عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يوم الأحد 12 كانون الثاني/ يناير 2020، ندوةً بعنوان "الأزمة الأميركية - الإيرانية: قراءة في التداعيات الإقليمية". وتأتي هذه الندوة عقب استهداف الولايات المتحدة الأميركية بغارة جويّة نفّذتها طائرة مسيّرة، موكبًا في مطار بغداد كان يقلّ قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني، اللواء قاسم سليماني، ونائب رئيس ميليشيات هيئة الحشد الشعبي في العراق، جمال جعفر آل إبراهيم، المعروف باسم أبو مهدي المهندس، وثمانية آخرين؛ ما أدى إلى مقتلهم جميعًا. وقد تناولت الندوة، التي ترأّسها الباحث في المركز العربي عبد الفتاح ماضي، أسباب الأزمة وسياقاتها وتداعياتها الإقليمية.

استهل مروان قبلان، الباحث ومدير وحدة الدراسات السياسية في المركز العربي، مداخلته بالإشارة إلى تداعيات مقتل قاسم سليماني على العلاقات الأميركية – الإيرانية، وأشار إلى أن الجولة الأخيرة من جولات الصراع بين البلدين كشفت عدة أمور: أولًا، أن الولايات المتحدة تمكّنت من إرساء قواعد جديدة للاشتباك مع إيران. ثانيًا، محدودية قدرات الردع الإيراني في مواجهة واشنطن، بدليل أن الولايات المتحدة قامت بقتل قائد عسكري بارز (سليماني) من دون أن تخشى تداعيات الرد الإيراني. ثالثًا، أن الولايات المتحدة ربحت هذه الجولة من الصراع بعد أن كانت طهران قد ربحت الجولة السابقة، التي بلغت ذروتها في إسقاط طائرة الدرون الأميركية في تموز/ يوليو 2019، ثم ضرب منشآت آرامكو في السعودية من دون أن يحصل رد أميركي على ذلك. رابعًا، مقدار الاختراق الأمني الأميركي لإيران؛ فالولايات المتحدة تمكنت من رصد تحركات سليماني من بيروت إلى دمشق وصولًا إلى بغداد. خامسًا، أن مقتل سليماني قضى على أي فرصة لعقد مفاوضات أميركية – إيرانية قبل الانتخابات الأميركية القادمة.

أما عن تداعيات مقتل سليماني على العلاقات الإيرانية بإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فأشار قبلان إلى أن ترامب يعتقد أنه حقق إنجازًا كبيرًا فيما يتعلق بوضعه داخل الولايات المتحدة، لأنه وجّه ضربة قوية إلى إيران من دون أن يحصل رد مهم على ذلك، ومن دون أن يتورط في حرب معها في سنة انتخابية حاسمة. وأضاف أن الضربة الأخيرة رجّحت كفّة دعاة التصعيد مع إيران في إدارة الرئيس ترامب، بعد أن انضمت إليهم جينا هاسبل، مديرة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وهي التي أشارت على ترامب بأن ثمن عدم تصفية سليماني أكبر من تداعيات الرد الإيراني المتوقع.

وتابع قبلان بخصوص تداعيات مقتل سليماني على سورية بقوله إن الضغط الأميركي سيزداد على الميليشيات الإيرانية بهدف تقليص نفوذها في مناطق شرق الفرات خاصة، وبما يسمح بإغلاق الكوريدور البري بين إيران وسورية عبر العراق، في مقابل ذلك لا يبدو أن روسيا ستسمح لإيران باستخدام الأراضي السورية للرد على إسرائيل أو الولايات المتحدة، وذلك حتى لا تتحول سورية إلى ساحة صراع بين الجهتين، وتضيع المكاسب التي حققتها روسيا حتى الآن. وفي لبنان، يبدو أن حزب الله سيتجنب التورط في أي صراع إقليمي للحفاظ على سلطته بعد أن بات الحاكم الفعلي والرسمي في لبنان، وقد ينكفئ أكثر إلى داخل لبنان حيث يعمل على إحكام قبضته على البلد. وفي اليمن، سيتعرض الحوثيون لضغوط أكبر من الإيرانيين للتصعيد أكثر ضد السعودية، باعتبار أن مجال الرد الإيراني عن طريق اليمن هو الأكثر أمنًا بالنسبة إلى إيران. وفيما يخص منطقة الخليج، ستغدو إيران أكثر حذرًا في التعامل مع أمن الخليج (التعرض لناقلات النفط، وحرية الملاحة).

