عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مؤتمر "المسيحيون العرب في المشرق العربي الكبير: عوامل البقاء، والهجرة، والتهجير"، في مقره في الدوحة، يومي 21 و22 تشرين الأول/ أكتوبر 2017. وقد جاء هذا المؤتمر في إطار النهج الذي يعتمده المركز في رصد التحولات والتحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها المجتمعات العربية، واندلاع الصراع الهوياتي فيها في العقد الأخير؛ نتيجة إخفاق عمليات الإصلاح والانتقال الديمقراطي، وإخفاق إرساء أسس المواطنة وحقوقها السياسية والاجتماعية والثقافية في الدولة التسلطية العربية الحديثة الراهنة التي تفسخت مصادر شرعيتها. ويتنزّل ما يتعرض له مسيحيو المشرق العربي، من عنف وتنكيل ومحاولات اقتلاع وتهجير من المجتمعات العربية التي عاشوا فيها، تاريخيًا في هذا السياق.
قُدّمت في هذا المؤتمر أكثر من 20 ورقة، وُزّعت على 7 جلسات، وتناولت أبرز القضايا الإشكالية التي يواجهها المسيحيون العرب في منطقة المشرق العربي الكبير (العراق، وبلاد الشام، ومصر)، والعوامل والضغوط الاجتماعية - السياسية الكثيفة وغير المسبوقة، خلال فترة ما بعد استقلال الدول العربية على الأقل، على وجودهم التاريخي، فضلًا عن محاولات الترويع والقتل وتفجير الكنائس، بما فيها التي أرغمتهم على الهجرة الدولية أو النزوح الداخلي. لقد جعلت كل هذه العوامل الوجودَ المسيحي المشرقي العريق والمستمر في المنطقة، منذ ما قبل الفتح الإسلامي وما بعده، يواجه "لحظة مفصلية" في تاريخه، تهدد بتدمير التنوع الثقافي في مجتمعات المشرق العربي الراهنة، وتقويض أسس المواطنة فيها.
وافتتح المؤتمر بمحاضرتين، الأولى لوزير الخارجية الأردني السابق كامل أبو جابر، تناول فيها "الدور الغربي في تسهيل هجرة المسيحيين من المشرق العربي"، عرج فيها على العلاقة بين المسيحية الشرقية والمسيحية الغربية، ومايز بينهما. ووجد بأن الغرب تاريخيًا لم يكن صديقًا للعرب؛ مسحيين ومسلمين. أما المسيحيون العرب فلم يطلبوا الحماية من الغرب يومًا، بل كانوا مندمجين دائمًا في المجتمع الإسلامي. كما أن المسلمين لم يتسامحوا مع المسيحيين، بل قبلوا العيش مع المسيحيين؛ فالتسامح يعني الرضا بالعيش المشترك إكراهًا، أما القبول، فيعني التساوي في حقوق العيش على أرض واحدة طواعية من المسلمين والمسيحيين.
وذهب المحاضر إلى أن تهجير المسيحيين من المشرق العربي، هو عداء للقومية العربية بحد ذاته، وهو ما يصب في خدمة إسرائيل؛ لأن القومية العربية تجمع بين المسلم والمسيحي وجميع العرب، بغض النظر عن دينهم، فضلًا عن أن هذا التهجير هو ما سيحرم الحضارة العربية الإسلامية من جوهرها الأساسي المتمثّل في التعددية. ولذلك، فإن هجرة المسيحيين العرب ليست مشكلة مسيحية فحسب، وإنما عربية إسلامية عامة.
وكانت المحاضرة الثانية للمؤرخ وجيه كوثراني: "في مأزق مشروع المواطنة وتعثّر الانتقال من نظام الرعية والملة إلى الدولة الوطنية: أوهام التسامح والحماية"، وقد وجد فيها أن أمرين أو مسارين مترابطين رافقا عملية التحوّل التاريخي للدولة في البلدان العربية، ولا سيما تلك البلدان التي ارتبط تاريخها بتاريخ السلطنة العثمانية هما: مسار التحوّل من دولةٍ سلطانية، (أي إمبراطورية متعددة الأديان والإثنيات) إلى دول/ أمم، ومسار يضرب بجذوره عميقًا في التجربة التاريخية الإسلامية، ويتعلّق بمسألة "أهل الذمة" في الدولة المسمّاة "دولة إسلامية". وخلص المحاضر إلى أن الاستشهاد بنظام الملل بصفته "نظامًا متسامحًا" حيال المسيحيين، عملًا بقاعدة عهود "أهل الذمة" في التاريخ الإسلامي، لا يصلح البتة لأنظمة تقول دساتيرها "بحقوق المواطنة" و"المساواة" بين المواطنين.
