صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة "ترجمان"، كتاب الدولة العربية - معضلات التشكُّل المتأخِّر The Arab State - Dilemmas of Late Formation، من تأليف أدهم صولي، وترجمة مجد أبو عامر ويارا نصّار، وهو مؤلف من مقدمة وخمسة فصول وخاتمة، تتناول بالبحث "الدولة العربية الحديثة" وملابسات صراعاتها في الداخل والخارج، وأسباب ثبات أنظمة البعض منها، في خضم المحاولات الحثيثة لإقامة أنظمة ديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط وإمكان تعديل حدود دولها. يقع الكتاب في 312 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
لم يكن سهلًا البحث الأكاديمي عن "الدولة العربية" التي تبدو قابلة للتغيير، سواء من خلال تيارات أيديولوجية عابرة للدولة الوطنية، مثل القومية العربية والإسلاموية، التي نجت منهما حتى اليوم، أو بتدخلات خارجية؛ ما ولّد الكثير من التوتر السياسي والاجتماعي عند كل بادرة خروج من المراوحة القاتلة في الوضع الراهن، ومن إطلاق تحذيرات متكررة من محاولات لـ "تغيير خريطة المنطقة" قادمة من عواصم بعيدة ضمن خطط ما يسمى "شرق أوسط جديد"، وهي خطط يدعو بعضها لتنصيب أنظمة ديمقراطية، وبعضها الآخر "تأبَّط شرًّا"، ويرمي بصفاقة إلى إعادة النظر في حدود المنطقة.
في خضم المحاولات الأكاديمية عُرِّفت الدولة العربية تارة بأنها صناعة غربية، وتارة أخرى بـ "نظام دخيل في بيئة لا تقبله"، وأحيانًا بـ "كيان لا مقومات للدولة الحديثة فيه"، وغيرها من التعريفات. وفي تعريف مضادّ، صُوّرت الدولة العربية باعتبارها كيانًا سياسيًّا معبِّرًا عن تطلعات شعوبه وضاربًا بجذوره في تاريخ المنطقة.
وبين التعريفين يصف الكتاب الدولة العربية بكيان تطوَّر متأخرًا مقارنة بنظرائه في أوروبا، ويستعرض، في خضم المحاولات الخارجية الحثيثة لإضعاف الدولة في الشرق الأوسط، أسبابَ محافظة الدولة المتأخرة التشكُّل على تماسكها وثبات حدودها، رابطًا بين نظريات حقلَي السياسة المقارنة والعلاقات الدولية، ما يساهم في سد فجوة في أدبيات الدولة العربية الواقعة عند تقاطع المستويين المحلي والدولي، والمتميّزة بخصوصية قواها الثقافية والمادية التي تجسِّد سلوكها.
تعرّف طالبا العلوم السياسية مجد أبو عامر ويارا نصّار إلى النسخة الأصلية من الكتاب خلال دراستهما في معهد الدوحة للدراسات العليا حيث كان مؤلفُ الكتاب نفسه أدهم صولي أحد أساتذتهما، فوجدا فيه إجابات عن أسئلة كثيرة كانت تؤرق الطلاب حول الدولة العربية وكياناتها وهويّتها ومواطن قوّتها وضعفها ومبررات تشكّلها وبقائها والمساهمين في بنائها، وغيرها. ثم قارَنا هذه الإجابات بالأدبيات العربية الكلاسيكية حول الدولة فلمسا فجوة معرفية أمام القارئ العربي كان لا بد من ملئها، فعزما على ترجمة الكتاب، مستعينَيْن بالمؤلف لتذليل صعوبات كانت تعترضهما في الترجمة، وكان أشدّها تحديًا مسألة إيصال ترجمة نصٍّ حافل بالمسائل المفهومية والنظرية إلى غير المتخصصين، وزاخرٍ بمفاهيم اجتماعية تطورت زمنيًّا في البيئة الأنكلو-أميركية، إلى لغة أخرى ولو كانا يمتلكان ناصيتها، وهي مسألة استهلكت جلسات ومداولات كثيرة بين المترجمَين والمؤلف، خرجوا بعدها بصيغة ميسّرة وترجمة أمينة تعكسان المعاني الإنكليزية الأصلية المقصودة وتجعلان الكتاب صالحًا لطلبة العلوم السياسية الأكاديميين والقرّاء المثقفين غير المتخصصين على حدٍّ سواء، متجنبَيْن الخروج بترجمة تجترّ القديم وتنتج فوضى مفهومية جديدة في الأدبيات العربية، وكان عملهما دافعًا للمؤلف لكتابة مقدمة للطبعة العربية وصف فيها الكتابة عن الدولة العربية بأنها أكثر من مجرد مهمة بحثية، مشبِّهًا إياها برحلة تُسبَر خلالها الدلالات المفهومية للدولة العربية انطلاقًا من تخيُّل نظري لتطورها وسلوكها وخصوصيتها التاريخية، فكانت ترجمة الكتاب "رحلة" بالمعنى الحقيقي للكلمة.
