الإسلام والمسيحية والديمقراطية

دراسات مقارنة شرقًا وغربًا

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الإسلام والمسيحية والديمقراطية - دراسات مقارنة شرقًا وغربًا، ويحتوي على ثلاث عشرة دراسة لثلاثة عشر باحثًا عربيًّا وأجنبيًّا من تونس والمغرب والجزائر والسنغال وفرنسا وإيطاليا وهولندا، حائزِين شهادات من أرقى الجامعات العربية والغربية في اختصاصات علوم اللغة، والاجتماع، والحضارة العربية، والعلوم الإسلامية، والقانون، والإدارة، والعلوم السياسية، وعلم الأديان، والإسلام الأوروبي، وعلم النفس التطبيقي، وعلم اجتماع الدين، والحركات الإسلامية، والصراعات الدينية، والأقليات، والفلسفة، والفكر السياسي التركي، والإسلاموية، وعلم الاجتماع الألماني، والمهاجرين إلى أوروبا، والأدب العربي، والشعبوية، والديمقراطية، وغيرها. وتتمحور دراساتهم جميعًا في الكتاب حول مواضيع المقارنة بين المسيحية والإسلام وتجارب الحركات الإسلامية الحديثة مع الديمقراطية المسيحية المنشأ، وموقف حركات الإسلام السياسي من كل من التحديث والعلمنة والمدنية، ومصير الديانتين في حقبة ما بعد العلمانية، والتيارات الإصلاحية في الحركات الإسلامية الراديكالية، ومقاربة التيار الإسلامي التركي الأوروبي للحضارة الإسلامية، والخطاب الاقتصادي للإسلاميين، وتطور الإسلام السياسي في الجزائر وتونس. والكتاب يضم مجموعة دراسات قُدّمت في ندوة "الإصلاح السياسي والإصلاح الديني بين تجربتَي الديمقراطية المسيحية والإسلام السياسي: سجالات، مقارنات، استشراف" التي عُقدت في تونس، في كانون الأول/ ديسمبر 2018. قام الباحث منير الكشو بتحرير مادة الكتاب، وهو يقع في 360 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.

تتمايز علاقة كل من الإسلام والمسيحية على حدة بالديمقراطية، ففي حين أنهت المسيحية حقبة التوتر في علاقتها بالديمقراطية وتكونت في البلدان المسيحية أحزاب تدعم الديمقراطية ولو كانت ذات خلفيات دينية، وتداولت بها السلطة مع أحزاب علمانية، ظلّ تداول الديمقراطية في البلدان المسلمة نادرًا، وراجت في العلوم السياسية أطروحة استثناء البلدان الإسلامية من حقل دراسات الديمقراطية؛ إذ إن الفكر السياسي السائد فيها – وفق هذا الرأي - لا يزال يربط صلاح السلطة بقيامها على تفويض إلهي، ويضيّق فرص تبلور نظرية في الحرية الفردية وفرص شيوع التسامح المدني. وغيرَ بعيدٍ عبّر محمد الشرفي في كتاب الإسلام والحرية: سوء التفاهم التاريخي، عن أسفه لعدم متابعة المرجعيات الثقافية والخطاب السياسي في البلدان الإسلامية الحداثةَ في البنى الاجتماعية والبرامج الاقتصادية والأنظمة القانونية كما فعلت السلطات الروحية في الديانات الأخرى بانخراطها في المشروع الحداثي بوصفه ظاهرة لا أيديولوجيا، وتبنِّيها الديمقراطية وحقوق الإنسان وفق تصور كوني يستند إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في وقتٍ تعامل المسلمون مع الحداثة انتقائيًّا وتجزيئيًّا.

