صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب المدينة العربية: تحديات التمدين في مجتمعات متحولة. ومنطلق هذا الكتاب أن البحوث بشأن المدينة والتمدين تتجدّد باستمرار بتجدّد أشكال التمدين وتحدياته ورهاناته؛ ومنها أنّ معظم سكان البلدان العربية أصبحوا يعيشون اليوم في المدن، وأنّ المجتمعات العربية المعاصرة أضحت تشهد تحولاتٍ عميقة متصلة بدينامية التمديُن. وقد استثُمرت بحوث مهمة، سابقًا، في البلدان العربية في درس إشكالات المدينة وتحليلها، في أبعادها التاريخية، وأيضًا في أبعادها الجغرافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، وفي مجال التخطيط الحضري وإعداد التراب الوطني.
يتألف الكتاب (840 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من 20 فصلًا موزعة في خمسة أقسام.
في القسم الأول، "التحولات الاجتماعية للمدينة العربية"، خمسة فصول. وفي الفصل الأول من هذا القسم، "السياسة العمرانية والعلاقات الاجتماعية في المغرب"، يقدّم عبد الرحمن رشيق دراسةً لصيرورة التمدن السريعة في المغرب، ويبيّن كيفية تكيّف بنية المدينة المغربية مع التحولات الجديدة التي أدخلتها الإدارة الاستعمارية، من خلال إقحام نظام اقتصادي رأسمالي حمل معه ثقافة وقيمًا جديدة أثّرت بالضرورة في السلوك الجماعي للأفراد.
أمّا في الفصل الثاني، "المدن المُسيّجة في المجتمع المصري خلال الألفية الجديدة: بين النمو الحضري والمكانة الاجتماعية - دراسة سوسيولوجية"، فيعتبر هاني خميس عبده أنه تبرز، في مقابل الزحف الهادئ الذي يصف عملية التقدم البطيء للجماعات الفقيرة والمهمّشة، والمهاجرين الريفيين الذين تزايد عددهم في ظلّ النظام الرأسمالي نحو استغلال أراضي الدولة لبناء تجمعات سكنية حضرية غير رسمية وبصورة عشوائية، ظاهرةٌ عكسية تتمثّل في التجمعات السكنية المتميزة التي أطلق عليها "المدن المُسيّجة" التي أصبح يُنظر إليها بوصفها تمثّل ظاهرة الزحف الحضري، وتجسّد المظهر الإيكولوجي للنمو الحضري، وانقسام المدينة إيكولوجيًّا إلى مناطق وأحياء سكنية اختلفت في ما بينها باختلاف مكانة السكان الاجتماعية والاقتصادية.
يعود إبراهيم فريد محاجنة، في الفصل الثالث "تجلّيات التمدّن الاجتماعي لسكان المدينة العربية المنشأة في ظل الكولونيالية الإسرائيلية"، إلى النكبة التي طمست المدينة الفلسطينية عمرانيًّا وأسقطتها من الذاكرة الجماعية، في حين يعمل المؤرخ الصهيوني على إنكار المدنية في فلسطين التاريخية، في مقابل معاناة الإنتاج الفلسطيني من فقدان الذاكرة تجاه المدينة؛ لا بوصفها موقعًا جغرافيًا، وإنّما بوصفها المدنية المعبّرة عن الثقافة والموروث الحضاري، ما أدى إلى انحسار تطرّق البحث في الداخل الفلسطيني إلى المدينة، وإلى تركيزه عليها في ما يعود إلى ما قبل النكبة فحسب.
ثمّ تتناول نورية سوالمية، في الفصل الرابع "واقع الجوار في المدينة الجزائرية: دراسة حالة مدينة أرزيو"، واقع الجوار في مدينة أرزيو الجزائرية في تمثّلات الساكنين وممارساتهم، محاولةً تقصّي النماذج العلائقية بين الجيران واستكشافها، ومتوغّلةً في خبايا حياة السكان اليومية من خلال تصوراتهم وتمثّلاتهم وتصرفاتهم، كما تظهر في علاقات المواجهة والالتقاء وجميع أشكال التفاعل.
أمّا في الفصل الخامس، "إعادة تشكل البنى الاجتماعية في مدن الصحراء الجزائرية"، فيدرس خليفة عبد القادر الحركة العمرانية والتعميرية المتسارعة التي عرفتها الصحراء الجزائرية منذ استقلال الجزائر في عام 1962، ويهتمّ بتحليل إعادة تشكيلها البنى الاجتماعية، وهو واقع أضحى يطبع عمرانياتها اليوم، بعد أن أفرزته عوامل التحديث بإرادة الدولة الوطنية المركزية لدمج فضاءٍ استراتيجي لامتناهٍ.
