التجارة الموازية والتهريب في الفضاء الحدودي التونسي - الليبي (1988-2012)

تشخيص وآفاق في ظل عولمة متخفية
03 مارس،2019
المؤلفون
الكلمات المفتاحية

في كتابه التجارة الموازية والتهريب في الفضاء الحدودي التونسي - الليبي (1988-2012): تشخيص وآفاق في ظل عولمة متخفية، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يسعى كمال العروسي جادًا في تشخيص ظاهرة الاقتصاد الموازي وروافده المحليّة والوطنيّة والخارجيّة بالفضاء الحدودي التونسي الليبي وتأثيراته على الاقتصاد الرسمي والمجتمع في ظلّ عولمة متخفّية.

يهدف هذا العمل إلى استشراف آفاق تطوّر هذه الظاهرة وإمكانيّة تطويعها ضمن أفق اندماج مغاربي يحصّن المناطق الحدودية التي اكتسحتها العولمة المتخفية، ويحوّلها من مجرّد بوابات لإغراق أسواقها بسلع منتَجة في الدول الآسيوية إلى نوى أولى لبناء اقتصاد مغاربي موحّد. يتمّ ذلك من خلال إنشاء منطقة تبادل حرّ أطلق المؤلّف عليها اسم "المنطقة المغاربية الحرة للتصنيع والتبادل التجاري" في ذات المجال الحدودي الذي يحرص على إدماج الناشطين في المجال الموازي حاليًا (من صيارفة وتجار جملة وناقلين) حتى يتمكنوا من ممارسة دور محوري وبنّاء في تسيير عمليات الأدفاق السلعيّة والمالية التي تمرّ عبر المنطقة المغاربية الحرة، تحت إشراف المؤسسات الديوانية وأجهزة الدولة الأخرى (أمنية وصحية واقتصادية).

يتألّف الكتاب (368 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من ثلاثة أقسام، فيها تسعة فصول، بعد مقدمة يستعرض فيها العروسي الإطار والحيثيّات التاريخيّة التي يتنزّل فيها هذا العمل ويتطرّق فيها إلى عدد من الدراسات التي اهتمّت بالموضوع.

مسائل نظرية

في القسم الأوّل، مسائل نظرية - التعريفات والمنهجية المتبعة، ثلاثة فصول. يتناول العروسي في الفصل الأول، مسائل نظرية، جملة من المسائل النظرية التي تحيط بموضوع الكتاب، بينها مسائل الرأسمالية والعولمة، دينامية المجال الحدودي في عصر العولمة والحوكمة كمفهوم وتطبيقات. يبيّن الكاتب من خلال هذا المدخل النظري كيف ساهم بروز العولمة - كفصل من فصول تطوّر الرأسماليّة العالميّة وهيمنتها على العالم بعد سقوط جدار برلين في عام 1989- في ظهور الاقتصاديات الموازية بدول الجنوب في ظلّ عولمة متخفّية تجاوزت بها الأطر الرسميّة التقليديّة في الإنتاج والتسويق عبر شبكات موازية. في هذا السياق، يصبح من الضروري الخوض في مسائل تهمّ مفهوم الحدود والحوكمة في خضمّ هذه الديناميّة الجديدة والتحوّلات الجيوستراتيجيّة العالميّة.

في الفصل الثاني، التعريفات والمنهجية، يقدّم العروسي المنهجيّة المتّبعة في عمليّة التشخيص لظاهرة الاقتصاد الموازي وعرض خصائص التعريفات المتداولة لما هو رسمي أو غير رسمي أو موازي أو مهمّش، مع محاولة إعادة صياغتها وفق الواقع الجديد، مع تعريف التهريب وأنواعه وتصنيفاته القانونية.

في الفصل الثالث، الخلفية العالمية، يواصل العروسي التمشّي نفسه بإظهار الخلفيّة العالميّة وتفكيك مكوّناتها و"ميكانيزماتها" من خلال إبراز الدور الذي تلعبه الصين - بالاتفاق مع الولايات المتحدة الأميركية - كورشة كبرى لـ "العولمة المتخفية"، وكشف الرّهانات الجيوستراتيجية للدول الكبرى في المنطقة والإقليم.