وقد كانت البروتستانتية سبّاقة في استقبال القيم الليبرالية، ومنْع احتكار الدين من أي سلطة كانت ولو تلك التي ترى نفسها وصيّة على الناس وتعاليم الإنجيل، وأعلن أتباعها ولاءهم لدولهم القومية وتبنّوا الحرية وشجعوا على الديمقراطية، بينما لم تقبل الكنيسة الكاثوليكية بالديمقراطية وحقوق الإنسان ولم تصحّح علاقتها مع الحداثة حتى وقت متأخر، حين أصدر المجمع الفاتيكاني الثاني في عام 1965 قراراته التي شكّلت نقطة تحول في الفكر المسيحي؛ إذ قال رئيس المجالس البابوية الكاردينال روجّي إتشفيرّي Ruggie Echeverri إثر انعقاده: "إن الأمر الخاص بالحريّة الدينيّة يستند إلى حقوق الذات البشرية لا إلى حقوق الدين الحق"، وأعلن المجمع الكنسي المنعقد في عام 1984 بعد ذلك أن "النهوض بحقوق الإنسان من متطلبات الإنجيل". وقد جاء هذا التغيير في الكنيسة بعد نظرة عدائية ممتدّة في الزمن تجاه الحداثة والأنوار، دان خلالها البابا بيوس السابع في عام 1790 الثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان وندد بحكم الشعب، واعتبر أخلافُه الحريات اعتداء على حقوق الله، كما رفض بيوس الحادي عشر حق الاقتراع واعتبره كذبًا، وأعلن بيوس التاسع حرية الضمير هذيانًا، وحرية الصحافة أمرًا مقيتًا، ودان المساواة بين الأديان وعدم التمييز بينها.

وقد ساد طرح في البلدان الإسلامية يربط حدوث تغيير أو إصلاح سياسي نحو الديمقراطية وضمان الحريات واحترام حقوق الإنسان في البلدان الإسلامية بإصلاح ديني أولًا يؤدي إلى تحوّل في الثقافة السياسية ثانيًا، وفي مقابل هذا الطرح نجد موقفًا معاكسًا يعتبر أن الإصلاح السياسي (إرساء الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وضمان نسبة معقولة من الحرية) هو الذي يفسح المجال للإصلاح الديني، ويجد أصحابه في تجربة الديمقراطية المسيحية عضدًا لهم. في الحقيقة، لم ينتظر المواطنون الكاثوليك قرارات المجمع الفاتيكاني الثاني كي ينخرطوا في العمليات الديمقراطية في بلدانهم، فقد أسّسوا منذ عام 1870 أحزابًا ديمقراطية اضطلعت بأدوار سياسية مهمة وبعضها تسلّم الحكم بين الحربين العالميتين في كل من ألمانيا وبلجيكا والنمسا وهولندا وإيطاليا، واعتنقوا على نحو تدريجي عقيدة حقوق الإنسان.

ولئن سعت الحركات الكاثوليكية للتمايز من الليبرالية والاشتراكية، فقد عملت في الوقت نفسه على الاستلهام منهما لتكوين رؤية اجتماعية وسياسية تحقق الحرية والمساواة للشعب، كما حرصت على التباين مع المحافظين المتشدّدين، على الرغم من ضمّها في بداياتها أحزابًا ومنظمات اجتماعية مرتبطة بالكنائس، كالنقابات المسيحية، التي كانت في خمسينيات القرن الماضي وستينياته أحزابًا طائفية تدافع عن مصلحة الكاثوليكية والمؤمنين الكاثوليك، لكنها عرفت تطوّرًا كبيرًا بعد الحرب العالمية الثانية، وتحوّلت من طائفية إلى عابرة للطوائف، تخدم مصالح جميع أفراد المجتمع، كما سمحت لغير المتديّنين بالانخراط في أحزابها.

