التاريخ والذاكرة

كتاب "الذاكرة والتاريخ" الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات، هو ترجمة جمال شحيد المأذون بها لكتاب جاك لوغوف Storia e memoria، الذي وضع فيه لوغوف رؤيته إلى التاريخ، أو رؤية مدرسة "الحوليات" الفرنسية إلى دراسة التاريخ. يقع هذا الكتاب (400 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) في أربعة فصول كبيرة، تتفرع منها عناون وأبواب مختلفة.

التعارض بين الماضي والحاضر في علم النفس

في الفصل الأول: ماضٍ/حاضر، يبحث لوغوف في التعارض بين الماضي والحاضر في علم النفس، فيرى أن دراسة التصرفات الفردية في تعاملها مع الزمن تدلّ على أن السلوك الطبيعي توازن بين وعي الماضي والحاضر والمستقبل، مع غلبة استقطاب وُجهَتُه المستقبل، المتوجَس منه أو المرغوب فيه. وفي بحثه في الماضي/الحاضر في ضوء الألسنية، يكتب: "بما أن الزمن التاريخي يعبِّر عن نفسه في الأغلب بشكل سردي، على مستويي المؤرخ والذاكرة الجمعية معًا، فإنه يتضمّن إحالة ملحّة إلى الحاضر، وتركيزًا ضمنيًا عليه. ويصحّ هذا خصوصًا بالنسبة إلى التاريخ التقليدي الذي استُنسب مدة طويلة باعتباره تاريخًا مسرودًا، أو قصةً محكية. وهنا يكمن الالتباس في الخطابات التاريخية التي تحبّذ الماضي، على ما يبدو، كما يعتمده ميشليه؛ أي اعتبار التاريخ بعثًا تكامليًا للماضي".

في سؤال الماضي/الحاضر في الفكر المتوحش، يستعين الفكر المتوحش برأيه بالأساطير والشعائر، ليقيم علاقة خاصة بين الماضي والحاضر. ويعود إلى قول كلود ليفي شتراوس: "تكمن مفارقة التاريخ الأسطوري في أنه مفصول عن الحاضر وموصول به في آن واحد... وبفضل الشعائر، يوضح الماضي المفصول عن الأسطورة نفسه بالتحقيب البيولوجي والموسمي من جهة، وبالماضي الموصول الذي يجمع بين الأموات والأحياء عبر الأجيال من جهة أخرى".

الوعي التاريخي وتطور العلاقة بين الماضي والحاضر

عند تناول لوغوف نظرات عامة إلى الماضي/الحاضر في الوعي التاريخي، يسأل: ما هي نسبة التجديد التي تقبل بها المجتمعات في تعلّقها بالماضي؟ يكتب: "توصل بعض النِحَل الدينية إلى عزل نفسه بغية مقاومة التغيير بشكل قاطع. وليست المجتمعات المسماة تقليدية، ولا سيما الفلاحية منها، مجتمعات ساكنة على الإطلاق، كما يُظن. لكن، إذا كان التعلق بالماضي يستطيع القبول بأشياء جديدة وبتحولات ما، فغالبًا ما يرتبط معنى التطور الذي يُدركه هذا التعلق بالانحطاط والانحسار. ويتخذ التجديد في المجتمع شكل العودة إلى الماضي: هذه هي الفكرة الأساسية التي تقوم عليها النهضات".

وتحت عنوان تطور العلاقة "ماضٍ/حاضر" في الفكر الأوروبي منذ العصر الإغريقي القديم حتى القرن التاسع عشر، يقول لوغوف: "إن تثمين الماضي وفكرة انحطاط الحاضر كانا سائدين إبان العصور الوثنية القديمة، وإن الحاضر في العصر الوسيط كان محصورًا بين عبء الماضي والأمل في مستقبل أخروي، وإن الازدهار في عصر النهضة تأسس بالعكس على الحاضر، وإن أيديولوجيا التقدم من القرن السابع عشر وحتى القرن التاسع عشر أعادت توجيه تثمين الزمن نحو المستقبل". وفي مسألة القرن العشرون بين الهوس بالماضي والتاريخ الحاضر والافتتان بالمستقبل، يقول: "نجد من جهة أن التعلق بالماضي اتخذ في البداية أشكالًا محتدمة ورجعية، ثم علق القسم الثاني من القرن العشرين بين القلق الذرّي ونشوة التقدم العلمي والتقاني، فعاد إلى الماضي بحنين ونظر إلى المستقبل بخشية أو أمل. بيد أن المؤرخين سعوا إلى إقامة علاقات جديدة بين الحاضر والماضي".