تضمنت الجلسة الأولى من الندوة ثلاث مداخلات عن واقع المسيحيين قبل نشوء الدولة الوطنية العربية الحديثة. قدم فيها يوسف كرباج مداخلة بعنوان "المسيحيون العرب في الإمبراطورية العثمانية: من معركة مرج دابق إلى معركة عين دارة"، وجد فيها أن تعداد المسيحيين كان يقارب 7 في المئة من سكان المشرق العربي، عندما ورث العثمانيون الهلال الخصيب من المماليك. وبعد ثلاثة قرون، شكلت هذه النسبة نحو 30 في المئة (ولكن 8 في المئة فقط في مصر). بعد بضعة قرون من السلطة العثمانية السنية، تضاعفت الطائفة المسيحية أربع مرات بفضل مواردها الديموغرافية: الولادية والوفاتية، وليس من خلال مساهمة الهجرة الأجنبية كما هو الحال في ظل الحروب الصليبية. وأكملت الباحثة حلا نوفل في محاضرتها التسلسل التاريخي الذي بدأه يوسف كرباج، في مداخلة لها بعنوان: "المسيحيون العرب في الإمبراطورية العثمانية: من معركة عين دارة إلى الحرب العالمية الأولى". فقد أثرت معركة عين دارة في العام 1711 في التركيبة الاجتماعية في جبل لبنان؛ إذ هاجر الدروز، المنقسمون بين قيسيين ويمنيين، على نطاق واسع إلى الداخل السوري في حوران وحل محلهم بالتدريج المسيحيون الموارنة. كما استفاد المسيحيون من عدم تدخل السلطة العثمانية في شؤون الجبل اللبناني والجماعات المسيحية في كامل بلاد الشام، إلى درجة أنهم جعلوا السلطة المحلية تنتقل إلى أيدي مسيحيين مثل أسرة شهاب التي اعتنقت المسيحية. وقد تبع ذلك هجرة مسيحيين من دمشق إلى لبنان بعد دخول جيش محمد علي باشا دمشق؛ ما عزز النفوذ السياسي للمسيحيين في لبنان لعوامل تتعلق بالنمو الديموغرافي وتعزيز سلطتهم السياسية، وهو ما مهد للعنف الطائفي في بلاد الشام عام 1860.
أما المداخلة الثالثة، فكانت للباحثة فدوى نصيرات، بعنوان "أوضاع العرب المسيحيين الاجتماعية في مصر وبلاد الشام". تناولت فيها الأوضاع العامة للمسيحيين العرب في ظل الحكم العثماني 1516-1918، ومن ثم أوضاعهم الاجتماعية قُبيل حكم محمد علي باشا لمصر وبلاد الشام وخلاله. كما بحثت في الآثار التي تركها حكم محمد علي في الأوضاع الاجتماعية للمسيحيين العرب، ووصفت الباحثة أحوالهم الاجتماعية في ظل التنظيمات العثمانية. واختتمت مداخلتها بالآثار التي تركتها الإرساليات التبشيرية في حياة العرب المسيحيين الاجتماعية.
وناقشت جلسات اليوم الختامي محاور أكاديمية حول الواقع التاريخي والاجتماعي للمسيحيين في المشرق العربي الكبير، والأسباب الاقتصادية والسياسية لهجرتهم إلى الدول الأخرى.
تطرّق الباحث يحيى الكبيسي في الجلسة الأكاديمية الأولى من أعمال اليوم الثاني من الندوة إلى الديموغرافيا المسيحية في العراق بين الواقع والتسييس، بحيث كانت الأقليات الطائفية الأكثر استهدافًا في عملية التهجير القسري، إذ اضطر المسيحيون على اختلاف طوائفهم إلى النزوح والهجرة غير مرة نتيجة استهدافهم بوصفهم أقليات دينية، أو استخدامهم أوراقًا سياسية في الصراع بين الجماعات الطائفية الرئيسة في العراق.