يعالج الكتاب موضوعَ الدولة العربية بمقاربة سوسيوتاريخية واستنادًا إلى نظريات عابرة للتخصصات ومستقاة من علوم العلاقات الدولية، والاجتماع، والتاريخ، ودراسات الشرق الأوسط، طارحًا أسئلة إشكالية تحاول إثارة نقاشات علمية في الأوساط الأكاديمية في شأن الدولة العربية ومميزاتها، وما يفرّقها عن النظام السياسي، وظروف نشأتها بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، وعواقب سلوك بعض الأنظمة خلال محاولاتها بناء دول، متناولًا حالات عامة لدول عربية عدة، ومتعمّقًا في شرح تفصيلي لتشكُّل دولتين على وجه الخصوص هما: المملكة العربية السعودية والعراق، مبيِّنًا أن بقاء دولة وطنية مئة عام بعد نشأتها لا يعزى إلى العوامل المحلية فحسب، بل إلى العوامل الدولية أيضًا.
أما المرجوُّ من الكتاب، فأن يساهم في نقاشات عن الدولة العربية كانت ولا تزال جارية نظريًّا وإمبريقيًّا، وتدور حول علاقات الأنظمة الحاكمة بمجتمعاتها، والصراعات القائمة حول القيم السياسية الأمثل لإدارة هذه المجتمعات، وخصوصًا بعد ثبات المنظومات العربية الحاكمة في وجه الانتفاضات السياسية التي ثارت ضدها للمطالبة ببناء دولة حديثة محصَّنة أمام التدخلات الخارجية، مُرجِعًا هذا الثبات إلى تجذُّر الطائفية السياسية، وإلى كون الانتفاضات لم تخرج في نضالها عن إطار الدولة، خصمها الذي قمعها خلال عشرات السنين، ما أسفر عن صعوبة بالغة في أي تغيير سياسي سلس وغير دموي ويحافظ على البلاد وأهلها ووحدتها.
تقدِّم الطبعة العربية للكتاب تفسيرًا مفيدًا لنتائج انتفاضات عام 2011 المتفاوتة في العالم العربي، وتُظهر كيف آلَ النظام الائتلافي لشرائح واسعة في السلطة إلى حكم عائلي في نهاية المطاف، مصحوبًا بانقسامات اجتماعية وقبَلية وطائفية وإثنية، وما تبع ذلك من انهيار لهذه الدول في ظل حروب أهلية عندما حاولت الأنظمة الحاكمة قمع الانتفاضات، وكيف ترافق ذلك كله مع الحفاظ على الكيان الوطني وثبات الحدود في هذه الدول، وإن جرى خرقها خلال فترة وجيزة مع داعش والكرد وأمثالهما، كما أنه يستعرض آخر التطورات في المنطقة العربية وتباين سيرورات بناء الدول فيها. وفي تفسير التباينات المذكورة آنفًا، يمعن الكتاب النظر في عوامل عدة، أولها: كيفية بناء الدولة منذ نشأتها، وثانيها: التركيبة الاجتماعية للدولة، وثالثها: موقعها الجيوسياسي، على الرغم من أنه أخطأ في نتيجة التحليل في ما يخص مصر وتونس، حين توقّع بتفاؤل إمكان التغيير السياسي فيهما، على النقيض مما آلت إليه المجريات هناك والانتكاسات التي أصابت البلدين بعد كتابه على عكس ما توقّع.