كان الإصلاح السياسي وإرساء الديمقراطية وتشريع دساتير تحمي الحريات العامة والخاصة والمشاركة السياسية والتداول السلمي للسلطة، واستقلال القضاء، وتعتمد الاقتصاد الاجتماعي للسوق، وغير ذلك، من الأمور الحاسمة في تحوّل أحزاب البلدان المسيحية من خاصة بفئة اجتماعية وبطائفة إلى مدنية وإنْ بخلفيات دينية لكنها تعمل لمصلحة كل مواطني المجتمع، فهل يؤمَل تطورٌ مماثل في البلدان الإسلامية؟ وهل يؤدّي إرساء الديمقراطية وضمان حقوق الأفراد والفصل بين السلطات وحكم القانون إلى تحفيز الأحزاب الإسلامية على المضيّ في تأصيل الديمقراطية والمواطَنة والمساواة في فكرها المرجعي؟

الإسلام الديمقراطي

شاعت، بعد ثورات الربيع العربي وتسلّم أحزاب إسلامية السلطة في تونس ومصر والمغرب، مقولة "الإسلام الديمقراطي"، فهل كانت تسميةً مستوحاة من "الديمقراطية المسيحية"؟ وفي حال الإيجاب، إلى أي حدّ تجوز المقارنة بين التجربتين السياسيتين؟ كل هذه المسائل وأخرى ذات صلة بها تتطرق إليها الفصول التي يتضمنها هذا الكتاب.

بُوّبت دراسات الكتاب الثلاث عشرة في أربعة أقسام، على النحو التالي:

القسم الأول خُصّص لمناقشة صدى تجارب الديمقراطية المسيحية في الحركات الإسلامية، وضمّ ثلاثة فصول:

الفصل الأول عرض دراسةً للباحث الهولندي يان ياب دي رويتير تتناول كيفية صنع تحالفات سياسية وفق قانون الانتخاب الهولندي الذي ينص على الاقتراع النسبي من دون عتبة انتخابية؛ ما يصعّب تشكيل حكومة ائتلافية مستقرة، لعسر حصول حزب واحد على أكثر من 50 في المئة من الأصوات. وتكشف الدراسة عن أن آليات الوفاق في النظام السياسي الهولندي هي بالتركيز على الأحزاب السياسية المسيحية في الحكومات الائتلافية التي تضمّ أحزابًا علمانية غالبًا، كالتوافق بين حزب مسيحي أرثوذكسي وحزب علماني في عام 2017 على قانون يُجيز القتل الرحيم أدى بدوره إلى ولادة حكومة ائتلافية كانت متعسرة.

الفصل الثاني شرح فيه الباحث الإيطالي فيسانزو باتشي ماهية وأبعاد تسويةٍ في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية بين الحزبَين الديمقراطي المسيحي والشيوعي على الحياة السياسية وترسيخ الديمقراطية داخل إيطاليا، وعلى الوضع الدولي في أوروبا وفي كل العالم في ظل الحرب الباردة. وعلى الرغم من قيام هذه التسوية، في نظر الباحث، ببناء الديمقراطية وتحقيق استقرار سياسي واجتماعي في إيطاليا دفعا التنمية والتطور الاقتصادي، فإنها فشلت، بدليل الأزمة الهيكلية للنظام السياسي الإيطالي في عام 1992، التي انهارت معها الأحزاب الكبرى، ومن ضمنها الحزبان الآنفا الذكر والحزب الاشتراكي الكبير.

في الفصل الثالث، يعقد الباحث المغربي محمد فاضل مقارنة بين "حزب العدالة والتنمية" المغربي، الذي تحوّل من جماعة دعوية دينية إلى حزب سياسي يتصدر المشهد السياسي منذ عام 2011، والديمقراطية المسيحية التي حولت أحزابًا كنسية كاثوليكية أوروبية إلى أحزاب ديمقراطية تنافس على السلطة. ويفترض الباحث في الفصل أن الإسلام السياسي باحتكاكه بالحداثة عرف تطورًا نظريًّا وتنظيميًّا كالذي عرفته "الديمقراطية المسيحية"، ولذلك يكرّس الفصلُ جانبًا مهمًّا للإجابة عن السؤال الإشكالي "هل سيكون الإسلاميون المعتدلون المسيحيين الديمقراطيين في الإسلام؟."

