مفكرون عرب معاصرون: قراءة في تجربة بناء الدولة وحقوق الإنسان

07 أغسطس،2016

يطرح شمس الدين الكيلاني في كتابه مفكرون عرب معاصرون: قراءة في تجربة بناء الدولة وحقوق الإنسان، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (527 صفحة بالقطع الوسط)، الأسئلة الآتية: هل الإسلام كدين وثقافة عقبة حقيقية أمام توطين الديمقراطية وشرعة حقوق الإنسان؟ وهل هو بطبيعته وجوهره لا يتلاءم مع الديمقراطية والحقوق الإنسانية؟ ويقول: "إذا كان الأمر كذلك، فهذا يقتضي القول إن الإسلام كانت له الأرجحية في التجربة السياسية الإسلامية على السلطة السياسية، أو على الأقل أن تكون المؤسسة الدينية مندمجة بالمؤسسة السياسية، أي بالسلطنة أو الخلافة، في كيان سياسي واحد، والحال أن واقع التجربة السياسية الإسلامية يشهد بغير ذلك".

يقارب الكيلاني إشكالية مسؤولية الإسلام عن تأخر العرب في مجال تنميتهم السياسية الحديثة، "لمحاولة الإجابة عمَّا إذا كان الإسلام والأفكار المتداولة للمسلمين عنه قد شكّلت عقبة أمام دمقرطة الدولة العربية وأمام تقدم حقوق الإنسان في بلداننا"، مجتهدًا في التشديد على أنّ تفكير الجماعات في الإسلام ليس جامدًا مغايرًا للتحول، بل يتأثر بعوامل التغير الاجتماعي التاريخي، وعلى أنه لا يمكن فهم أفكار المسلمين إلا في سياق علاقتهم بتطور حياتهم الاجتماعية التاريخية، وبالتصاقهم بموشور التنوّعات التي حكمت اجتماعهم السياسي.

خصّص الكيلاني القسم الأول من كتابه، وعنوانه إعادة التفكير في الدولة وحقوق الإنسان في ظل تحديات الحداثة الغربية للفكر العربي، ليكون مدخلًا عامًا للبحث يضيء مجريات إعادة التفكير في الدولة وحقوق الإنسان، مع تحديات الحداثة الغربية للفكر العربي، فقسمه إلى فصلين. يردّ المؤلف في الفصل الأول، في مسألة الدولة، مشكلة العرب القدماء مع الدولة إلى أن موضوع بحوثهم "ينصبّ على ما يجب أن يكون عليه الحاكم أو الحكم، أو على ما يجب أن يقوم به، أو كيف يجب أن تُحكم الأنظمة، بدلًا من البحث في كيف تُحكم فعلًا، وما يفعله الحكّام في الواقع، ففشلوا في تسجيل كيفية عمل الأنظمة في الواقع". كما يمرّ مستفيضًا على النظريات في الدولة والحكم عند الشيخ الطهطاوي وخير الدين التونسي ومحمد عبده وحسن البنا وسيد قطب وفرج وعمر عبد الرحمن وصالح سرية، ليختم الفصل بالقول إن الانتكاسة التي مُنيت بها تجربة الحكم الإخواني في مصر ستقود إلى انقسامات عميقة في صفوف الإسلاميين.

في الفصل الثاني، وعنوانه في مسألة حقوق الإنسان، يرى الكيلاني أن المسلمين النهضويين لامسوا مسألة حقوق الإنسان تحت ضغط الثقافي الأوروبي، وتوصلوا إلى أن "تقدُّم العرب والمسلمين منوط باستعارتهم من أوروبا السُبل التي اتخذوها لتقدُّمهم، والتعلّم من ثقافتها ما يخدم تطور المسلمين وارتقاءهم، منطلقين من اعتقادهم أن الإسلام لا يتعارض مع أسس الحداثة ما دامت هذه الحداثة لا تتعارض مع العقل الذي يتوافق مع الإسلام". في المقابل، تمسك إسلاميون معتدلون بالموروث الثقافي والديني، وبأن الإسلام نصّ على حقوق للإنسان صالحة لكل زمان ومكان، "وهو يملك مرجعيته الخاصة التي لا يجمعها جامع بالحقوق التي نتجت من الحداثة الغربية". أما عند المسلمين المتشددين، فأعاقت مقولة "تطبيق الشريعة" تفتّح فكر الحركة الإسلامية على مفاهيم حقوق الإنسان، فيما رأى الحداثويون الإسلام عقبة أمام توطين حقوق الإنسان في البلدان الإسلامية، وطرحوا العلمنة بديلًا.