خلفية تاريخية

في القسم الثاني، الخلفية التاريخية للفضاء الحدودي التونسي – الليبي وظاهرة التهريب، ثلاثة فصول أيضًا، يستعرض الكاتب فيها الخلفية التاريخية للفضاء الحدودي التونسي – الليبي ونشأة ظاهرة التهريب، ويعرّج على الأهمية الجيوستراتيجية لهذا المجال الذي لم يصبح فضاءً حدوديًا إلا مع الاحتلال العسكري الفرنسي للجنوب التونسي في أواخر القرن التاسع عشر. يبيّن الكاتب في الفصل الرابع، من فضاء حدودي إلى فضاء للتهريب، تحوّل هذا المجال من منطقة عبور وتبادل تجاري استراتيجية عبر التاريخ إلى فضاء حدودي موسوم بظاهرة التهريب، مع التعريج على تطوّر مفهوم الحدود عبر تاريخ المنطقة من الثغر أو النطاق إلى الترسيم الخطّي.

في الفصل الخامس، ميلاد الفضاء الحدودي التونسي – الليبي وأهمّ الحوادث التي شهدها من الفترة الاستعمارية حتى الثورة التونسية، يتناول العروسي ميلاد الفضاء الحدودي التونسي-الليبي أوائل القرن العشرين بالدرس، ويستعرض أهمّ الحوادث التي شهدها من الفترة الاستعمارية حتى الثورة التونسية (1881-2011)، مشيرًا إلى التحوّلات الجذرية التي شهدتها المنطقة تحت إدارة الاحتلال العسكري الفرنسي، وانعكاساتها على المنظومات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمجتمع القبلي (البدوي والجبالي) وتجارة القوافل بهذه التّخوم. كما يبيّن استفحال الفرز الجهوي للتنمية وانخرام العدالة الاجتماعية منذ الاستقلال (1956) إلى حين قيام الثورة التونسيّة (2011)، لينتهي بتقديم أهمّ الأحداث التي شهدها الفضاء الحدودي التونسي - الليبي منذ استقلال البلاد وإنشاء الدولة الوطنيّة.

في الفصل السادس، السياق التاريخي لظاهرة التهريب بالفضاء الحدودي التونسي – الليبي من مقاومة المستعمر إلى "العولمة المتخفية"، يعرض المؤلّف السياق التاريخي لظاهرة التهريب بالفضاء الحدودي التونسي-الليبي من مقاومة المستعمر إلى ما سمّاه بــ "العولمة المتخفية"؛ إذ يتدرّج في تناوله مراحل نشأة ظاهرة التهريب الحدودي التي اقترنت سياقاتها الأولى بالمقاومة المسلّحة ضد المستعمر، انتهاءً بالتهريب الحدودي كحلقة من حلقات الاقتصاد الموازي في ظلّ "العولمة المتخفية". وابتداءً من هذا الفصل، يعرض العروسي جملة من المعطيات الكمّية والنوعيّة المتعلّقة بنشاط التهريب في المنطقة من خلال الإحصاءات الرسميّة وما أفرزته سلسلة من دراسات ميدانيّة وتقصّ مباشر بنقاط الحدود والأسواق الموازية (معروفة باسم سوق ليبيا) قام بها في سنوات 1992 و2006 ثمّ 2012، لينتقل في الفصول الموالية إلى الجوانب المتعلّقة بنشاط التجارة الموازية. فجاءت نتائج هذه الدراسات مفصّلة في 54 جدولًا و10 أشكال و24 خريطة و53 صورة.

أدفاق بشرية

في القسم الثالث، التجارة الموازية في الفضاء الحدودي التونسي-الليبي، يعرّج الكاتب على العوامل والمعطيات الموضوعية في العالم وفي تونس، التي وفّرت للتجارة الموازية البيئة الملائمة للتبلور والانتشار، ويعني بذلك ظاهرتي الاقتصاد غير الرسمي والعولمة المتخفّية اللتين تمثّلان تعبيران لصيقان لمنظومة الانتاج الرأسمالي، تتبلور الأولى في مستوى الاقتصاديّات الوطنيّة بينما تتشكّل الثانية في مستوى الاقتصاد عبر-الوطني المعولم بوجهيه الرسمي والموازي. وفي الحالتين، يبقى الهدف المشترك مضاعفة الأرباح إن من خلال الضغط على الكلفة أو عبر عمليّة الترحال والانتجاع التي يمارسها رأس المال والمؤسسات العالمية الكبرى على مستوى العالم، بإنشاء مناطق حرّة في العالم (مناطق اقتصادية ذات كلفة إنتاج متدنية وجباية منخفضة) وفتح أسواق جديدة لمنتوجاتها بصنفيها: الرفيع للسوق الرسمية، والمتدنّي للسوق الموازية، وذلك في عموم القارات. في هذا القسم ثلاثة فصول أخيرة.

