صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب وثائق الأمم المتحدة في المسألة اليمنية (2011-2018)، ضمن سلسة تتناول الانتفاضات العربية الحديثة التي استعرت بعد "الربيع العربي"، ليس من باب تحليل الثورات التي تفجرت في بلاد اليمن السعيد وجذورها وأسبابها ونتائجها، بل لعرض وثائق توضح تطور النزاع والتعامل المبكر لأعلى الهيئات الأممية وأجهزتها المختلفة معه لمدة سبع سنين - وبخاصة بعد استخدام الجيش اليمني السلاح ضد المتظاهرين - بتعيين مستشار خاصّ للأمين العام للأمم المتحدة وإرسال ثلاثة مبعوثين خاصين لحل الأزمة، وملابسات عملهم، كما يتناول "مبادرة مجلس التعاون الخليجي" لانتقال السلطة سلميًّا من على عبد الله صالح إلى نائبه عبد ربه منصور هادي مقابل منحه الحصانة وإعفائه من المساءلة. وتنقسم الوثائق حول تطورات الأزمة اليمنية في الكتاب إلى قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وبياناته الرئاسية، وقرارات الأمم المتحدة الصادرة عن جمعيتها العامة، ومجلس حقوق الإنسان التابع لها، وبيانات أمينها العام، وكذا تقارير المبعوثين الخاصين الثلاثة لحلّ الأزمة اليمنية بين عامي 2011 و2018 (مع أن هذه الأزمة لم تتوقف عند عام 2018، ولا تزال فصولها تتوالى حتى يومنا هذا). يتألف الكتاب من 528 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
لليمن تاريخ موغل في القدم شهد حضاراتٍ ودولًا كثيرة ومتعاقبة. ومع أن بلد سد مأرب زراعي بامتياز، فإنه ظلّ من بين الدول الأقل نموًّا واستقرارًا في تاريخه الحديث، من تأسيس دولة مستقلة فيه عن العثمانيين عام 1918 (المملكة المتوكلية) إلى ثورة 26 أيلول/ سبتمبر 1962 التي أطاحت الإمامة وأعلنت الجمهورية العربية اليمنية من دون الجنوب، الذي كان يخضع للاستعمار البريطاني، وحتى بعد استقلال الجنوب عام 1967 وتسميته جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، ثم توحيد شطري اليمن تحت اسم الجمهورية اليمنية في 22 أيار/ مايو 1990، وصولًا إلى تفجر الانتفاضة الشعبية فيه ضد حكم الرئيس صالح، وتدخل الأمم المتحدة بإرسالها الوسيط الرئاسي المخضرم الأخضر الإبراهيمي لمحاولة تسوية الأزمة، وما تلا ذلك من أحداث أدت إلى سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء.
انطلق الشعب اليمني من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب في انتفاضته شبهَ موحّد في مطالبته بإسقاط صالح، صاحب أطول فترة حكم بين الرؤساء العرب: 12 سنة رئيسًا لليمن الشمالي (1978-1990)، و22 سنة رئيسًا لليمن الموحد (من عام 1990 إلى تنازله في عام 2012 إثر احتجاجات شباط/ فبراير 2011). وهو الرئيس الداهية الذي حوّل البلاد مصدرَ ثروة هائلة له ولأولاده وأقربائه، بينما يئنّ الشعب تحت وطأة الفقر والديون، واللاعب على حافات السياسة الخطرة، حتى إنه استعمل ورقة تنظيم "القاعدة" ليقيم علاقات مميزة مع الولايات المتحدة الأميركية تحت شعار "الحرب على الإرهاب". وقد استطاع بالحفاظ على السلام مع سكان الجنوب إنشاء دولة الوحدة في عام 1990 حتى عام 1994 حين طالب "الحراك الجنوبي" بالانفصال. فوقعت حرب الانفصال اليمنية من 27 نيسان/ أبريل 1994 إلى 7 يوليو/ تموز 1994 (استمرت شهرين وعشرة أيام) بين حكومة اليمن الموحّد برئاسة صالح وجمهورية اليمن الديمقراطية، التي أنشأها في 21 أيار/ مايو 1994 من جانب واحد نائب صالح ورئيس اليمن الجنوبي السابق (قبل الوحدة) علي سالم البيض مدعومًا من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت، وكانت نتيجة هذه الحرب انتصار الحكومة وهرب البيض وقادة الانفصال إلى خارج البلاد.