وفي تركيا، كشفت الأزمة مدى تراجع الثقة بين واشنطن وأنقرة، لأن واشنطن أحجمت عن إبلاغ أنقرة بمخططها لقتل سليماني رغم المكالمة الهاتفية التي جرت بين الرئيسين قبل ساعات من عملية الاستهداف الأميركية. وفي فلسطين، وعلى الرغم من مشاركة قيادات حركتَي المقاومة الإسلامية "حماس" والجهاد الإسلامي في مراسم تشييع سليماني، فإن الحركتين قررتا، على ما يبدو، فصل الصراع مع إسرائيل عن التوتر الأميركي – الإيراني، وعدم السماح بجرّ غزة إلى تصعيد لا مصلحة لها فيه. أما على المستوى الدولي، فإن روسيا والصين تستفيدان من عودة التوتر الأميركي – الإيراني حتى تنصرف واشنطن عن التركيز عليهما، شرط ألّا يصل التوتر إلى مرحلة الحرب بينهما وسقوط النظام في طهران. وأخيرًا، أشار قبلان إلى أن مقتل سليماني أنهى طموحات أوروبا في الحفاظ على الاتفاق النووي الإيراني، وأوضح هامشية دورها في الصراع الأميركي - الإيراني.

في حين ركّز مهران كامرافا، أستاذ ومدير مركز الدراسات الدولية والإقليمية في جامعة جورجتاون بقطر، على تداعيات مقتل سليماني على إيران، واستهل مداخلته بالقول إن سليماني يعدّ واحدًا من الشخصيات المهمة في إيران على المستوى السياسي والعسكري؛ فإلى جانب خوضه الحرب الإيرانية – العراقية (1980-1988)، والحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، فهو لم يتجه، مثل غيره من رجالات الحرس الثوري، إلى قطاعات التجارة أو الحكم المحلي أو البرلمان، بل ظلّ يناضل في الحرس الثوري الإيراني. أما عن أهمية مؤسسة الحرس الثوري في إيران، فأشار كامرافا إلى أنها قامت بدور مهم في الحفاظ على الأمن الداخلي في إيران من جهة، وحافظت على تطبيق السياسة الإيرانية في الخارج من جهة أخرى. وأضاف أن الحرب على "داعش" ساعدت نسبيًا في تمكين صورة الحرس الثوري داخل إيران. وعن تداعيات مقتل سليماني على النظام السياسي في إيران، ولا سيما في ظل الاحتجاجات الأخيرة، حاول كامرافا في مداخلته الإجابة عن سؤال: ما الذي يبرر استقرار النظام السياسي في إيران؟ فأشار إلى أن إيران تمتلك نظامًا سياسيًا استبداديًا منوعًا، ولكنه قادر، في سياقات معينة، على إعادة إنتاج نفسه والبقاء، على الرغم من الضغوطات التي يتعرض لها تاريخيًا؛ فهو نظام يحظى بشرعية بين الإيرانيين، أهمها الشرعية الأيديولوجية المستندة إلى تراث الثورة الإيرانية، والشرعية الوظيفية والمهنية القائمة على تقديم خدمات لمجموعة معينة من المستفيدين من النظام الإيراني. واختتم كامرافا حديثه بأن قاسم سليماني تحوّل إلى بطل قومي في وسائل الإعلام الدولية والعربية، بعد قيام الولايات المتحدة باستهدافه إلى جانب مجموعة من القيادات العسكرية.

