تاريخ البحر في تونس وذاكرته في الفترة الحديثة بين المنطوق والمكتوب

18 أغسطس،2024

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن "سلسلة أطروحات الدكتوراه"، كتاب تاريخ البحر في تونس وذاكرته في الفترة الحديثة بين المنطوق والمكتوب، ويحتوي على ثلاثة أقسام، في كل قسم منها فصلان، تتمحور جميعًا حول أحد عناصر المجال البحري في تونس، وهو عنصر "المنطوق" اليومي ومكتوباته المتناثرة، وتاريخه ومعناه والهجنة التي دخلت عليه وأسبابها وظروفها. مؤلفة الكتاب هي المؤرخة الأكاديمية الصغيرة بنحميدة، الأستاذة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة صفاقس، وهي متخصصة في التاريخ البحري عمومًا، والبحري التونسي خصوصًا، ألّفت عدة أعمال في هذا المجال، مطلعة على الأنثروبولوجيا والإثنوغرافيا البحرية والتراث البحري غير المادي، وسطّرت بحوثًا في تأثيل (إيتيمولوجيا) الكلمات البحرية المنطوقة في المجال البحري بتونس من خلال بعض النماذج. يقع الكتاب في 272 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.

"منطوق/ مكتوب" – "وثيقة/ معاينة"

يتناول كتاب تاريخ البحر في تونس وذاكرته في الفترة الحديثة بين المنطوق والمكتوب عيّناتِ واحدٍ من عناصر المجال البحري في تونس؛ وهو عنصر "المنطوقات" اليومية لهذا المجال الشديد الاتساع ذي العناصر الكثيرة (العناصر البشرية، القرى البحرية، المدن الساحلية النشطة في مجال الصيد البحري والملاحة، الموانئ، المراكب البحرية وصناعتها وقيادتها، طرائق الصيد البحري وتاريخيتها، تاريخ الصيد البحري والملاحة ... وغيرها). وهو محاولة للكشف عن جزء من تاريخ تونس البحري، المستحدَثةِ دراستُه أكاديميًّا في البلاد التونسية، مقتصرًا على منطوقات فترة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وجامعًا فيه المنطوق والمكتوب، والوثيقة والمعاينة الميدانية، ومنتهجًا في الدراسة سبيل الإثنوغرافيا البحرية والأنثروبولوجيا.

سواحل جاذبة وتعمير فمجتمعات

يتكون العمل من ثلاثة أقسام، يشتمل كل منها على فصلين، في كل فصل عنصران رئيسان وعنصران فرعيان:

القسم الأول، "البحر والمجموعات البحرية في تونس"، يتعرّض فصله الأول "المجال البحري في تونس" لأهمية السواحل التونسية جغرافيًّا في تطور الصيد البحري والملاحة والفصليات البحرية وحرفة صيدها ورصدها القديمة، وكيف ساعدت التيارات البحرية والتضاريس القاعية في الملاحة وتعمير السواحل التونسية ونشوء قرى ومدن، منذ القرن الثاني عشر، ذات مجتمعات حوت العناصر القبلية والعربية والمتوسطية، في تدعيم أنشطة الفلاحة في البدو والحضر، وتطور التجارة البرية والبحرية حتى أواخر القرن التاسع عشر. ومن هذا التعمير والتجمعات، تكوّنت المنطقتان الساحليتان الشرقية والشمالية وما يحيط بهما من مجموعات سكانية عربية وأوروبية استوطنتها في فترات تاريخية مختلفة، مثل الموريسكيين والأندلسيين، الذين امتهنوا أنشطة مختلفة، ولا سيما الصيد والتجارة البحريَّين وحراسة الموانئ وصناعة السفن. وتكونت كذلك المنطقة الساحلية الجنوبية، حيث العناصر العربية، والأخرى المتوسطية كالمالطيين والإيطاليين الذين استوطنوها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ونشطوا في الفلاحة والتجارة البرية والبحرية والصيد البحري. ومن المنطقة الجنوبية تتكون السواحل الجنوبية الغربية التي تمتد حتى الحدود مع ليبيا، وتحوي خليج قابس وجزر قرقنة وجربة، وقد مارست مجموعاتها السكانية - ومعها مجموعات متوسطية - نشاط الصيد البحري والملاحة.