وفي خضم الحديث عن متانة الأنظمة والاستقرار النسبي اللذين سادا بعض الممالك العربية في ظل الانتفاضات، مثل السعودية والكويت والأردن وقطر وغيرها، قدّم الكتاب في حالة السعودية تفسيرات لذلك، مثل التجانس النسبي لمجتمعها، وثروتها النفطية، وتوافر الحماية الدولية، واحتكار نظامها مصادر بناء الدولة الثلاثة، أي: العنف والأيديولوجيا والموارد الاقتصادية، وثباتها خلال الانتفاضات بقوة على سياستها الخارجية التقليدية تاريخيًّا، المتمثلة في تمتين التحالف مع القوى المحافظة على "ستاتيكو" دول الخليج الراهن، وتفعيل التصدّي لمحاولات استغلال وضع الجوار المتوتر من الإخوان المسلمين وإيران وكل القوى التي حاولت تغيير ميزان القوى لمصلحتها.
يحلِّل الفصل الأول "الدول والفضاءات الاجتماعية" مفهوميًّا الدولةَ وفضاءاتها الاجتماعية بوصفها سلسلة من عمليات التشكل والتفكك، ويدرس طبيعة الفضاءات الاجتماعية التي تحدِّد الديناميات السياسية وسيرورات تطور الدولة.
ويعرض الفصل الثاني "تشكيل الشرق الأوسط: الأناركية الدولية والاستجابات المحلية"، العوامل التي أتاحت تشكل الدولة في الشرق الأوسط، ويدرس رسم الحدود السياسية في ضوء توسّع التنافس الأوروبي في العالم والشرق الأوسط، والعوامل الجيوسياسية في ظهور الفضاءات الاجتماعية في المنطقة.
ويراجع الفصل الثالث "الدولة المتأخرة التشكُّل: الأنطولوجيا والمعضلات وشروط البقاء"، ما سبق عرضه من فضاءات اجتماعية وليدة، مركِّزًا على تركيبتها، وطبيعة الدولة المتأخرة التشكل، والمعضلات التي تواجهها أثناء محاولتها التأقلم مع الضغوط الداخلية والخارجية.
أما الفصل الرابع "المملكة العربية السعودية: بقاء الدولة في مجتمع متجانس"، ففيه عرض تحليلي تاريخي معمق لتشكُّل الدولة السعودية وسلوكها، تتخلله دراسة للقوى التي كفلت بقاء الدولة والنظام. ويخالف الفصل الطرائق السابقة التي فسّرت بقاء الدولة السعودية بالتركيز على الإسلام وعائدات النفط فقط.
ويتناول الفصل الخامس والأخير "العراق: بقاء الدولة في مجتمع غير متجانس"، أسئلة ملحّة عن تشكّل الدولة وتَفكّكها في حالة العراق كونه دولة غير متجانسة التركيب وذات موقع استراتيجي، وأهمها سؤال: كيف يستمرّ العراق دولة ذات إقليم ترابي رغم انقساماته الطائفية والإثنية؟
يشبه كتاب الدولة العربية مسافرًا في قطار، خرج في محطةِ "رحلة"، كما وصفها المؤلف، ليستقر بين أيادي القرّاء الأكاديميين والباحثين والمثقفين العرب، الذين يثور الأمل بعد استقلالهم القطارَ متابعين "الرحلة"، في إنتاجهم المزيد من الأسئلة والنقاشات والبحوث بشأن الدولة العربية ليقدّموها في المحطة التالية.