يمثّل القسم الثاني، وعنوانه وجهة نظر مفكرين عرب معاصرين في تجربة بناء الدولة وحقوق الإنسان، المحور الأساسي لهذا الكتاب، ورصده الكيلاني ليبحث في وجهات نظر مفكرين عرب معاصرين في تجربة بناء الدولة وحقوق الإنسان في المجال الإسلامي، وقسمه إلى تسعة فصول.

في الفصل الثالث عبد الله العروي: الدولة السلطانية وطوبى الخلافة ومفاهيم حقوق الإنسان، يقول المؤلف إن العروي وضع حدًا فاصلًا بين التقليد الذي يضع للدولة هدفًا خارجها، والتعامل الحداثي الذي يأخذ بجد الدولة القائمة الفعلية، ويُدرج حياته السياسية فيها وينطلق منها، "ويصبّ جهده على التعامل مع آليات عملها لإحداث التجديد، ولا يتطلّع إليها من خارجها أو على قياس أنموذج يستلهمه من خارجها، بينما ينطلق الموقف التقليدي الطوباوي من افتراض وجود أنموذج لها خارج أبنيتها، فيقود هذا الافتراض إلى الاستخفاف بالدولة الفعلية القائمة، وهي سيرة أغلب الأيديولوجيين العرب، وفي مقدمهم الإسلاميون منهم". ويعرض آراء العروي في أنموذج الدولة الحديثة وفي الخلافة والمُلك وفي الدولة الاسلامية.

يُثبت المؤلف في الفصل الرابع وجيه كوثراني: في التجربة السياسية الإسلامية (علاقة المؤسسة السياسية بالدينية) تأكيد كوثراني وجود استقلال فعلي في التجربة العربية الإسلامية لبناء الدولة بين المجال السياسي والمجال الديني، وملاحظته أن ثمة ثنائية في السلطة موزعة بين السلاطين والأمراء من جهة، والفقهاء من جهة أخرى (أي بين المؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية)، وإشارته أيضًا إلى أن في الإمكان أن نعثر في المتن الإسلامي على ما يثبت أن الإسلام لا يتعارض مع العلمانية، كما هي الحال في المجال المسيحي، أو أنه لا يقف في وجهها، مثلما أنه لا يتعارض مع الرأسمالية أو الاشتراكية. ويضيف الكيلاني أن الحكم الفصل في مسألة علاقة الإسلام بالدولة أو بالحكم يعود عند كوثراني إلى ممارسة المسلمين التاريخية وتجربتهم السياسية، "لا بالوقوف عند حدود استعمال النصوص التي هي في الأساس حمّالة أوجه، أو أن نحتكم إليها من دون معاينة التجربة الفعلية للمسلمين؛ فهذا أمر لا يقود، في رأيه، إلى نتيجة جدية نعتد بها، بل يجب أن نقرأ النصوص بالتساوق مع التجربة التاريخية وحيثياتها، وبكل ما فيها من تسامٍ وانحطاط واعتيادي، فالعبرة هي في المنطق التاريخي ومساره واحتمالاته".

في الفصل الخامس رضوان السيد: إضاءات على تحولات السلطة وحقوق الإنسان في الإسلام، ينقل الكيلاني عن السيّد قوله: "فُهم أن الخلافة كانت سلطة دينية، لكن الحقيقة أنها لم تكن كذلك حتى في عصرها الأول ... وأن المسلمين عبر العصور ما اعتبروا أن لمنصب الخلافة قداسة خاصة أو سلطات ذات طابع ديني، ويبدو أن تحديد الفقهاء للإمامة والخلافة بأنها ’حارسة الدين وسائسة الدنيا‘ فيه نوع من التوهم في هذا المجال، فلم تكن الخلافة هي التي حرست الدين بل هو الذي حرسها بقدر ما رأى أن مصالحه مهددة بتهديدها". وفي رصده التطور في طبيعة السلطة الاسلامية، يقول السيّد إن الانفصال بين الشريعة والسلطة بدأ منذ بداية العهد الأموي؛ فالتجربة التاريخية للأمة مع الأمويين ثم العباسيين أثبتت أن الجزء الأكبر من جهد الأمة استُنزف في محاولات الخلفاء تحويل الخلافة أي السلطة إلى دولة أي مُلك، من دون أن يؤثر ذلك مباشرة في علاقة السلطة بالإسلام. أما إشكالية حقوق الإنسان فرآها السيّد معاصرة، أتت مع تقدم المجتمع الحديث وتوسع دائرة الحريات والحقوق الفردية والعامة فيه، تزامنًا مع تعزز النظام الديمقراطي التمثيلي.