عتيق وحديث، الماضي والحاضر

في الفصل الثاني، عتيق (قديم) حديث، وتحت عنوان ثنائي غربي وملتبس، يقول لوغوف إن التعارض بين عتيق وحديث تطور في سياق ملتبس ومركّب، لأن لا تعارض دائمًا بين المفردات والمفاهيم، فقد استُبدلت كلمة عتيق بكلمة قديم وتقليدي، واستُبدلت كلمة حديث بكلمة قريب العهد أو جديد؛ ولأن مضامين مدّاحة أو سلبية أو حيادية صاحبتهما. بحسبه، عندما ظهرت كلمة حديث في اللغة اللاتينية المتأخرة، لم تحمل إلا معنى حديث العهد، وحافظت عليه طوال العصر الوسيط؛ أما كلمة عتيق فربما عنت ما يعود إلى الماضي، وتحديدًا إلى تلك الحقبة من التاريخ التي أطلق عليها الغرب منذ القرن السادس عشر اسم العصور العتيقة، أي الحقبة التي سبقت انتصار المسيحية في العالم الإغريقي – الروماني. وتحت عنوان مشكلة هذا الثنائي الكبرى هي كلمة "حديث"، يكتب: "إذا كانت كلمة عتيق تفسد اللعبة، لأنها اختصت، إلى جانب معنى القديم، بالإحالة إلى فترة العصور العتيقة، فإن كلمة حديث هي التي تمسك بزمام اللعبة في هذا الثنائي. ويرتبط رهان التضاد عتيق-حديث بموقف الأفراد والمجتمعات والعصور من الماضي، من ماضيها هي". يضيف: "كلمة حديث هي التي ولّدت الثنائي ولُعبَته الجدلية، فمن الشعور بالقطيعة مع الماضي نشأ الوعي بالحداثة".

مناقشة الشحنة السلبية في مفهوم "العتيق"

يبحث لوغوف في التباس العتيق (القديم): العصر العتيق في الحضارتين الإغريقية والرومانية والحضارات الأخرى، يقول: "أخذت كلمة حديث المعنى الحيادي لكلمة حديث العهد، فكان أن أخذت كلمة عتيق معنى القديم أو أحالت إلى فترة مختلفة عن العصور الإغريقية والرومانية العتيقة، وهي عصور عُظّمت تارةً وازدريت طورًا"، مشيرًا إلى أن كلمة عتيق، في معظم اللغات الأوروبية، ابتعدت عن جميع الكلمات الشبيهة بها، والتي ترفع من شأن القِدم، خصوصًا كلمة عجوز التي أضحت سلبيّة المعنى. وإذ يتكلم لوغوف عن الحديث ومنافساه: الحداثة والجدة، الحداثة والتقدم، فيقول إن كلمة جديد تتضمن ولادة وبداية، "واكتسبت مع المسيحية طابعًا شبه مقدس تمثّل بالمعمودية. إنها العهد الجديد، أو الحياة الجديدة التي تحدث عنها دانتي والتي نشأت مع الحب. تدل كلمة جديد على شيء تجاوز القطيعة مع الماضي، وتخطّى نسيان الماضي وطمسه وغيابه".

وتحت عنوان عتيق (قديم)/حديث والتاريخ: مساجلات القدامى والمحدثين في أوروبا قبل الثورة الصناعية (بين القرنين السادس والثامن عشر)، يجد أن النهضة الأوروبية عكّرت الظهور المرحلي للحديث المتعارض مع العتيق (القديم). فهي التي أعطت بشكل قاطع كلمة العصور العتيقة معنى الثقافة الإغريقية - الرومانية، وحبّذت هذه الثقافة. فالحديث لا يستحق الأفضلية إلا إذا قلّد القديم.

حديث وحداثة وحداثية، تاريخ الماضي والحاضر

يقول لوغوف في باب العتيق (القديم)/الحديث والتاريخ: الحداثية والتحديث والحداثة (القرنان التاسع عشر والعشرون)، إنه انطلاقًا من التراث التاريخي للسجال الذي نشب بين القدامى والمحدثين، "ستغير الثورة الصناعية جذريًا قواعد المجابهة العتيقة (القديمة)/الحديثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين. في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ظهرت ثلاثة أقطاب من التطور والصراع: حركات أدبية وفنية ودينية نادت بالحداثية أو اتهمت بها. وسمت هذه المفردة التصلب العقائدي للنزعات الحديثة التي انتشرت حتى ذلك الحين". وتحت عنوان المجالات الكاشفة عن الحداثية، يرى لوغوف أن ثورة حقل الحديث تعود إلى القرن العشرين، "فالحداثة التي نُظر إليها حتى ذلك الحين في البنى الفوقية أضحت تشمل الصعد كلها التي استرعت اهتمام بشر القرن العشرين: أي الاقتصاد والسياسة والحياة اليومية والذهنيات". أما في الشروط التاريخية لوعي الحداثية، فيجد لوغوف أربعة عناصر تؤدي في الأغلب دورًا في هذا الوعي: إدراك ما أصبح من التافه تسميته تسارع التاريخ؛ والضغط الذي تمارسه أشكال التقدم المادي على الذهنيات ومساهمته في تحويلها؛ الصدمة الخارجية؛ وتأكيد الحداثة يتعلق ببيئة ضيقة هي بيئة المثقفين والتكنوقراطيين. وفي باب التباس الحديث، يقول إن الحديث يلتفت نحو الماضي عندما يكون على حافة هاوية الحاضر، "وإذا اعترض على القديم، فإنه يميل إلى الاستعانة بالتاريخ. فالحداثة وموضة الأزياء القديمة تسيران معًا. إن هذه الفترة التي تؤكد أنها حديثة، وتريد أن تكون حديثة برمتها، تهجس بالماضي: بالذاكرة وبالتاريخ".