في الفصل السابع، الأدفاق البشرية والتجارية عبر الحدود التونسية - الليبية، يستعرض المؤلّف بشكل مفصّل حجم الأدفاق البشرية والتجارية عبر الحدود التونسية - الليبية منذ بروز ظاهرة التجارة الموازية (1988) في هذا الفضاء مع مواكبة تطوّرها على مدى عقدين. يبيّن العروسي مدى تأثير العوامل المتعلّقة بالقرارات الدوليّة (مثل العقوبات الدولية على ليبيا بسبب قضية لوكربي في عام 1992، أو بعض الإجراءات الإداريّة التي تتّخذها من حين للآخر إحدى الدولتين) على نسق الأدفاق البشرية العابرة للحدود (بين عامي 1988 و2012)، انتهاءً بتأثير الثورتين التونسية والليبية على حركة المعابر. كما يبيّن تطوّر حجم المبادلات التجارية الرسميّة بين البلدين ودول اتحاد المغرب العربي عموما والتي بقيت ضعيفة مقارنة بحجم المبادلات مع دول الاتحاد الأوروبي وباقي دول العالم.

رصد وآثار

في الفصل الثامن، رصد حركة التجارة الموازية في الفضاء الحدودي التونسي – الليبي (المهن والشبكات)، يشدّد الكاتب على جملة من العوامل الخارجيّة والداخليّة التي كانت وراء بروز الحركية التجارية الموازية بين تونس وليبيا والتي وجدت في الثقافة المحلية لسكان المناطق الحدودية التي من سماتها روابط العشيرة وما دونها، ومنظوماتهم الإنتاجية التقليدية من قبيل الرعي والترحال وتجارة القوافل والتهريب، وتاريخ المنطقة الحافل بالحركية البشرية الناتجة عن الهجرات إلى الدول المجاورة طلبًا للرزق أو اللجوء جراء الثورات على الدولة المركزية، البيئة الملائمة لاحتضان هذه الحركيّة وديمومتها. ومن العوامل الخارجيّة المؤسّسة لظاهرة التجارة الموازية التحوّلات البنيوية العميقة التي شهدها الاقتصاد العالمي وما تنسجه العولمة من شبكات عبر - وطنية، ترابطت في ما بينها بشكل جرّد الحدود من ثقلها السياسي المتعارف عليه بين الدول. كما كانت سياسة الدولة زمن حكم بن علي من أهمّ العوامل الداخليّة المساعدة في ظهور هذه الحركيّة حيث تحوّل الفضاء الحدودي التونسي - الليبي إلى مجال تتقاطع فيه مصلحة الدولة مع مصلحة الشبكات الناظمة له، حيث تصبح الدولة شريكًا موضوعيًا مع التاجر الموازي والمهرّب والصرّاف (الصيرفي الموازي) في إدارة المجال، ساعية كأي متدخّل في ذلك النشاط إلى حفظ مصالحها، لكن من دون المساس بالمصالح الحيوية لباقي المتدخلين. ويهتمّ العروسي في باقي أجزاء هذا الفصل بجرد المهن الموازية التي يرتكز عليها هذا النشاط ويستعرض أهمّ نتائج بحوثه واستبياناته الميدانيّة التي اهتمّت بتحديد سمات الشرائح الاجتماعيّة العاملة بالمجال وتقدير أحجامها وانتشارها الجغرافي مع تحديد مهامها ضمن الشبكات الناظمة لهذه الحركيّة. كما يستعرض أهمّ الطرائق المعتمدة لدى الشبكات الناظمة لهذه الحركية التجارية في الفضاء الحدودي التونسي - الليبي كطريقة "البرنامج" وطريقة "الكرّاية" وطريقة "صغار التجّار"، مفصّلا فيه مختلف مسارات التزويد والتزوّد الداخليّة والخارجيّة لهذه الأسواق.

