في كتابه كاتب السلطان: حرفة الفقهاء والمثقفين، الصادر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في طبعة رابعة (2020)، يبحث خالد زيادة في أصول المثقف في الفضاء العربي، من خلال العودة إلى الحقبتين المملوكية ثم العثمانية، وخصوصًا في مصر وبلاد الشام، لتعقّب أدوار رجال الدين وكتّاب الديوان، ومواقفهم من التحديث في بداية القرن التاسع عشر، وأثر التحديث في الحدّ من نفوذ المؤسسة الدينية - التي خسرت أجزاء من وظائفها القضائية والتعليمية بسبب إنشاء المحاكم المدنية والمعاهد التقنية - وفي انهيار جهاز كتّاب الديوان بعد أن أخذ الإداريون على عاتقهم تسيير شؤون الدولة.
قدّم المؤلف لهذه الطبعة بدراسة مسهبة عن نشوء المثقف في العالم الأوروبي، والآراء المختلفة في وظيفته ودوره، والظروف التي أدت إلى بروز المثقف العربي.
يتألف الكتاب (304 صفحات بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من ستة فصول. في الفصل الأول، "اليسق العثماني"، يورد زيادة تعريف نجم الدين الغزي لليسق: "اليسق ليس من الشريعة بشيء، بل هو جهل بها، ومن عادات علماء الأتراك التي لا يعرفها ولا يقرّها علماء الشام ومصر". فاعتُبر العمل باليسق فتنةً حصلت في الدين، لما دخلت هذه الدولة العثمانية، وشاع موقف رافض لدى علماء الشام ومصر تجاه فرض اليسق؛ باعتباره مخالفًا للشريعة. ويرى زيادة أن السيطرة العثمانية أدّت إلى تحول أساس في أوضاع العلماء في بلاد الشام ومصر. فقد تم إبعادهم عن خدمات الإدارة، وأزيحوا عن دواوين الإنشاء والخزينة والجيش. وانحلت طبقة المباشرين المتحدرين من أصول علمية، والذين كان لهم النفوذ داخل أجهزة الدولة المملوكية، وحلّت مكانها طبقة الكتّاب القلمية التي عبّرت من جديد عن الانفصال بين الأجهزة الشرعية والأجهزة الإدارية.
في الفصل الثاني، "حرفة الفقهاء"، يتناول زيادة تفصيلات حرفة الفقهاء، وكيفية طلب العلماء للعلم، ويتناول الجهاز الديني في مصر وبلاد الشام. وفي رأيه، يقوم الجهاز الديني على شبكة موسّعة من الوظائف التي يتوزعها أفراده في ما بينهم، "فثمة وظائف لا بدّ من القيام بأعبائها حتى تستقيم الحياة الدينية، مثل الأذان والإمامة والخطابة، إضافة إلى التدريس والوعظ. إن المفهوم المحدد للوظيفة، كما يرد في مصنفات تراجم العلماء أو في سجلات المحاكم الشرعية العائدة إلى العصر العثماني، يشير إلى المهمة المحددة التي يقوم بها العالِم أو رجل الدين، والتي تُمنح له إما من طريق الوراثة، من الأب إلى الابن، أو من طريق فرمان سلطاني أو براءة شريفة. والفرمان أو البراءة يتضمنان في العادة الحق في التوارث. كذلك، قد تُمنح الوظيفة من طريق الترشيح أو الأهلية أو من طريق التعيين من جانب القاضي". كما يتناول زيادة التصوف وطرقه، والاضطراب الذي شابه بسبب الدخول العثماني.
ويتحدث المؤلف في الفصل الثالث، "مجالس المشورة"، عن مجالس العلماء في أيام الفرنسيين بمصر. فقد كان العلماء أقرب إلى المماليك منهم إلى العثمانيين، إلا أن المماليك ما عادوا، بعد رحيل الفرنسيين، القوة الوحيدة أو البارزة بين القوى التي تتنازع السلطة في مصر؛ إذ ضمر نفوذهم، وضعفت الصلات التي تربط العلماء بهم. وعلى الرغم من أن العلماء كانوا يفضلون العودة إلى وظائفهم الدينية في تلك اللحظات الحرجة من التحولات، فإنهم وجدوا أنفسهم، في وسط الفئات والقوى المتصارعة، في خضم الفوضى. اتجه العلماء نحو التخلي عن المشاركة في الشؤون العامة لقاء الحفاظ على الامتيازات التي بين أيديهم، فأسرعوا إلى تسليم السلطة إلى محمد علي، فأقصاهم عن دورهم الأهلي الوسيط. إلا أن إبعاد العلماء كان له أثر مباشر في العامة؛ "إذ فَقَد الأهالي الهيئة التي، على الرغم من جميع التحولات التي شهدتها، استمرت في التعبير عن آمالهم ومطالبهم، والتي جعل الأهالي منها المرجع في الأزمات. وإذا كان العلماء قد عبّروا دائمًا عن رفضهم الظلم والتجاسر على مصالح الناس، حتى في اللحظات التي تجاسروا هم فيها على إلحاق الضرر بمصالح الفلاحين، فإن محمد علي باشا ألغى هذا الوجه من وجوه المعارضة". واتُّبعت في بلاد الشام السياسة التي خُبرت في مصر، والتي هدفت إلى إقامة إدارة مركزية تمسك بالشؤون العسكرية والاقتصادية كافة؛ ما استدعى تنفيذ السياسة القاضية بتقليص نفوذ العلماء ورجال الدين الذين جُردوا من امتيازاتهم، وخصوصًا في مجالَي القضاء والأوقاف.