ذاكرات: الذاكرة الإثنية، نهوض الذاكرة والذاكرة القرسوطية في الغرب

في الفصل الثالث، الذاكرة، يتحدث جاك لوغوف عن الذاكرة الإثنية، فيبدو له التمييز بين الثقافات الشفوية والثقافات الكتابية في ما يتعلق بالمهمات الموكولة إلى الذاكرة مؤسسة على كون العلاقات بين هذه الثقافات تتوسط تيارين مغلوطين في غلوّهما، يؤكّد أحدهما أن البشر كلهم يمتلكون الإمكانات نفسها، ويقيم التيار الثاني تمييزًا واضحًا بين الهُم والنحن. وتحت عنوان نهوض الذاكرة، من الشفوية إلى الكتابة، ومن فترة ما قبل التاريخ إلى فترة العصور الإغريقية واللاتينية، يرى لوغوف أن الكتابة أتاحت للذاكرة الجمعية شكلين من التقدم: الأول هو إحياء الذكرى، أو الاحتفال بحدث مرموق في صرح تذكاري؛ فيما ارتبط الشكل الثاني للذاكرة بالوثيقة المكتوبة على حامل معدّ خصيصًا للكتابة. وفي ما يتعلق بـ الذاكرة القروسطية في الغرب، يرى أن الذاكرة الجمعية التي تشكّلها الطبقات الحاكمة في المجتمع تعرّضت لتحولات عميقة، ينجم قسمها الأكبر عن انتشار المسيحية كدين وكأيديولوجيا مسيطرة وعن احتكار الكنيسة شبه الكامل المجال الفكري. يتناول لوغوف أشكال التقدم في الذاكرة المكتوبة والمصورة، من عصر النهضة إلى أيامنا، فيقول إن المطبعة أحدثت تغييرًا ثوريًا بطيئًا في الذاكرة الغربية. وعن التقلبات المعاصرة للذاكرة، يقول إن التاريخ الجديد الذي يسعى إلى إنشاء تاريخ علمي انطلاقًا من الذاكرة الجمعية، يمكن أن يفسَر بأنه ثورة الذاكرة، إذ يدفع الذاكرة إلى الدوران محاور أساسية.

الفلسفة ودراسة التاريخ

في الفصل الرابع، التاريخ، يتكلم لوغوف عن مفارقات التاريخ والتباساته، فيسأل: هل التاريخ هو علم الماضي أو ليس ثمة تاريخ إلا التاريخ المعاصر؟ ويتناول موضوعية الماضي والتلاعب به، والمفرد والكوني في تعميمات التاريخ واتساقاته. وتحت عنوان الذهنية التاريخية: البشر والماضي، يرى أن تاريخ التاريخ يجب ألا يهتم بالإنتاج التاريخي الاحترافي فحسب، بل بمجموعة كبرى من الظواهر التي تشكل الثقافة التاريخية أو بالأحرى العقلية التاريخية في حقبة من الحقب. في باب فلسفة التاريخ، يطيب للوغوف أن يقول مع فوستيل دو كولانج: "ثمة فلسفة، وثمة تاريخ، لكن ليس ثمة فلسفة للتاريخ"، ومع لوسيان فيفر: "أن أتفلسف يعني بالنسبة إلى الفيلسوف الجريمة الكبرى". إلا أنه يؤيد فيفر في قوله: "الواضح أن ثمة فكرين: فلسفي وتاريخي. وثمة فكران لا يمكن قهرهما. لكن هذا لا يعني تذويب أحدهما في الآخر. يجب العمل على إبقاء كليهما على توافق، بحيث لا يتجاهل أحدهما الآخر ولا يعاديه". وتحت عنوان التاريخ كونه علمًا: مهنة المؤرخ، يرى أن التاريخ يحتاج إلى تقنيات ومناهج، وأنه يُدَرَس، وهذان أفضل برهانان على أنه علم، وعلى أنه يجب أن يكون علمًا، متناولًا الصلة الوثيقة التي تربط التاريخ بالوثائق. وفي باب التاريخ اليوم، يذكر لوغوف بمشكلتين وياجههما التاريخ اليوم: الأولى هي مشكلة التاريخ الإجمالي والعام، مشكلة النزوع القديم إلى تاريخ لا يكون تاريخًا كونيًا وتوليفيًا، بل هو تاريخ شامل وكامل، أو شمولي وتام؛ والثانية هي الضرورة التي يشعر بها العديد من منتجي التاريخ ومستهلكيه بأن التاريخ السياسي يعود. وهو يؤمن بهذه الضرورة، بشرط أن يثرى هذا التاريخ السياسي الجديد بإشكالية التاريخ الجديدة، بحيث تكون أنثروبولوجيا سياسية تاريخية.

اقــرأ أيضًــا

 

فعاليات