في القسم الثاني، "التغييرات المورفولوجية في المدينة العربية المعاصرة"، أربعة فصول. وفي الفصل السادس، "المدينة العربية الحديثة: قراءة سوسيو-لسانية في أعراض مرض التمدن"، يقدّم إدريس مقبول مقاربة مبتكرة لدراسة تغييرات المدينة العربية التي تُفضي إلى مرض التمدّن، طارحًا أسئلة متعلقة باتصال العمراني بالإنساني في بناء المدينة العربية المعاصرة، وكيفية تجسيد اللساني لهندسة العمراني وتداخلاته وتشوهاته وانحطاطه، إضافةً إلى سؤال متعلق بإمكان المدينة العربية الحديثة استيعاب تناقضات الإنسان العربي مع المكان والزمان، وإذا ما كان هناك من سبيل لإعادة ترتيب حياتنا المدنية في المدينة العربية؛ من أجل إعادة التوازن، والإقلاع نحو المستقبل الديمقراطي.
إثر ذلك، يتناول الكبير عطوف، في الفصل السابع "التمدين والهجرة والتحولات الاجتماعية في تاريخ الدار البيضاء في ظلّ إكراهات الماضي وتحديات الحاضر (1912-2014)"، التغييرات المورفولوجية (التمدين والهجرة والتحولات الاجتماعية) التي شهدتها مدينة الدار البيضاء منذ بدء عصر الحماية الفرنسية (1912) وصولًا إلى عام 2014، متوخّيًا إبراز مخلّفات الماضي الاستعماري وإكراهاته في تَمْدين مجال – تقليدي إسلامي أصبح شبه صناعي، والمساهمة في كتابة تاريخ تمدين الدار البيضاء، بغية صون ذاكرتها.
يتناول مهدي مبروك، في الفصل الثامن "نفايات المدينة في سياق انتقال ديمقراطي"، واقعَ المدن التونسية في مرحلة التحول الديمقراطي، وهي التي كانت حاضنةً لجلّ الحوادث التي عاشتها تونس منذ الثورة. كما يتناول بالدرس والتحليل الانهيارَ غير المسبوق لمنظومة البيئة الذي عرفته المدينة التونسية، علاوةً على البناء الفوضوي وموجة العنف الحضري وجميع مظاهر السلوكات غير المدنية، ويخصّ من بينها موضوع النفايات.
ثمّ يدرس الحسن المحداد ولكبير أحجو ومحمد جداوي، في الفصل التاسع "تحولات المدينة العربية وتحديات المنظومات المائية الحضرية: حالة مدن ساحل المحيط الأطلسي"، تحولات المدينة العربية في الحيّز الجغرافي الأطلسي من البلدان العربية الذي ظلّ يشكّل مجال شبه فراغٍ حضري عرف تغيرات مفاجئة جعلته يحتضن أغلبية السكان الحضريين وجلّ النشاط غير الزراعي؛ فأضحت مدنه تسجل نِسبَ نموٍّ مرتفع على نحوٍ متواصل.
في القسم الثالث، "إشكاليات التخطيط العمراني والحضري وحوكمة المدن العربية"، أربعة فصول. وفي الفصل العاشر، "أزمة التحديث والتخطيط العمراني في الجزائر: جذورها، واقعها، آفاقها"، يسائل معاوية سعيدوني عجز إرادة تنظيم المدينة، بحسب معايير التخطيط الحديث، عن تشكيل مدينة متوازنة مورفولوجيًّا ووظيفيًّا واجتماعيًّا، ويتساءل عن الآليات التي أدت إلى نشأة ظاهرة الانفصام وتجذرها في التخطيط، وإحلال شرعية الخطاب السياسي والتقني محل شرعية النجاعة والواقعية، وعن كيفية اقتران اعتماد الأنموذج الحداثي بتعطيل الاستشراف من جهة، وتغييب النماذج التراثية من جهة أخرى، كما يهتمّ سعيدوني بإعادة إنتاج الخطاب المهيمن وأدواته، بعيدًا عن واقع المدينة المورفولوجي والاجتماعي.
أمّا في الفصل الحادي عشر، "حوكمة المدينة من خلال فاعلية التخطيط الاستراتيجي ونجاعة التنفيذ"، فيعتبر صالح النشاط أنه أمام إشكالية البطء المؤسّسي للمخططات التنظيمية بالنسبة إلى المدن العربية من ناحية، وصعوبة تأقلم السياسات العمرانية والتعميرية للمدينة من أجل بناء فضاءات ملائمة لنوعية التحول الجارية في المجتمعات العربية من ناحية ثانية، وما أتاحه من استفحال الاختلالات والتجاوزات التنزيلية للمخططات المدينية التنموية من ناحية أخرى، علاوةً على ما رافق ذلك من تشعّب مسالك هذه الظاهرة وخيوطها واحتمال تعدد المستفيدين منها، تكون المقاربة التنظيمية والقانونية الاحترازية وحدها غير كافية لمعالجة هذه الظاهرة؛ الأمر الذي يستدعي إشراكًا قويًّا للمقاربات السوسيولوجية والسياسية والإدارية والمدنية والإعلامية والإلكترونية.