حافظ المنتفضون في بداية احتجاجات عام 2011 على سلمية تحركاتهم، على الرغم من استفزازات صالح وتعرضهم للقنص والبلطجة من قواته، إضافة إلى توسيع انتفاضاتهم إلى 17 محافظة، شمالًا وجنوبًا ووسطًا. وهو ما يدل على وصول معارضة الاستبداد والفساد إلى جميع مكونات الشعب اليمني وأطيافه وطوائفه، حتى إن المرأة شاركت بكثافة في الاحتجاج، على الرغم مما لها من رمزية في مجتمع شديد المحافظة، ولا عجب عندها من تكريم المرأة اليمنية توكل كرمان واقتسامها جائزة نوبل مع أخريين من ليبيريا، لـ "نضالهن السلمي لحماية المرأة وحقها في المشاركة في صنع السلام".
كان الإبراهيمي يُجبه دومًا بمراوغة صالح في وقف إطلاق النار، ولعبه على معادلة ضمان ولاء القبائل بالمناصب والموارد الشحيحة في بلد يعتمد على المساعدات الخارجية وشهد تغيير أربعة رؤساء في الشمال قبل صالح، وخمسة رؤساء في الجنوب من الاستقلال إلى قيام دولة الوحدة. فعيّنت الأمم المتحدة بدلًا منه وسيطها الأول المغربي، جمال بنعمر، الذي تابع أعمال "مؤتمر الحوار الوطني" بين صالح والمعارضة تسعة أشهر حتى توقيع مقرراته. لكن صالح ذهب على الرغم من توقيعه إلى خيارٍ دفع باليمن إلى أتون الهاوية، حين تحالف مع أعداء الأمس الحوثيين وسهّل عليهم دخول صنعاء ومنشآتها العسكرية والمدنية، ووضع الرئيس هادي قيد الإقامة الجبرية. فجمع الحوثيون الأطراف اليمنية وهادي في صنعاء لتوقيع "اتفاق السلم والشراكة"، الذي ما لبثت حكومة هادي الشرعية أن تراجعت عنه؛ لأنه وقع تحت تهديد السلاح. فاندلعت مواجهات عنيفة أدت إلى تمدّد جماعة الحوثي إلى مدن الوسط والجنوب؛ الأمر الذي أدى بدوره إلى توغل قوات "التحالف العربي" الخليجية بقيادة السعودية في الأراضي اليمنية وإطلاقها عملية "عاصفة الحزم" (لاحقًا "إعادة الأمل")، واتهام المملكة لبنعمر بالانحياز إلى تلك الجماعة. فاستُبدل الموريتاني إسماعيل ولد الشيخ أحمد به، فنجح في جمع أطراف النزاع في الكويت عام 2016 مدة شهرين في تفاوض لم يسفر عن أي نتيجة. وقد طالب الحوثيون وحزب صالح (المؤتمر الشعبي العام) هذه المرة بإبعاد ولد الشيخ، متهمين إياه بالانحياز إلى دول التحالف؛ فاستَبدل أنطونيو غوتيريش البريطانيَّ مارتن غريفيث به مبعوثًا ثالثًا إلى اليمن، استمر يحاول جاهدًا وقف آلة الحرب اليمنية التي تحولت حروبًا بالوكالة كشقيقتيها في ليبيا وسورية.
ملحوظة: لم يتطرق الكتاب إلى ذكر المبعوث الأممي الرابع إلى اليمن الذي خلف غريفيث، وهو هانز غروندبرغ، لأن تسلمه مهماته كان في عام 2021، وهو لا يدخل ضمن المجال الزمني للكتاب، أي الفترة 2011-2018، فاقتضى التنبيه.
