ضِمن سلسلة محاضرات "التفكير في أزمة كورونا وأبعادها"، التي يعقدها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، والتي تُبثّ عبر منصاته على مواقع التواصل الاجتماعي، ويقدّم فيها عدد من الخبراء والأكاديميين محاضرات علمية حول جائحة "كورونا" وتداعياتها على مختلف المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، قدّم الدكتور أديب نعمَة، يوم الخميس 21 أيار/ مايو 2020، المحاضرة التاسعة بعنوان "الفقر وفيروس كوفيد 19 في البلدان العربية".

استهّل الباحث محاضرته بالإشارة إلى أنّ التقارير الدولية تزعم أنّ معدلات الفقر تتراجع في العالم، بما في ذلك البلدان العربية، وأنّه عندما يجري استثناء المنطقة العربية من التطوّر الحاصل في مستويات الفقر عالميًّا، فإن هذا الادعاء يُبرّر عادةً بالحروب والنزاعات التي تشهدها بعض دول المنطقة. كما بيّن الباحث أنّ المؤسسات الدولية عن طريق باحثيها المهيمنين على دراسات الفقر يجتهدون في إنتاج مقاييس وحسابات قديمة - جديدة لهذه الظاهرة، ويعملون على مناقشة تفاصيل تقنية غريبة عن الجمهور العام. وأضاف المحاضر أنّ المختصين في دراسات الفقر لم ينجحوا، على الرغم من ذلك، في تطوير أدوات علمية لسدّ الثغرات المنهجية والمعرفية في مجال الدراسات المتعلقة به. ونوّه بصدور العديد من التقارير الدولية والإقليمية والوطنية عن الفقر في البلدان العربية في السنوات الأخيرة. وبحسب الباحث، أعطت هذه التقارير نِسبًا متدنّيةً في معظم الأحيان، كما أنّها لم تُقدّم اجتهادات فكرية أصيلة لتجاوز القصور المعرفي السائد في دراسات الفقر.

قارب المُحاضر الفقر من منظور مختلفٍ عن السائد في الدراسات التي تبحث في هذا المجال، ويشمل هذا المنظور أبعادًا فكريّة - فلسفيّة وتاريخيّة، ويقدّم مساهمة نقديةً أصيلة لمناهج قياس الفقر ونتائجه في البلدان العربية. وأفاد المحاضر أنّ الفقر بتجلياته الواقعية هو أكثر انتشارًا وعمقًا من اختزاله في ما يصطلح عليه بـ "خطوط الفقر" والقياسات المتعددة الأبعاد المتميزة بطابعها التبسيطي. وخلال مداخلته، ساءل المحاضر البديهيات المتداولة في إطار دراسات الفقر، كالتصوّر السائد الذي يحصر الفقر في الأرياف من دون تقديم تقدير واقعيّ لظاهرة الفقر المديني، ليُخرج - بتحليله هذا – ظاهرةَ الفقر من الإطار الضيّق المقيّد بتعريفه وقياسه إلى فضاء أوسع يربطه بالمساواة والحقوق، ولا سيما الحقّ في الحماية الاجتماعية.

وأشار الدكتور أديب نعمة إلى أنّ جائحة فيروس كورونا تُعدّ بمنزلة صدمة من شأنها مفاقمة الحرمان الاجتماعي والفقر، إضافةً إلى تأثيراتها في الاجتماع والاقتصاد والثقافة. وفي هذا السياق، نبّه المحاضر إلى أنّه يمكن للجائحة أن تتحوّل إلى شماعة تُعلَّق عليها الإخفاقات السابقة ذات الصلة بالسياسات الاجتماعية والصحيّة، واعتبر أنّ النتائج الاجتماعية السلبية للجائحة لا تُفسّر بالفيروس نفسه، وإنّما بعوامل مركبّة سابقة له؛ ذلك أنّ جوهر الإشكال يكمن في السياسات، وليس في الفيروس الذي يُعدّ، بحسب رأيه، كائنًا غير عاقل لا يمكن تحميله مسؤولية أيّ إخفاقات. كما اعتبر الباحث أنّ الأثر الاجتماعي السلبي المتمثل في توسّع نطاق الإفقار، ليشمل فئات وسطى وشرائح العمال غير المحميين، ناجمٌ أساسًا عن عوامل هيكلية تتعلّق بأنماط الإنتاج والاستهلاك والتعامل مع الطبيعة والأولويات المدفوعة بالربح وتحقيق الأهداف الاقتصادية والنمّو؛ أي ما يسمّيه الباحث "النسق الحضاري" كلّه.

استخلص المحاضر أنّ تأثيرات جائحة فيروس كورونا المستجّد تتركّز في المدن أكثر ممّا تتركّز في الأرياف، وفي الطبقات الوسطى الدنيا والعاملين غير النظاميين أكثر من الطبقات الأكثر فقرًا، مشيرًا إلى أنّه لا يمكن اعتبار ما سبق بمنزلة استنتاجات يمكن الجزم بها؛ إذ إنّ الظاهرة تحتاج إلى مزيد من الوقت، ومزيد من الدراسات التطبيقية والمسوحات الميدانية. وفي الختام أجاب المحاضر عن الأسئلة التي طرحها المتابعون عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث لقيت المحاضرة تفاعلًا واسعًا وأسئلةً متنوعة ومداخلات ثرية.