أما في الفصل الرابع، "كاتب السلطان"، فيقول زيادة إن على امتداد القرن السابع عشر كان الكتّاب، وأولئك الذين يتصلون بحرفتهم، "ينتقلون من المهمات الحرفية التي تستلزم خبرات دقيقة في الخط والحساب والإنشاء، إلى تكوين وجهات نظر في أوضاع الدولة التي يخدمونها، بصفتهم مستشارين للوزراء والسلاطين. وكانت الآراء التي يعرضونها تتخذ طابع الاقتراحات والتوصيات، خصوصًا أنها ستعزز بمعارف جديدة يستقونها من مصادر جديدة، غير تلك التي اعتادوا أن يستندوا إليها تقليديًا". ويعتقد زيادة أنه من اللافت أن يكون الأشخاص والكتّاب الذين اهتموا بالمسائل المتعلقة بأزمة الدولة ومشكلاتها هم أنفسهم الذين التفتوا إلى مقدمة ابن خلدون، وأبدوا اهتمامًا بالعلوم الأوروبية الحديثة، "فيحمل هذا الأمر دلالة مزدوجة: فمن ناحية، يشير إلى الحيوية التي تمتع بها هؤلاء الكتّاب؛ ومن ناحية ثانية، يشير إلى انفتاحهم على المعارف الجديدة". يضيف: "في صراع السلطان مع العسكر، وقف الكتّاب بطبيعة الحال إلى جانب السلطان وسياسته الإصلاحية التي كانت على نحو ما من صنعهم. والاقتراحات التي رسمها الكتّاب كانت تستهدف، طوال القرن الثامن عشر وحتى أوائل القرن التاسع عشر، الخصم التقليدي للسلطان الممثل في قوات الانكشارية".
يقول زيادة في الفصل الخامس، "شريك الرأي"، إن عكا طورت مهنة الكاتب ورفعت من شأنه ودوره. وعلى الرغم من الأخطار التي حاقت به، "تحول من مجرد محاسب أو صرّاف أو مدبر لشؤون الأمير إلى مستشار. إن موهبة الخط الجميل والإنشاء ومعرفة الحساب، كان يُضاف إليها الذكاء والدهاء والخبرة الطويلة". ويذكر إبراهيم العورة في تاريخه عند ذكر نصب المتسلمين والحكّام، أن حاييم فارحي هو "الصرّاف وشريك الرأي بأمور الحكام وحفظ مال الخزينة وإيراداتها وحساباتها، وحساب المنصب مع خزينة الدولة. وهو الرئيس على سائر الكتّاب في داخل عكا وخارجها، والذي يريده يرفعه والذي يبقيه بدون معارضة من طرف أحد، والحاصل أنه شريك الحكم". يضيف زيادة إن الكاتب كان يصنع دوره "من خلال الخدمات التي يؤديها لسيده، وتلك التي يسديها لطائفته. فقام تحالف غير متكافئ بين الحكام المماليك من جهة، والكتّاب من جهة ثانية، حيث قام الأخيرون بتقديم نصائح لا غنى عنها لتوسيع الموارد المالية، من طريق ابتداع ضرائب جديدة وطرائق مبتكرة للاحتكار. في الوقت نفسه، عزز الكتّاب أوضاع طوائفهم، وحققوا لها بعض المكتسبات. فلم يعد الكاتب مجرد خادم مطيع فحسب، بل شريك الرأي والتدبير، وشريكًا في الإيرادات المتراكمة؛ إذ يحتفظ بحصته من الأموال التي يشرف على جمعها وصرفها، ويتصرف بأموال الخزينة لتحقيق مآربه السياسية".
وفي الفصل السادس، "المثقف"، يعود المؤلف إلى أسماء أعلام في العربية، بحثًا عن ماهية المثقف، أمثال أسعد داغر وإلياس أبو شبكة ومنير موسى وألبرت حوراني وهشام شرابي وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري، ليبدو له أن ظهور المثقف، تبعًا للمحاولات التي عرضها، أتى نتيجة قطيعة بين عصر وآخر، تراوح بين حملة نابليون بونابرت في نهاية القرن الثامن عشر والسيطرة الاستعمارية في ثمانينيات القرن التاسع عشر، إضافة إلى القطيعة على مستوى الثقافة العربية ذاتها التي يقيمها الجابري بين المشرق والمغرب. وهو يرى أن ظهور المثقف يأتي حين يدرك المتعلم التناقض بين معارفه وعلومه من جهة، ودوره في المجتمع والدولة من جهة أخرى. وعلى المستوى الواقعي، "يأتي ظهور المثقف نتيجةً لعجز المتعلم عن الانخراط في جسد الدولة، وبمعنى أدق غياب الدولة المتجسدة في تصوراته. إضافة إلى ذلك، فإن هؤلاء المتعلمين كانوا يعجزون عن إيجاد تضامن حرفي، وعن الانخراط في وظيفة محددة، على غرار ما كان عليه العلماء في أجهزتهم الفقهية، أو الكتّاب في حرفتهم الديوانية". ويذهب زيادة إلى أن ثنائية المثقف الليبرالي - الإصلاحي استُخدِمت لاستجماع جميع عناصر التناحر بين الإسلام والغرب. مع ذلك، يجب ألا يحجب التعارض بين المثقف والإصلاحي أن المثقفين الليبراليين والإصلاحيين نشؤوا في مرحلة واحدة وظروف متشابهة، من انكفاء الأجهزة الفقهية إلى بروز الدولة المهيمنة.