وأمّا في الفصل الثاني عشر، "حوكمة المدن وإشكالية التخطيط الحضري: حالة مخططات التهيئة في المغرب"، فيعدّ أحمد مالكي التخطيطَ الحضري، بوصفه سياسة عمومية وأداة منهجية ومرجعية لتنظيم المدينة، من الأسس التي يتوقف عليها التعمير الهادف إلى تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
من جهة أخرى، يرى أحمد حضراني، في الفصل الثالث عشر "حوكمة المدن وإشكالية البطء المؤسّسي للمخططات التنظيمية للمدن العربية: حالة مدينة الدار"، أن التخطيط العمراني والهيكلة الحضرية في مدينة الدار البيضاء لا يشكّلان استثناءً للاختلالات التي تطبع تدبير باقي المدن؛ فالمخططات الحضرية كثيرًا ما تكون متجاوزةً، ولا تساير واقع الدينامية الحضرية للمدينة، ومن ثمّ فهي لا تجدِّد داخل الأمد المرسوم بسبب البطء في إنجاز المخططات الحضرية.
في القسم الرابع، "التحوّلات العمرانية للمدينة العربية وآفاق المدينة الإبداعية والمدينة الافتراضية"، أربعة فصول. وفي الفصل الرابع عشر، "الفوضى العمرانية الخلّاقة في فضاءات مدينة القاهرة بعد ثورة كانون الثاني/ يناير 2011: جسور النيل وميدان التحرير"، يدرس علي عبد الرؤوف الترابط بين ما هو حضري وما هو سياسي، وبين الفوضى العمرانية الخلّاقة والفوضى الخلّاقة في ثورة 25 يناير.
من ناحية أخرى، يعرض طه لحميداني، في الفصل الخامس عشر "العمارة الكولونيالية في مدينة الرباط: ملامح التشكل والوظيفة"، للتحوّلات العمرانية لمدينة الرباط، انطلاقًا من فرضية مفادها أنّ العمارة الكولونيالية في مدينة الرباط آلية ممتدة في التأثير في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والرمزية، وأنه لا يمكن استيعاب معانيها من زاوية "التجريد الهندسي" فحسب.
أمّا في الفصل السادس عشر، "المدن الإبداعية ورأس المال المعرفي: إمارة دبي أنموذجًا"، فيبحث علي عبد الرازق جلبي في المدن الإبداعية وارتباطها بالاقتصاد القائم على المعرفة، متخذًا مدينة دبي بوصفها دراسةَ حالةٍ، ومستعرضًا أبعاد كثافة التفاعلات والتركز، وبروز رأس المال المعرفي في المدينة، والتنوع الثقافي والاقتصادي في هذه المدينة، والاستراتيجيات القائمة على تعزيز قطاع الخدمات والأصول اللامرئية في التعامل مع التحديات والأزمات، وتمثّلات المدينة الذكية.
وأمّا في الفصل السابع عشر، "الحياة الرقمية في المدينة الافتراضية: نماذج وآفاق"، فيدرس نديم منصوري المدينة الافتراضية ويحللها بوصفها نمطًا جديدًا من المدن التي فرضت وجودها في الفضاء السيبراني، والتي تتضمن قاطنين وزائرين وعابرين، وعلاقات اجتماعية بين أفراد كثيرين يغلب عليهم طابع الرقمنة المتمثّل في مجتمع الفضاء المعلوماتي.
في القسم الخامس، "المدينة العربية وإشكاليات التهميش والسكن العشوائي والترييف"، ثلاثة فصول. وفي الفصل الثامن عشر، "الدينامية المجالية لمدينة فاس وتعدّد أشكال الإقصاء والتهميش"، يرى كلّ من بوشتى الخزان وحسن ضايض أن التمدين في المغرب لا يخرج عن هذه القاعدة، بل يوجد في قلبها، لأنه انتقل من بلد طغى فيه الاستقرار في الريف حتى بداية ثمانينيات القرن الماضي إلى بلدٍ أصبح فيه معدل التمدين يصل اليوم إلى ما يناهز الثلثين.
وفي الفصل التاسع عشر، "المدينة العربية وأزمة التحضر: مقاربة سوسيو – مجالية في علاقة العشوائيات الحضرية بالهجرات القبلية (مدينة تلمسان أنموذجًا)"، يربط الهادي بوشمّة ظهور العشوائيات الحضرية في الجزائر بأربعة عوامل متمثّلة بالاستعمار، ونشوء الصناعات في المدن، وارتفاع معدلات الفقر، والهجرة الريفية، مستعرضًا على نحو مفصَّل التطورَ الكرونولوجي والخصائص والصفات المميزة للعشوائيات الحضرية في تلمسان، ليقدّم خلاصة تركيبية لعلاقة العشوائيات الحضرية بالهجرة الريفية.
أمّا بكار المرتجي وحيدار حمدان فيعرضان، في الفصل العشرين (الفصل الأخير) "مظاهر البداوة في مدن جنوب المغرب: بقايا نمط حياة زائل أم آليات محدّدة لهوية حضرية حية؟ دراسة حالة مدينة طانطان"، لمسألة "ترييف" المدينة أو "بدْوَنتها"، من خلال دراسة حالة مدينة طانطان جنوب المغرب، والتحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المهمّة التي ترتبت عليها، والتي يعدّانها إيجابية؛ على الأقل من جهة ما يتعلق بها من تمكين الأطفال من التعليم، واستفادة الأُسر من المرافق العمومية وخدمات القرب على نحوٍ أفضل من الماضي.