواقع الفعلي في المجتمعات المحلية، ومغلوط بسبب تجزئته في تحليل الظاهرة. يقول عبد الجبار إن داعش ليست نتاج قبول المجتمع المحلِّي، لكنها تُحال إلى إخفاق الدولة في بناء مجتمع تعددي وفي قبولها الفعلي - المؤسساتي بالتعدد، وإلى وجود تيار اجتماعي يحمل أيديولوجيا الخلافة في المجتمعات العربية الإسلامية - ومنها العراق - منذ أمد بعيد.
في الفصل الأول، الدولة الفاشلة- اختلال بناء الأمة وتعدد الهويات والنزاع، يرى المؤلف أن الدولة الفاشلة في العراق هي أساس نمو الحركات التكفيرية واستشرائها، فلولاها لبقي التيار التكفيري محض تيار اجتماعي صغير، محافظ، ومبغوض، محذرًا من الخلط بين صعود الإسلام السياسي عمومًا، وهيمنة التيار التكفيري عسكريًا وسياسيًا على العراق. يكتب: "يتوقف تشكيل الأمة في دولة في حالات المجتمعات غير المتجانسة - والعراق واحد منها بلا ريب - على انفتاح الفضاء السياسي والاقتصادي والثقافي على أوسع مشاركة ممكنة. وغياب هذا الفضاء المفتوح محنة كبرى، بل معضلة كبرى. ولا يهم إن كان اضطراب الدولة - الأمة ناشئًا عن انقسام إثني، أو انشطار ديني/مذهبي، أو انقسامات قَبَلية أو جهوية، أو بعض هذه الانقسامات أو كلها، فالنتيجة واحدة، توليد كائن مُشوَّه اسمه: الدولة الفاشلة".
في الفصل الثاني، الخلافة والأيديولوجيا: التاريخ اللاتاريخي، يفصل عبد الجبار تحول التيار التكفيري إلى التطبيق الفوري لشعار "الخلافة الآن". فالخلافة في الفكر الإسلامي المعاصر رمز تاريخ تليد مَضِيع، "ويوتوبيا بناء تاريخ مجيد مقبل. إنها الماضي والمستقبل في اتحاد مكين. علة طلب الخلافة هي استعادة الدولة، واستعادة الدولة شرط أساس لاستعادة الإسلام نفسه. من هنا تلازُم فكرة الخلافة وفكرة الدولة، وتلازُم فكرة الدولة ومطلب الأسلمة. لكن التنفيذ الآني لم يكن وليد الفكرة القديمة فحسب، بل كان نتاج مسار السَّلَفية العراقية نفسها، نتاج الدخول العام للكادر العسكري – التكنوقراطي من الحقبة البعثية الذي وجد في هذه الفكرة ملاذًا ومُنقذًا من الضلال، والأهم: من الانحسار والنسيان.
يحلل عبد الجبار في الفصل الثالث، الأيديولوجيا والرموز، أيديولوجيا الدولة الإسلامية، وسبب إحيائها خلافة بقيت مضمرة فترات طويلة. يكتب أن ما يميز فكر الدولة الإسلامية بمراحلها المختلفة هو خلو مقولاتها ومصادرها الفكرية من مفهوم الجاهلية، وحلول مفهوم جديد هو التوحش، أو فقه الدماء"، في تقعيد فقهي لإجازة قتل المشركين وقتل المسلمين عَرَضًا ممن لا يجوز قتلهم، وقتل النفس التي يُحرَّم قتلها (العمليات الانتحارية)، انطلاقًا من مقولة إن الأنظمة السياسية الحديثة هي في حدِّ الكفر والردَّة، وهي من ثم دار حرب. ودار الحرب تستوجب الجهاد. وفقه الدماء اسم آخر لكتاب مسائل من الفقه الجهادي، لمؤلفه أبي عبد الله المهاجر، شكل مع كتاب إدارة التوحش لمؤلفه أبي بكر ناجي المرجعين الأساسيين لأيديولوجيا داعش في العراق. ويعرض المؤلف أيضًا للرموز التي استخدمها التنظيم: الرايات السود والطرة الفضية والعمائم والبزات السوداء الموحدة والشعارات والأناشيد.