وعرّج الكتاب على مخلّفات الفينيقيين والرومان البحرية في الصيد والملاحة، من لوحات فسيفسائية وشواهد أثرية، مثل بقايا أحواض تمليح الأسماك في سواحل قرقنة وبحيرة البيبان، كما عرّج على الحضور العربي في المجال البحري، وفضله في التجهيزات البحرية والصناعة وتدعيم البحرية التونسية، وصولًا إلى الحضور العثماني، وما ساهمت به شعوب هذه الحضارات في نشاطات القرصنة والتجارة البحرية وتشكيل هوية المجال البحري التونسي.

في الفصل الثاني "المجموعات البحرية ونشاطها على السواحل التونسية"، نبذة عن أهمّ الجماعات البحرية وأصولها، وأسماء عائلات تقلدت مناصب في المجال البحري، يقال إن أفرادها لا يزالون حتى اليوم يمارسون الصيد البحري في تونس.

في القسم الثاني، "بين المحلي والوافد: تاريخ التقنيات في البحر"، يستعرض الفصل الثالث، "من إنتاج التقنية إلى إنتاج اللفظ المحلي"، التقنيات المحلية في الصيد البحري والملاحة وما يتواتر بشأنها من كلمات، مقدِّمًا طريقة إنتاجها وأهم تسمياتها. وهي تقنيات يستعمل فيها البحّار مكونات محيطه الطبيعي (كأشجار الزيتون والنخيل والحَلفاء) للرصد وتكوين مصائد، وتستمدّ أسماءها من مجال الفلاحة أو المساكن التقليدية أو أسماء الحيوانات البرية.

ويبيّن الفصل الرابع، "التسرّب التقني والانزلاق اللفظي"، أن هذه التقنيات وأسماءها سرعان ما استُبدلت أخريان بهما جاءتا مع العناصر الأجنبية المشتغلة في المجال البحري، صيادين ومالكي أساطيل ومستثمرين. فسادت ألفاظ في تقنية الصيد مثل: "مانيقا" و"سكافندري" و"ماتنزا" و"لمبارا" ... وغيرها؛ وفي أجزاء المركب وقيادته مثل: "أنتينا" و"سانتينا" و"أيصا" ... وغيرها. فكان لتسرّب التسميات الأجنبية إلى مجال تونس البحري وما نتج من اختلاطه بالتسميات العربية أثر في تنوع المجتمع البحري المحلي، وخطاب البحّار اليومي الذي وُجد محفوظًا في الذاكرة المؤرشفة.

القسم الثالث والأخير، "ثقافة البحر بين المنطوق واليومي"، يبين أن تداخل المجموعات البشرية، المحلية والوافدة، واندماجها، تقنيًّا وألسنيًّا في تونس، انعكس إثراءً للمنطوق اليومي للعاملين في البحر. لكنه ثراء بقي، في رأي المؤلفة، منقوصًا في أعمال المؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا التاريخية. فخصصت الفصل الخامس، "المنطوق حول البحر: التوافق والاختلاف"، لجمع المنطوق اليومي على السواحل التونسية وخصائصه بحسب المناطق من المصادر المكتوبة والمصادر الشفوية، والبحث في توافقات نطقه واختلافاتها بين المناطق البحرية المختلفة على السواحل التونسية. وهو بحث قاد إلى تبيّن خصوصية كل منطقة، وبداية تشكّل ملامح ثقافة البحر.

أما الفصل السادس والأخير، "البحر واليومي: تشكّل ثقافة البحر"، فبحث تقاسيم الحياة اليومية للبحّار، وحضور البحر في عاداته وتقاليده المتصلة بالغذاء أو السكن أو اللباس، كما تتبّعَ مواطن عمل البحّار، ورسم مواطن تحركاته البحرية بأسمائها بحسب ذاكرة اليوم وأبعاد هذه الأسماء وحكاياتها. ويتطرق الفصل أيضًا إلى طقوس البحّار في المناسبات، كالزواج والختان والخرجات البحرية وطقوس العلاقة مع الأولياء الصالحين، ليس الطقوس التي تختص بالرجل فحسب، بل بالمرأة أيضًا؛ فهي تشترك مع الرجل في يوميِّ البحر، في العمل، أو إعداد الشباك وتجهيزها للصيد، أو الاحتفال بالمناسبات، أو طلب الرجل عونها قبل الخروج إلى البحر.