أما حيدر سعيد، الباحث ورئيس تحرير دورية "سياسات عربية" في المركز العربي، فرأى أن اغتيال سليماني يختلف، نوعيًا، عن المناوشات المحدودة التي طبعت المواجهة الأميركية - الإيرانية في العراق وسورية وشكّلت إيقاعَها؛ فللمرة الأولى تستهدف الولايات المتحدة مسؤولًا إيرانيًا بهذا الحجم. كما يرى أن هذا الاغتيال ليس ردَّ فعلٍ مباشرًا على حادثة اقتحام السفارة الأميركية في بغداد، في 31 كانون الأول/ ديسمبر 2019، بل إن مؤشرات التحول في طبيعة هذه المواجهة تسبق ذلك الاقتحام؛ فاغتيال سليماني هو استمرار للضربة التي وجهتها الولايات المتحدة إلى خمس من قواعد ومقارّ "كتائب حزب الله" في العراق وسورية، في 29 كانون الأول/ ديسمبر 2019، ثأرًا للعملية التي استهدفت قاعدة عسكرية عراقية قرب مدينة كركوك يستعملها المستشارون العسكريون الأميركيون في 27 كانون الأول/ ديسمبر 2019، إذ كانت هذه الضربة خارج إيقاع المناوشات المحدودة، وتختلف، في حجم الدمار ونوعه، عن سائر العمليات السابقة التي استهدفت مقارَّ وقواعد للحشد الشعبي في العراق.

ويرى سعيد أننا نستطيع أن نتحدث الآن عن أن الأزمة انتهت عند هذه الحدود، فلا الولايات المتحدة تريد أن تذهب أبعد من ذلك، ولا إيران قادرة على انتقام حقيقي يشعل حربًا في المنطقة. ومن ثم، فإذا كان حادث اغتيال سليماني قد بدا للكثيرين أنه تحول مفصلي، فقد لا يكون كذلك.

ويلخّص سعيد فكرته بأن الولايات المتحدة كانت تهدف من اغتيال سليماني إلى ضربة ذات طابع ردعي، محدودة، ولكن نوعية، من دون أن يعني هذا أن هذه العملية تخرج عن الاستراتيجية الأميركية تجاه إيران التي رسمها ترامب، والتي تتمثل بما بدأت الإدارة الأميركية في تسميته، منذ ربيع 2019، "سياسة الضغط الأقصى"، أي ممارسة أقصى قدر من الضغط على إيران، لإجبارها على الجلوس على طاولة المفاوضات مرة أخرى. وهذا يعني أن ترامب يريد، حتى مع اغتيال سليماني وبعده، إعادةَ الإيرانيين إلى طاولة المفاوضات، وفرض اتفاق جديد.

وأضاف سعيد أن العراق سيشهد صراعًا بين حركتين: الأولى، إيران التي تريد أن تتعامل مع اغتيال سليماني بوصفه حدثًا لا ينبغي أن يكون ما بعده استمرارًا لما قبله من جهة، ويعيد رسم الحدود والأدوار وموازين القوى والفاعلين من جهة أخرى. والثانية، الولايات المتحدة التي لا تريد لهذا الحدث أن يتجاوز طابعَه الردعي وما يمكن أن ينتجه في إطار مواجهتها مع إيران، بل ينبغي للأوضاع في العراق أن تظل كما هي. ورأى أن هذا التدافع سيتمثل في السجال على بقاء القوات الأميركية في العراق أو انسحابها منه.

ويقول سعيد إن الحركة الاحتجاجية في العراق تواجه اليوم تحديَين رئيسين، وهما: أولًا، أن عجز الفصائل المسلحة القريبة من إيران عن تقديم ردٍ نوعي قد يدفع الفصائل العراقية إلى محاولة محاربة الحركة الاحتجاجية، وهنا يمكن أن تكون الحركة الاحتجاجية كبش فداء. وثانيًا، أن الحركة الاحتجاجية باتت اليوم كأنها أمام "تنازع الولاءات"، ولا سيما أن قوى السلطة بدأت تسم كل من ينخرط في الحركة الاحتجاجية بأنه يوالي الولايات المتحدة؛ وذلك ما يفسر سلوك المحتجين يوم الجمعة 10 كانون الثاني/ يناير 2020 الذين رفعوا شعار "لا أميركا ولا إيران". واختتم سعيد مداخلته بالحديث عمّا سمّاه "الولادة الثالثة للحركة الاحتجاجية في العراق"، بعد الولادة الأولى في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2019، والولادة الثانية في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وستحاول الحركة الاحتجاجية الاستمرار في تقديم مسار مستقل، لإعادة بناء النظام السياسي.