في الفصل الرابع، مخيال المجتمع المحلي (قبل وبعد( - الصورة الذاتية وتقلّبات المخيال، يواصل عبد الجبار دراسة الرموز وعلاقتها بالأيديولوجيا التكفيرية، محللًا مخيال المجتمع المحلِّي السُّني قبل غزو الدولة الإسلامية المدن السنِّية الكبرى وبعده. وتتبدى في هذا الحقل الصورة الذاتية لهذا المجتمع، وتقلُّبات مخياله على امتداد عقدين يمكن تسميتهما فترة الانقلاب في الرؤى. وبرأيه، مهَّد التقارب الانتقامي بين البعث والتكفيريين لبناء هوية طائفية سنِّية محارِبة، تُعطِّل المسعى السياسي لباقي القوى السُّنِّية، كما تُمهِّد لتنامي الآمال بظهور مُخلِّص جديد بعد تنامي الأزمات. وذلك بعدما دار مِخيال الجماعات المحلِّية في المجتمع السُّنِّي في منتصف عام 2015 في فَلَك عدمي يتَّسم برفض كل شيء: رفض داعش، ورفض الدولة الشيعية، ورفض الحشد الشعبي الشيعي، ورفض السياسيين السُّنَّة في المركز، ورفض السياسيين السُّنَّة في المحافظات، ورفض الأحزاب السُّنِّية، ورفض الشيوخ، ورفض رجال الدين.
في الفصل الخامس، البحث عن مُخَلِّص؟، يتناول عبد الجبار مخيال المجتمع المحلِّي إزاء الدولة الفاشلة، أو دولة اللادولة، منذ عام 2012 الذي يُعَد عام تحوُّل ونكوص. فالدولة الإسلامية اغتنمت ما اعتبرته الفرصة الكبرى للعودة إلى الساحة العراقية من خلال الاعتصامات التي كانت على أشدِّها، والغضب عاصف، واتجاه أمزجة القادة والشباب السياسية إلى التحدِّي فالعنف. وعملت على الإفادة من الغضب المحلي لتحقيق مكاسب التجنيد وإطلاق الوعود بعدم السير في طريق الدماء التي اقترن انتشارها بحملة دعائية طائفية سافرة في التحامل على الشيعة، وإعلاء شأن الهوية السنِّية. لكن المجتمع المحلِّي كان يبحث عن خلاص وليس عن مخلِّص.
في الفصل السادس، مستعمرة العقاب - الحياة اليومية في مجتمع "الخلافة"، يعتمد المؤلف اعتمادًا كبيرًا على تلخيص مكثف لمقابلات مباشرة أو تلفونية، فردية وجماعية، وشهادات صوتية أو مدوّنة، عن الحياة اليومية من أناس يؤيدون الدولة الإسلامية جزئيًا، وآخرين يرفضونها، أو يخشونها، وكانوا يأملون الفكاك من الدولة الاتحادية، لا لشيء إلا ليقعوا في حمى دولة جزافية. فهؤلاء يتكلمون على القضاء والحسبة والمحرّمات الصغرى والكبرى وحكايات المدخنين والتدخين بعد تحريمه والحركات الصحيحة للصلاة وفرض الحجاب والنقاب والموقف من "الستلايت"، إلى جانب روايات لما حصل في تلعفر في أثناء سيطرة داعش عليها وبعدها، وعدد المفقودين والقتلى والسبي والتجارة والعملة.