يهتمّ الكاتب في الفصل التاسع والأخير، الآثار الاقتصادية للتجارة الموازية، بإبراز الآثار الاقتصادية والاجتماعيّة للتجارة الموازية مبيّنًا أثر التجارة الموازية والتهريب في القطاع الفلاحي وانعكاساتها عمومًا على الاقتصاد التونسي (سلبًا وإيجابًا)، إذ بلغ رقم المعاملات السنوي للتجارة الموازية بالفضاء الحدودي التونسي الليبي في عام 2012 ما يفوق 1.6 مليار دينار، بعدما كان في حدود 0.5 مليار دينار في عامي 1992 و2006. كما بلغت نسبة التوريد الموازي من إجمالي التوريد الفعلي في عام 2012 ما يفوق 77 في المئة بعدما كانت في حدود 36 في المئة في عام 2006. ويشير العروسي إلى تحوّل الفضاء الحدودي في الجنوب الشرقي على مدى أكثر من عقدين إلى ما يشبه المنطقة الاقتصادية الموازية، توطّدت فيها عرى شبكات محليّة وأخرى إقليميّة وعالميّة حدّدت معالم منطقة موازية للتبادل التجاري عبر - وطني، أصبحت مقصدًا لكثير من الروّاد، بغية العمل أو التسوّق العائلي أو التزوّد بالسلع التجارية أو الهجرة غير الشرعية أو غيرها.

آفاق المعالجة

يركّز المؤلّف في خاتمة الكتاب على آفاق معالجة ظاهرة التجارة الموازية ضمن أفق اندماج مغاربي يكون مدروسًا بحكمة وبُعد نظر، يتأسس أوّلًا على تشخيص علمي لإمكانات هذه البلدان ونقائصها في خضمّ التحوّلات العالمية وتحديات التنمية والتشغيل والتأسيس الديمقراطي الناشئ في بعض منها، آملا في أن يكون لنتائج هذا العمل نفع لتلك المجالات المهمّشة، وأنموذج يُحتذى به لاستنساخ ما يصلح من مقارباته على سائر المناطق الحدودية بين دول المغرب العربي الكبير، وملخّصًا السيناريو الاستشرافي الذي يقترحه في تحصين المناطق الحدودية التي اكتسحتها العولمة المتخفية، من خلال إنشاء المنطقة المغاربية الحرة للتصنيع والتبادل التجاري للحدّ من الاختراقات التي يتعرّض لها المجال الحدودي المستهدف من عولمة جارفة يمكن أن تتلاعب بمصير المنطقة ومستقبل أجيالها؛ إذ يمكن أن تشغلهم أدفاقها المادية المتراكمة عن التفكير في الملحقات الرمزية للعولمة ومخطّطاتها الجيوسياسية واستراتيجياتها الكامنة وعن صدّ أضرارها ما أمكن. ويعرج على دينامية المجال الحدودي، حيث تتشابك جملة من الاستراتيجيات المحلية والوطنية، وأخرى معولمة، في ظلّ تنافس شديد على المنطقة المغاربية بين قوى تقليدية مهيمنة (فرنسا وإيطاليا خصوصًا، وأوروبا عمومًا)، وأخرى وافدة (الولايات المتحدة الأميركية)، وثالثة صاعدة (الصين واليابان). ولا تزال تلك الاستراتيجيات في طور التبلور، وإن بدا بعضها ظاهرًا، فمعظمها خفي يتطلّب جهدًا استقصائيًا وتحليليًا لرسم شيء من ملامحه.

أخيرًا يطرح الكاتب فكرة الانطلاق من التعريفات التي توصّلت إليها الدراسة لتعريف المصطلحات والمفاهيم المتداولة في الموضوع من قبيل "الاقتصاد غير الرسمي" و"الاقتصاد الموازي" و"التجارة الموازية"، موازاة مع طرح فكرة إنجاز برنامج مديري وتنفيذي يهتمّ بالنهوض بالمناطق الحدودية وإشراك الشرائح المعنية بالموضوع في مخطّط تنمية يشمل إدماج الشرائح المحلية العاملة في هذه المناطق ضمن الدينامية المستحدثة، وتطوير أجهزة الدولة وقوانينها الناظمة للمجال.

اقــرأ أيضًــا

فعاليات