ينظّر القسم الثاني من الكتاب لحركات الإسلام السياسي، وفيه ثلاثة فصول أيضًا:

الفصل الرابع يستعرض فيه الباحث التونسي منير الكشو مراجعات لمفهوم العلمانية وخلفياتها الفلسفية، وطرح للنقاش رأيَ نقّاد العلمانية في افتراضها مسارًا تطوريًّا للحداثة، يفضي إلى انحسار الدين في المجالَين العام والخاص، وسيادة نظرة عقلانية إلى الوجود لا تعترف إلّا بالغايات المادية في حياة البشر، في وقتٍ يشهد الواقع في بلدان متقدمة في الديمقراطية، كما ينحو عالم الإناسة الأميركي كليفورد غيرتز Clifford Geertz وعالمَا الاجتماع المتابعَان لظاهرة العلمنة بيتر برغر Peter Berger ‏وديفيد مارتن David Martin، عودة التعبير عن مشاعر الانتماء الديني إلى المجال العام. ويستعرض الفصل أيضًا الدعوات إلى مراجعة العلاقة بين الدين والسياسة، بين من يدعو إلى التخلّي عن علمانية الدولة وإعادة الاعتبار للدين، ومن يكتفي بمطالب أكثر اعتدالًا في هذا المضمار.

وقد تضمن الفصل الرابع أربعة مباحث، خَصَّصها جميعًا للحديث عن العلمانية أساسًا للسياسة الحديثة وعن تأثيرها في الفلسفة والفكر السياسي المعاصر، وللتساؤلات بشأن نهاية العلمانية وبداية عصر ما بعد العلمنة، ولطروحات ما بعد العلمانية، ومخاطر استتباعاتها على الحريات العامة والفردية وحقوق الإنسان.

الفصل الخامس ينخرط في الجدل نفسه بشأن العلمانية وما بعد العلمانية، فالباحث الإيطالي من أصول تونسية عز الدين عناية يعرض لحضور الدين في الديمقراطيات الحديثة، ولنقد طرح العلمانية اليوم، فيلاحظ تسرّب الوهن إليه منذ عقود بعد أن هجره علماء اجتماع أمثال خوسيه كازانوفا José Casanova وبيتر برغر، ودفع فلاسفة أمثال يورغن هبرماس Jürgen Habermas وتشارلز تايلور Charles Taylor إلى الحديث عن "مجتمعات ما بعد علمانية" Post-Secular Societies، معتبرًا أن ذلك يفتح الباب لتعايش جديد بين الدين والعلمانية، ويقدّم فرصة لمراجعة مسلكَي معالجة الإسلام والمسيحية لعلاقة الدين بالسياسة والاجتماع.

أما الفصل السادس، فيقاطع فيه الباحث المغربي بدر الدين قرقبي تجربة الإسلام السياسي التونسي مع حركة "النهضة"، وتجربة الديمقراطية المسيحية مع "حزب المسيحية الديمقراطية" الإيطالي، على الرغم من اختلافهما في الزمان والمكان والظروف السياسية والثقافية والسياقات المحلية والدولية؛ إذ بينهما عناصر مشتركة تفيد في فهم مساهمة كل منهما في مسار بلاده الديمقراطي وطريقة تآلفه مع الحداثة، فقد قاد كلًّا من تحرر تونس من الاستعمار والتوحيد الوطني في إيطاليا نخبٌ طبّقت العلمانية في الحكم، كأول رئيس بعد الاستقلال الحبيب بورقيبة، الذي كانت دعوة "النهضة" إلى إقامة دولة إسلامية مجرد ردّ فعل ضد سياسته "العلمانية"، في حين بُنيت الديمقراطية المسيحية الإيطالية على قاعدةٍ أسسها حزب لويجي ستورزو Luigi Sturzo "الحزب الشعبي" اللاطائفي المتأثر ببيوس الثاني عشر المساند للديمقراطية، وكان الهدف مصالحة الكاثوليك مع السياسة. ويرصد الفصل أيضًا نقاط الاختلاف بين الجهتين، وكانت أهمَّها مركزة القرار في "النهضة" التي حالت دون بروز تيارات وفصائل لاحظت الدراسة تأثير نظيراتها في الحزب المسيحي الديمقراطي أيديولوجيًّا.