ينسب الكيلاني في الفصل السادس، محمد عابد الجابري: الدولة وحقوق الإنسان في الإسلام، إلى الجابري إشارته إلى أن الفكر السياسي في الإسلام تحول بعد الغزالي من البحث في كيف يجب أن يكون الحكم في الإسلام إلى البحث في كيف كان هذا الحكم في الماضي. يقول الجابري: "فالسياسة التي كانت تهدف إلى رسم صورة مثلى للحكم والمجتمع، أصبحت تهتم بالبحث عن حقيقة الصورة التي تمت في الماضي. من هنا ارتبط البحث في السياسة بالتاريخ". ويضيف أن البحوث الكلامية والفقهية في مسألة الإمامة التي كانت تحاول تأطير نظام الحكم في الإسلام من وجهة نظر الشرع، جعلت البحث في مسألة الحكم من اختصاص الفكر الديني، "فاقتصر البحث في شؤون الحكم خارج الإطار الفقهي على جانب هامشي لا يتناول إلا آداب السياسة والملوك". ويقرأ الكيلاني فكر الجابري في مسألة الدولة منذ عصر النبوة إلى الخلافة إلى المُلك السياسي، وينقل عنه قوله إن القبيلة والغنيمة والعقيدة محددات ثلاثة حكمت العقل السياسي العربي في الماضي، والمطلوب تحويل القبيلة في مجتمعنا إلى لا قبيلة، والغنيمة إلى ضريبة، والعقيدة إلى مجرد رأي.

يستعيد المؤلف في الفصل السابع، وعنوانه برهان غليون: من نقد دولة الحداثة العربية إلى نقد مفهوم الإسلاميين المعاصرين للدولة، رأي غليون إذ يقول إن المخرج الحقيقي من أزمة العلمانية والإسلامية هو البدء بالديمقراطية، "أي إرجاع السياسة إلى أصحابها، فيتلمسها الحداثيون عبر الديمقراطية لا ضدها. وصبّ نقده للحداثة العربية ليقودنا إلى رفع قيمة الديمقراطية في حياتنا، وإلى تجاوز مجال (الدولة القطرية القزم) إلى العالم العربي الرحب، لتتمكن الجماعة العربية من الحوار الحقّ والصعب مع الحضارة الراهنة، من موقع المشارك في صنعها". يضيف الكيلاني: "انطلاقًا من نقد غليون هذا لما يُسمِّيه الحداثة المشوهة التي شقّت المجتمعات العربية والإسلامية إلى فريقين، أحدهما يستقبل هذه الحداثة والعلمانية والآخر مازال ينتمي إلى التقليد الإسلامي ويرفع شعار الدولة الإسلامية، أو على الأقل مطلب تطبيق الشريعة، يذهب في تفحصه ظاهرة الإسلام السياسي واستدعائها المتزايد لفكرة الدولة الإسلامية وشعار ’الإسلام دين ودولة، مصحف وسيف‘، ليقول: ’المشكلة الحقيقية في الثقافة العربية هي هذا الانشقاق المتزايد بين ثقافتين، لكل منهما منظومة قيم ومعايير ووسائل انتشار، وشبكات نقل متميزة تعزل إحداها عن الأخرى، وتقود إلى تكوين جماعتين متنافرتين لا تحتمل إحداهما وجود الأخرى‘". وهذا يفضي إلى السؤال: دولة شريعة أم دولة قانون؟