فقد بلغ عدد المسيحيين في العراق على اختلاف طوائفهم في إحصاء عام 1947 ما يقارب 149 ألف نسمة، وارتفع في عام 1957 إلى أكثر من 206 آلاف، وارتفع هذا الرقم في عام 1977 إلى 256 ألف نسمة بنسبة نمو تقريبية تقدر بـ 2.14 في المئة. وبالاستناد إلى نسبة النمو المذكورة، فإنّ التوقعات لأعداد العراقيين المسيحيين في عام 2003 تضعهم في حدود 600 ألف نسمة، ويبين هذا الرقم إذا ما تمت مقارنته بأعداد العراقيين المسيحيين في الوقت الراهن وهن الأحاديث عن وجود هجرة عارمة للعراقيين المسيحيين نحو الخارج.
وفي سياق موازٍ، تطرّق سعيد سلوم إلى قضية إنشاء منطقة آمنة للمسيحيين في العراق ومبرراتها، منها مبرر أمني، ومواجهة تضاؤل الوزن الديموغرافي. والجدير بالذكر أنّ قضية إنشاء منطقة آمنة للمسيحيين أثارت جدلًا بين مختلف التيارات السياسية المسيحية من جهة وقيادات كنسية وممثلي الأحزاب السياسية من جهة أخرى. لكنها باتت تطرح في سياق عملي جديد بعد استهداف تنظيم "داعش" الأقليات في محافظة نينوى، وارتكاب مجازر تطهير عرقي وإبادة جماعية ضدها، في ظل نزوح مئات الآلاف من المسيحيين وبقية الأقليات إلى إقليم كردستان ووسط العراق وجنوبه، في حين تتصاعد وتيرة الهجرة خارج البلاد على نحوٍ يهدد مستقبل الوجود المسيحي. كما تناول الباحث التحديات التي تواجه تطبيق الفكرة في مناطق المسيحيين في سهل نينوى التي هي في الوقت ذاته مناطق الصراع بين الجماعات الكبرى من الأكراد والعرب حول عائدية الأراضي فيها، فهي مناطق "متنازع عليها" بين حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية في بغداد.
في مستهل الجلسة الثانية، أكد حبيب افرام، رئيس الرابطة السريانية في لبنان، في مداخلته أنّ المسيحية مشرقية بالأساس وليست غربية، وبحسب رأيه يجب ألّا يكون لها مشاريع وهمية تتعلق بالأساس باستبدال الوطن بالهجرة. وعلى المسيحيين العرب أن يدافعوا عن وجودهم بوصفهم من صلب تكوين الشرق وجزءًا من تاريخه ومستقبله، وعليهم أن يرفضوا معالجة القضية المسيحية بمنطق الأقلية والأكثرية؛ فالمسيحيون بحسب رأيه مواطنون قبل كل شيء.
كما ركز افرام على المسؤولية العربية والإسلامية؛ إذ دعا المفكرين والمثقفين العرب إلى ضرورة إيجاد حلول للتصدي إلى موجة الأصوليات الإلغائية التكفيرية التي تريد إنشاء دول دينية. كما حمّل الغرب مسؤولية الوجود المسيحي من خلال زعزعة بنى الدول العربية واحتلال فلسطين مما أدى إلى تهجير المسيحيين والمسلمين. وقد أكد أنّ الغرب ليس لديه ما يقدمه لمسيحيي الشرق الذين لا يمثلون حاجة إستراتيجية بالنسبة إليه.
قدّم الباحث روبين شموئيل نبذةً تاريخية عن الآشوريين المسيحيين في العراق وبيّن الأصول التاريخية لهذه الجماعة بوصفهم من أقدم الشعوب في العالم التي اعتنقت المسيحية. كما طرح الباحث لاحقًا دور الآشوريين ومساهمتهم في تطوير الدولة والحضارة الإسلاميتين.
وحلل شادي لويس المسألة القبطية مع تصاعد العنف الطائفي في مصر منذ السبعينيات، فقد ظل ذلك الاهتمام محصورًا في تحليل البنى القانونية والسياسية للطائفية وآلياتها المؤسسية ومع انطلاق الثورة المصرية في عام 2011، وتتبع الباحث تشكّل الخطابات الاجتماعية عن "الأقباط" وتحولاتها، بدءًا من خطابَي "الوطنية" و"الاضطهاد" بداية القرن الماضي، وصولًا إلى خطابَي "المواطنة" و"الاستشهاد الجديد" في خضم الثورة المصرية وبعدها. وختم مداخلته بمجموعة من التوصيات بخصوص سياسات منظمات المجتمع المدني والدولة والمؤسسات الكنسية وبرامجها اللازمة لدعم خطابات بديلة، تتجاوز مفاهيم الأقلوية والاضطهاد المهيمنة، وتتيح للأقباط الانخراط في المجال العام، والمساهمة في إعادة تشكيله.