وقد رأى المُعِدَّان، عبد الحميد صيام وإنعام سالم، أن دراسة كمية كبيرة من الوثائق تجعل التبصّر فيها لاستخلاص الدروس من النزاع اليمني أمرًا معقدًا، وبخاصة بعد تحوّله صراعًا إقليميًّا ودوليًّا ابتداء من 25 آذار/ مارس 2015 مع "عاصفة الحزم"، فقررا – حفاظًا على حجم معقول للكتاب - اختيار عينات من التقارير التي تتكرر فيها أجزاء بعينها من تقارير سبقتها، كما في تقارير الفريق المستقل للتحقيق في انتهاكات حظر السلاح على اليمن على سبيل المثال، ففيها تتكرر معلومات سبق نشرها قد تصل إلى مئات الصفحات ومن غير المنطقي إثباتها جميعًا، مع إشارتهما إلى آلية العودة إلى القرارات في حال أراد الباحثون التوسع، وإلى مواطن الحذف في هوامش تحمل توقيعهما. وأشارا أيضًا إلى الوثائق الأممية التي تتضمن مرفقات وأشكالًا وصورًا وخرائط وغيرها/ على نحو ما فعلا مع الوثائق المتكررة المعلومات. أما بيانات مجلس الأمن الصحافية، فلم يُثبتها المعدّان في الكتاب، لأنها ليست وثائق رسمية.
يحشد الكتاب وثائق من خمس جهات أممية هي: مجلس الأمن (10 قرارات تُعتبَر وثائق رسمية وتُعطى رقمًا تسلسليًّا)، ورئاسة مجلس الأمن (8 بيانات رئاسية ذات أهمية خاصة، لأنها لا تصدر إلا بإجماع الأعضاء الخمسة عشر ولو استمر التفاوض حولها أيامًا)، والأمين العام للأمم المتحدة (5 تقارير)، وفريق المبعوثين الثلاثة المعني باليمن (4 تقارير في كل منها إحاطات كل مبعوث وتعليقات الأمين العام وسفير اليمن ومنسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة عليها)، ومجلس حقوق الإنسان (5 قرارات و7 تقارير). ويضيف إلى وثائق الهيئات الدولية أخرى خليجية (مبادرة مجلس التعاون الخليجي والاتفاق بشأن آلية تنفيذها)، وأوروبية (اتفاق ستوكهولم)، ووطنية (مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الذي استمر لأكثر من تسعة أشهر، و"اتفاقية السلم والشراكة"، و"اتفاق حول الحديدة وموانئها" و"وإعلان تفاهمات حول تعز").
ومن بين القرارات الأممية المتخذة في مجلس الأمن، تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، القرار رقم 2140 (يتعلق بحظر إيصال السلاح إلى اليمن)، الذي كوَّنت الأمم المتحدة لجنة لمراقبة تطبيقه سميت "لجنة 2140" وإقرار العقوبات في حق مخالفيه، جهات كانت أو أفرادًا أو كيانات، بحجز أموالها أو أصولها المالية، المباشرة وغير المباشرة، وحظر سفر أعضائها، كما كُلفت برصد انتهاكات حقوق الإنسان في اليمن، وخصوصًا النساء والأطفال الذين يُزجَّون في الحرب. ومن اللجان التي أنشئت في خضم الأزمة اليمنية: "لجنة مؤتمر الحوار الوطني"، و"لجنة الشؤون العسكرية"، و"لجنة إنشاء هيئة وطنية مستقلة لحقوق الإنسان"، و"لجنة صياغة مشروع دستور جديد"، و"اللجنة العسكرية لإزالة المتاريس ودمج القوات المسلحة"، و"لجنة مكافحة الإرهاب"، و"لجنة إطلاق السجناء"، و"لجنة المقاومة الشعبية في أبين"، و"اللجنة الوزارية للتصدي لتجنيد الأطفال"، وغيرها.
وعلى الرغم من قوة بعض قرارات مجلس الأمن وإلزاميتها لاعتمادها تحت الفصل السابع، مثل القرار رقم 2216 (2015)، الذي اعتُبر "خريطة طريق" لحل الأزمة اليمنية، فإنها لم تفلح في حل النزاع اليمني؛ فالمشكلة الأصعب كانت تكمن على الدوام في تحوُّل النزاع اليمني صراعًا إقليميًّا ودوليًّا لم يأبه أطرافه بقرار حظر السلاح بموجب القرار 2140 (2014)، وتدخّلت مباشرة في النزاع.