في الفصل الثامن، عزمي بشارة: الدولة في علاقتها بالإسلام، يبيّن الكيلاني رفض بشارة رسم حدٍّ فاصل بين ثقافة الغرب وثقافة العالم الإسلامي، بطريقة تجعل الانتماء إلى المكان ميزة الأولى والانتماء إلى النسب/ القرابة ميزة الثانية، "أكان هذا الافتراض صادرًا عن بعض المستشرقين أم عن بعض العرب، الذين أرجعوا فيه تخلف العرب إلى هذا المركّب القبلي العصيّ على التحول؛ فليست القبيلة عنده جوهرًا ثابتًا في النفس العربية وعصيًّا على التحويل، بل إنها تغيرت بتحولها إلى عشيرة غير متنقلة في المكان، وأينما استمرت غيرت من ملامحها ووظائفها، متأثرة ببنى اجتماعية وسياسية غير عشائرية". ويلفت المؤلف إلى انتقاد بشارة اعتقاد الاستشراق الكلاسيكي أن الإسلام عقبة أمام الديمقراطية، وانتقاده النظر إلى الحكم التقليدي في الشرق الأوسط على أنه استبداد شرقي، وانتقاده كذلك ادعاء الاستشراق أن الثقافة الإسلامية منعت في تأثيرها تطور المجتمع المدني، وهو شرط الديمقراطية الأول، وهو لا يرى كيف يمكن تحميل الإسلام مسؤولية تأخر العرب عن الديمقراطية! "والحال أنه ليس من الواضح كيف من المفترض أن يكون الدين ديمقراطيًا. لذلك، كما يبدو، يُفترض بالإسلام أن يكون أكثر من مجرد دين!، بينما ما يوجد في الواقع الاجتماعي والسياسي هو أنماط عينية من التدين الإسلامي ... يتوجب الحكم عليها في سياقها التاريخي ودورها ووظيفتها، وليس من منطلق تعريفات لجوهرها المزعوم".

يرصد الكيلاني في الفصل التاسع حسن حنفي: من التراث والتجديد نحو اليسار الإسلامي و"دولته"، ليعرض مشروع تجديد التراث الذي أطلقه حنفي لأنه – وفقًا للكيلاني - في التراث وبالتراث يسعى إلى تحقيق التجديد الذي ينشده. ونقطة البدء عنده في إحداث النهضة والتغيير في مجتمعاتنا النامية هي التراث نفسه وإعادة تجديده وجعله نقطة التقاء جميع قوى الأمة وتياراتها، علمانية وسلفية، وهدفه في هذا الكشف هو تطوير الأصول وتجديدها، والانتقال منها إلى تغيير الأفراد والجماعات، وتكوين الوحدة الوطنية. ومن ثمّ، يمثل نقد التراث لتجديده أول جبهات هذا المشروع، فيما يمثل الاستغراب وانتقال الهيمنة الثقافية الجبهة الثانية، والعبور إلى السياسة الجبهة الثالثة. بالنسبة إلى حنفي، ينتهي التوحيد نهاية سياسية وينصب في الثورة، والله في العالم، "فالإمامة هي الموضوع الذي يربط بين التوحيد والفقه، وبين العقيدة والشريعة، وبين التصور والنظام". ويقول حنفي إن تحليل بعض الشعارات العلمانية، مثل العقل والعلم والإنسان والحرية والمجتمع والتقدم، يُظهر أن معانيها موجودة في التراث الإسلامي القديم، فيتساءل: فيمَ الخلاف إذًا بين السلفية والعلمانية؟ ويُرجع الأمر كله إلى المنهج واللغة المستخدمة.

في خاتمة الكتاب، يعود المؤلف إلى تساؤلاته الأولى: هل استعصى على العالم العربي الإسلامي التأثر برياح التغيير الديمقراطي؟ وهل أصبح الوطن العربي محصّنًا أمام الديمقراطية بحكم هيمنة الثقافة الإسلامية على الوعي الاجتماعي العربي؟ ويقول: "لا يبقى أمام الباحث، إن أراد التحقق من أن الإسلام عقبة أمام توطين الديمقراطية في البلدان العربية والإسلامية أو من أنه ليس كذلك، إلا العودة إلى المسلمين أنفسهم عبر تجربتهم التاريخية في علاقتها بمفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتأويلاتهم المختلفة لعلاقة الإسلام بتلك المفاهيم". ولعل في ذلك ما يشجع على تأكيد أن الإسلام لا يمكن أن يكون في حد ذاته معوقًا للتطور الديمقراطي، ومصادر هذه المعوقات، إن وجِدت، مصالح سياسية على الأغلب، بل إن الإسلام في بعض جوانبه يشجع على هذا التحول.

اقــرأ أيضًــا

 

فعاليات