وتناول ماجد حسن علي موقف الكنائس الشرقية بشأن الهجرة في العراق وسورية؛ إذ وضع الباحث طورين من أطوار الهجرة: بدأ الطور الأول مع الانحسار العثماني إلى حدود ما بعد الحرب العالمية الثانية وتميز بهجرة داخلية، أي هجرة داخل المنطقة العربية أو إلى جوارها على غرار الهجرة من العراق إلى سورية أو غيرها. وبدأ الطور الثاني في النصف الثاني من القرن العشرين وكان مدفوعًا بالخوف بسبب الموجة القومية في المنطقة. وهو طور هجرة خارجية من المنطقة العربية إلى الغرب.
في الجلسة الأخيرة، تساءل عبد الله حنا عن أسباب هجرة مسيحيي سورية داخليًا وخارجيًا، وقام بقراءة في دوافعها الاقتصادية. فقد ساهمت التطورات الاقتصادية – الاجتماعية والفكرية الجارية في سورية بعد الاستقلال في عملية دمج السكان، وبدأت تتوضّح معالم الدولة الحديثة التي أقامها الانتداب الفرنسي وأخذت تساهم في ظهور دولة وطنية مركزية عاصمتها دمشق. وعاش المسيحيون في ظل الدولة الوطنية في منتصف القرن العشرين حالةً من السلم والأمن. ولكن الظواهر السلبية التي ظهرت في العقدين الأخيرين من القرن العشرين مع انحسار مرحلة النهوض الوطني، أدت إلى انبعاث المشاعر العشائرية والطائفية والمذهبية، وأصبحت هي المهيمنة في مستهل القرن الحادي والعشرين، مما قاد إلى اهتزاز مواقع المسيحيين وبدْء ظهور تراجع دورهم السابق.
ولاحظ الباحث أنّ نسبة هجرة سكان الأرياف المسيحيين إلى المدن أعلى من نسبة هجرة المسلمين. ويعود السبب، بحسب رأيه، إلى أنّ المسيحي المهاجر إلى المدن والمقيم في الأحياء المسيحية تختفي عنده عقدة الأقلية التي كان يعانيها في قريته، وتتراجع عنده "عقدة الخوف" من "الإسلام" وما يسمعه من المتقدمين في السن من دفع الجزية والطَّورقة وغيرها من المظاهر التي زالت، ولكنها لا تزال مختزنة في الذاكرة الجمعية.
أما مداخلة سمير سعيفان فقد تناولت تأثير مناخات الصراع في سورية منذ آذار/ مارس 2011 في هجرة المسيحيين السوريين، إذ ساهمت إستراتيجيات النظام ضد الانتفاضة ومن بينها تخويف الأقليات، ومنها المسيحيون، من الانتفاضة لدفعهم بعيدًا عنها، إضافةً إلى تأثير تأسلم الانتفاضة وخلق الريبة بل الخوف من المعارضة في أوساط المسيحيين، فضلًا عن دور المجموعات الجهادية خاصة "داعش"، في زيادة خوف المسيحيين. ومع استمرار الصراع، كانت قناعات المسيحيين تتسع كل يوم بأنّ سورية لن تعود كما كانت. وقامت برامج استقبال اللاجئين السوريين في الدول الأوروبية وكندا وأستراليا بدور مهم في تشجيع المسيحيين على الهجرة. وركز سعيفان على دراسة حالة مشخصة لهجرة مسيحيين من "مدينة السقيلبية" وهي مدينة مسيحية أرثوذكسية في منطقة الغاب، وتقع على خط تلاقي مناطق السنة مع مناطق العلويين.
وفي ختام الجلسة الأخيرة من أعمال اليوم الثاني، تناول متري الراهب في ورقته البحثية موجات الهجرة الفلسطينية المسيحية الرئيسة في النصف الأول من القرن العشرين وبالتحديد الهجرة إلى دول أميركا اللاتينية بداية القرن العشرين؛ إذ يمثّل الجيل الرابع من هؤلاء اليوم قرابة نصف مليون لاتيني أميركي من أصول مسيحية فلسطينية. كما رأى الباحث في نكبة فلسطين عام 1948 نكبة مسيحية بكل المعايير. وتناول في القسم الثاني من مداخلته واقع هجرة المسيحيين من فلسطين في السنين العشر الأخيرة من خلال تحليل نتائج الأبحاث والدراسات التي قامت بها مجموعة "ديار".