في الفصل السابع، الخلافة الريعية والمجتمع المحلِّي - المال المقدَّس والمال المدنَّس، يجد عبد الجبار أن دولة الخلافة دولة ريعية ريعها من النفط تحديدًا، ودولة مخصَّصات، فهي مُهرِّب للنفط، ومتَلَقٍّ لأعطيات ومعونات من منابع خارجية، حكومية وخاصة. وهو يلفت إلى وضع فريد: "دولة لا تدفع إيجارات للمباني التي تشغلها، أو لمساكن محاربيها، فهذه عقارات مصادرة من الدولة الرسمية، أو من الهاربين، أو المهاجرين خوفًا. وهي لا تدفع لشراء وسائط نقلها من سيارات دفع رباعي، إلى شاحنات ...إلخ. وهي لا تدفع قرشًا لشراء الوقود الذي تستهلكه، ولا تدفع لشراء معداتها العسكرية وذخائرها المغتَنَمة من الجيش الرسمي، وهي لا تدفع لقاء المواد الغذائية المقتطَعة عينيًا في صورة ضرائب على المزارعين وأصحاب المواشي إلا بحدود ضيقة تمامًا، فض عن ذلك، لا تتحمل عبء رواتب موظفي الخدمة المدنية ممن بقوا في الإدارات الرسمية في مناطق سيطرتها، فالدولة الرسمية الغريمة تتكفل بذلك. ها نحن إزاء دولة ليس لها من أعباء الميزانية التشغيلية إلا النزر اليسير، وليس لها أي عبء من ميزانية استثمارية إطلاقًا".
في الفصل الثامن، مصائر رجال أعمال الطبقات الوسطى، يبحث عبد الجبار في أوضاع رجال الأعمال بفئاتهم المختلفة في مناطق سيطرة داعش، قبل هذه السيطرة وبعدها. يقول إن أغلب رجال الأعمال من المقاولين والصناعيين التجار هجروا شركاتهم، سواء أكانوا محايدين أم متعاطفين أم معادين لداعش في صلاح الدين والأنبار، بينما بقيت مجموعة صغيرة جدًا من المقاولين والتجار في الموصل. وأغلب الهاربين هم من المتعاونين مع الحكومات المحلية، أو ممن تعرَّضوا قبل دخول داعش للابتزاز أو أخذ الإتاوات، والخطف أحيانًا، "أما الآخرون فيرون أن فرص العمل في قطاعات البناء والاستثمار ستكون معدومة في المناطق الواقعة تحت سيطرة الدولة الإسلامية، ففضلوا الانتقال إلى مدن مجاورة (أربيل والسليمانية ودهوك)، أو إلى دول مجاورة، ليلحقوا بالذين سبقوهم إلى بزنس المهجر (الأردن والإمارات ومصر)".
في الفصل التاسع، شيوخ وعشائر - دولة الخلافة والمجتمع التقليدي، يقول المؤلف إن التصادم التصادم بين نثار الشبكات القبَلية والدولة الإسلامية في العراق انتج حركة الصحوات المضادة للسلفية التكفيرية، وهو تصادم المجتمع المحلي مع هذه الدويلة. فالشبكات القبَلية تعكس مصالح المجتمع المحلي وثقافته، وهي مصالح دنيوية، سياسية واقتصادية واجتماعية، وقيم ثقافية تقف في تضاد صارخ أحيانًا مع المنظومة الأيديولوجية للتكفيري. فالقبلي يعيش على العرف، والتكفيري يهيش على التفسير المتزمت للشريعة. والفجوة بينهما كبيرة.
أما في الفصل العاشر والأخير، الولاء والاستتابة وإعادة التثقيف، فيورد المؤلف شهادات أخرى تروي كيف صار التوجه إلى الشباب مادةً للتربية الجديدة والتجنيد، والتعليمات الداعشية بخصوص وسائل الاتصال، ومشكلة الإباحية والتسجيلات الغنائية والخوف والتلقين الجديد في المدارس والرقابة المشددة في مدارس البنات.
وفي خاتمة الكتاب عرض مكثف لتحولات المخيال المحلي في إطار الحرب الدولية على الإرهاب التي استجرَّت إلى الصراع على أرض العراق قوة دولية عظمى هي الولايات المتحدة؛ وقوة إقليمية كبرى هي إيران؛ وقوة إقليمية أخرى هي تركيا. فعلى الرغم من أن الحرب على الإرهاب اجتذبت قوًى كبرى: روسيا ومؤخرًا فرنسا، بعد الهجمات التي هزت باريس في صيف عام 2015 ، فإن هذه القوى لم تندرج بعد في مخيال المجتمع المحلي، على الرغم مما قد تكتسبه من أهمية في مجمل الصراع الدائر.