يسلّط القسم الثالث الضوء على السياقات الوطنية لحركات الإسلام السياسي، وفيه أربعة فصول:

في الفصل السابع، يتعرّض الباحث السنغالي سيادي دياميل نياني للإسلام الطرائقي التصوفي لدى غالبية السنغاليين، الذي كان عاملَ انسجام واستقرار اجتماعيَّين للسنغال التعددي سياسيًّا والمتنوع إثنيًّا، ثم لتيارات الإسلام المتطرف التي فرض وجودها تحديات على السنغال. ويحتج نياني بشدة على الرأي الذي يعتبر أن الإسلام الطرائقي كان مصدر هذا التطرف، ثم يسائل الطرائق الصوفية عن أسلوب ردّها على تحدي تيارات الإسلام السياسي الجهادي الراديكاليةِ سلطتَها الاجتماعية والسياسية والعقائدية.

وفي السياق ذاته، يطرح الباحث التركي نجم الدين دوغان في الفصل الثامن سؤالًا عن مدى قدرة خطاب "الحضارة الإسلامية" مع الكتّاب الأوائل أمثال مصطفى رشيد باشا، وييرميسيكيز محمد تشيليبي Yirmisekiz Mehmet Çelebi، ونامق كمال، ثم الجيل الذي رافق تأسيس الجمهورية التركية، أمثال عبد الله سيفيدت Abdullah se vědět وضياء كوك ألب، وغيرهم، والذي أعاد إحياءه حزب "العدالة والتنمية" التركي، على تبرير الخلفية الفكرية والأيديولوجية لسياسات التيار الإسلامي المحافظ التركي، متطرقًا إلى حيثيات ظهور المعارضة الإسلامية وملابساته في عهد نظام الجمهورية التركية، ثم يبحث الطريقة التي وظّف بها حزب "العدالة والتنمية" خطاب الحضارة الإسلامية.

أما الفصلان التاسع والعاشر، فلم يبتعدا كثيرًا عن الإشكالية التي أثارها دوغان ولكنْ حول أداء الإسلام السياسي التركي على الصعيد الاقتصادي وخصوصًا في فترات التنافس الانتخابي:

في الفصل التاسع، ينحو الباحث التونسي أيمن البوغانمي إلى ضرورة تجنّب اعتبار الإسلام السياسي مفارقًا في الجوهر للأيديولوجيات الاقتصادية الأخرى؛ إذ إن خطابه الاقتصادي قادر كغيره على التكيّف مع الأوضاع الفكرية السائدة والتوجّهات الاقتصادية الغالبة، فقد تبنّى الاشتراكية ورفض الرأسمالية في الفترة التي ساد فيها الفكر الاشتراكي، ثم تغيرت الأمور لديه بعد أن حظيت أمور استهجنها الاشتراكيون سابقًا على شبه إجماع منهم، مثل حق الملكية والمنافسة الشريفة وعدالة التجارة، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وفشل دولنة الاقتصاد.

وفي الفصل العاشر، يعتبر الباحث الفرنسي من أصول مغربية، سمير أمغار، أن الأحزاب الإسلامية التي انخرطت في الديمقراطية تحوّلت، كنظيراتها الأيديولوجية في أوروبا، إلى براغماتية تسعى عبر الانتخاب الديمقراطي لبلوغ سدة الحكم، كما في الجزائر، التي تخلّت فيها الحركات الإسلامية عن التحريض على العنف وتحالفت مع تشكيلات غير إسلامية وأحزاب حاكمة، وتبنّت التفاوض والحوار استراتيجيةً. أما اقتصاديًّا، فلا تختلف مواقف الإسلاميين الجزائريين عن مواقف غيرهم من التيارات الإصلاحية، فبعضهم يؤيد الليبرالية الاقتصادية واقتصاد السوق ويعتبرهما في الفاعلية الاقتصادية أفضل من بيروقراطية الدولة وتدخلها في المجال الاقتصادي، في حين يعارض إسلاميون آخرون ما يعتبرونه توجّهات رأسمالية للحكومة.