تاريخ البحر ودوره الكامل

لقد بين كتاب تاريخ البحر في تونس وذاكرته في الفترة الحديثة بين المنطوق والمكتوب، استنادًا إلى أهم الكتب والدراسات المختصة، أن التاريخ البحري ليس تاريخ غزوات وقرصنة واستعمار فحسب، بل هو أيضًا تاريخ التقنيات البحرية، ونشاط الصيد البحري، والموانئ، والمراكب وتقنيات صنعها، والمجموعات البحرية الفاعلة في المجال البحري، في السلم كما في الحرب، ودورها في كتابة تاريخ تونس البحري، بدءًا بالعنصر البشري. وكان من العرب ابتداءً، ثم من العناصر الأجنبية (العثمانيون، والكورغليون، والفرنسيون، والمالطيون، واليونانيون، والإيطاليون، وأهل جنوَى، والموريسكيون) الذين نشطوا في القرصنة والتجارة والصيد البحريَّين وقيادة الأساطيل والملاحة.

ثم تأتي الموانئ، التي ساهمت في إكمال هوية المجال البحري في تونس، باعتبارها الأصل في إنشاء المدن الساحلية، ولا تزال أغلبيتها عاملةً حتى اليوم، لما تمثّله من مواضع للذاكرة والتاريخ.

ثم يلي ذلك المركب، العنصر التالي في الأهمية بعد الموانئ في التاريخ البحري، وقد حدد الكتاب أنواعه، وصانعيه، وتقنية صنعه، وتاريخها، وبيّن أن ذلك كله متوسطي متعارف عليه، وورد ذكره في مراجع كثيرة في مجال الإثنوغرافيا البحرية.

ويتطرق الكتاب إلى دور السلطة في النشاط البحري على صعيدَي التجارة البحرية والقرصنة، فيشير إلى إيلاء السلطة التجارةَ البحريةَ عنايتَها، وإلى احتكارها التبادلات، وتجهيزها الأساطيل للتجارة وتحسينها دُور الصناعة، وجلبها اليد العاملة المتخصصة في صنع المراكب وإصلاحها وفي قيادة الأساطيل. وهو ما يؤدي حتمًا إلى إنتاج التقنيات في ظل الخضوع للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية للإيالة التونسية، التي تتساءل المؤلفة عنها: أليست السلطة هي التي توجه اهتماماتها إلى نشاط القرصنة البحرية وتدعمه بصفته أحد أهم مواردها الرئيسة؟ ألم يكوّن أعيان الدولة مصالحَ في ذلك النشاط البحري، فأصبحوا مالكي أساطيل القرصنة والمتحكمين في عمليات الغزو والأَسر وحشد الغنائم، على غرار مصطفى خزندار وعدد من البايات الحسينيين؟

وفي أثناء التفات السلطة إلى القرصنة والتجارة البحرية، لم يحظَ الصيد البحري بأهمية إلّا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، حين تفطّن اليونانيون والإيطاليون والإسبان والفرنسيون والمالطيون والجنويون إلى ثراء مخزون الشواطئ التونسية، من أسماك ومرجان؛ فتسللوا إليها واستغلوها، بل سيطروا عليها، بدعمٍ من الاستعمار وبموجب اتفاقيات تعود تاريخيًّا إلى القرن الثاني عشر جدّدت الإيالة التونسية العمل بها، وسمح خير الدين التونسي وحمودة باشا الحسيني باستمرار الوجود الكثيف للعنصر الأجنبي للاستعانة به في تكثيف التعمير.

نتيجة الجهد البحثي في الكتاب

ترى المؤلفة أن الجهد الذي بذلته لدراستها في "اليوميّ" لم يؤتِ أُكُلَه، إلّا بدخولها الميدان، وتأسيس عمل إثنوغرافي لدعم الدراسات التاريخية. وقد حصّلت، نتيجةً لهذا الجهد والتجميع، كلماتٍ متداوَلةً في المجال البحري تمثّل حصيلة الذاكرة المحلية في البحر، مع شيء من الذاكرة المكتوبة في بعض المصادر. وهو كمٌّ لا تعتبره نهائيًّا؛ لأن المجال البحري في رأيها لا ينضب، ويحتاج إلى التعجيم وعقد مقارنات على مستوى مغاربي، وحتى إقليمي. وإذ راوح البحث بين التاريخ والذاكرة، فإنه فتح لنا بابًا للتعمق في عناصر الثقافة البحرية في تونس بوصفها ثقافة محلية ومتوسطية في آن واحد، وتترجم مفهوم التثاقف المتوسطي.

اقــرأ أيضًــا

 

فعاليات