يضم القسم الرابع ثلاثة فصول:

الفصل الحادي عشر ركّز فيه الباحث الجزائري حسان حامي على ضربين من الضغوط خضع لهما الإسلام السياسي في الجزائر: أولًا، تحديد المرجعية، المتجسّد في المواجهة بين اتجاهين كبيرين: أتباع مالك بن نبي ومريديه (تيار "الجزأرة")، وتيار حركة "الإخوان المسلمين" بشقّيها المحلي والعالمي، التي "سيطرت عليها أوهام التنمية ومعاداة الإمبريالية والرجعية". ثانيًا، التنافس السياسي بعد دخول الأحزاب الإسلامية معترك العمل السياسي ولجوئها إلى المرونة الفكرية لإقناع جمهور الناخبين واستقطاب المناصرين. ويعرض الفصل بشيء من التفصيل لأسباب الصراع بين الأحزاب الإسلامية، على الرغم من وحدة مرجعيتها الأيديولوجية ومشروعها الإسلامي.

في الفصل الثاني عشر، ينطلق الباحث والناشط السياسي التونسي محمد القوماني، في تحليله تطور خطاب حزب حركة "النهضة" من بيان مؤتمرها في عام 2016، وفيه أن الحزب "تجاوز المبررات التي تجعل البعض يعتبره جزءًا مما يسمى ’الإسلام السياسي‘"، ثم يتتبّع الباحث مسار "النهضة" منذ تبنّيه خطاب الإسلام السياسي، وعلاقة هذا الخطاب الملتبسة بالسياسة والحداثة، أولًا من خلال صراعه مع العلمانية ودعوته إلى فصل الدين عن الدولة ورفعه شعار "الإسلام دين ودولة وعقيدة وشريعة ومصحف وسيف"، وصراعه ثانيًا مع "الإسلام الشعبي" و"الرسمي"، الذي حصر الدين في الشعائر وقضايا الآخرة، وأبعده عن كل دور سياسي واجتماعي، رافعًا في وجهه شعار "الحاكمية لله". ويصل القوماني إلى الحديث عن قيام "النهضة" بمراجعات نظرية وعملية وانخراطها بعد الثورة في العملية السياسية والمساهمة في صياغة دستور عام 2014، ثم كما سلف القول تخلّيها عن الإسلام السياسي وتركيزها على قيم الإسلام، مثل العدل والرحمة والوحدة والتآخي والتضامن والإنسانية والموروث العربي - الإسلامي.

الفصل الثالث عشر والأخير، يتأمل فيه الناشط السياسي التونسي والقيادي "النهضوي السابق" عبد الحميد الجلاصي، مفهومَ "المدنية" عندما يوصّف حزبٌ كبير مثل "النهضة" به نفسه تمييزًا له من الحركات الدينية الأخرى، أو الدولة بـ "المدنية" كما في الفصل الثاني من الدستور التونسي لعام 2014، تمييزًا لها من الدول الدينية، وتأكيدًا لأنها تحتضن على قاعدة المساواة جميع مواطنيها مهما كانت انتماءاتهم الدينية، وأن نظامها السياسي جمهوري، تخضع فيه المؤسسة العسكرية للسلطة المدنية. ومن خلال علاقته بحركة النهضة، يتساءل الجلاصي عن مدى حضور الدنيا في خطابها، والديمقراطية في فكرها السياسي وسلوكها، ويرى أن تسير الحركة في اتجاه يجعلها تتخلّى عن الرقابة القيمية التي يمارسها الدين على السياسة، لأنه ليس مطلوبًا من الأحزاب القيام بذلك.

اقــرأ أيضًــا

 

فعاليات