استضافت وحدة الدراسات الإيرانية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مُجتبى مهداوي، أستاذ العلوم السياسية وأستاذ كرسي "مجلس إدمونتون للمجتمعات المسلمة" (Edmonton Council of Muslim Communities – ECMC) في الدراسات الإسلامية بجامعة ألبرتا، كندا، في 29 حزيران/ يونيو 2021، الذي ألقى محاضرة بعنوان "إيران بعد اثنين وأربعين عامًا: هل ثمة إمكانية لديمقراطية ما بعد إسلاموية؟"، وقد أدار المحاضرة مدير وحدة الدراسات الإيرانية في المركز العربي وأستاذ الحوكمة بجامعة جورجتاون في قطر، مهران كامرافا.

بعد استعراض تاريخ إيران منذ الثورة الدستورية بين عامي 1905 و1906، أشار مهداوي إلى أنّ لإيران تاريخًا طويلًا من النضال في سبيل تحقيق الديمقراطية. وكانت رائدة في استحداث التغيّرات السياسية والاجتماعية التقدّمية في المنطقة. وكانت إيران، بقيادة محمد مصدّق، رئيس الوزراء الإيراني المنتخب ديمقراطيًا آنذاك، رائدة في التحرك المناهض للاستعمار، وفي الحركات الديمقراطية الوطنية والبرلمانية في خمسينيات القرن العشرين. وبحسب الباحث، لقد شهدت إيران مرحلة وجيزة من الديمقراطية الليبرالية، انتهت فجأة بعدما أطاحت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وجهاز الاستخبارات الخارجية البريطانية (إم آي 6) بمصدّق. وخلال الفترة 1977-1979، كانت إيران السبّاقة في اعتماد "خطاب ثوري مناهض للاستبداد" مكوّن من الإسلام ومناهضة الملكيّة. واندلعت الثورة بوصفها انتفاضة ضد الاستبداد باسم الله، مع التركيز على مواضيع جوهرية مثل "الحرية والعدالة الاجتماعية والاستقلال والنظام الجمهوري وتصوّر واسع للإسلام". غير أنّ السياسات ما بعد الثورة، ولا سيما الإسلامية منها، غيّرت المشهد الإيراني وخرّبت الأهداف الثورية.

والأهم من ذلك، أنّ إيران كانت، في عام 2009، الدولة الأولى في المنطقة التي شهدت حركة اجتماعية ضخمة "تلت فترة الإسلام السياسي"، وسبقت الربيع العربي. وقال مهداوي "أنتجت إيران فكرة الخطاب المدني ’ما بعد الإسلام السياسي‘ ومهّدت له في المنطقة. وبدأ هذا الخطاب يتجلّى تدريجًا في إثر الحرب العراقية - الإيرانية (1980-1988)". وأضاف الباحث أن هذا الأمر يرجع إلى "نقلة نوعية معرفية" على المستوى المجتمع بهدف مواجهة خطاب الإسلام السياسي.

وبهدف شرح مفهوم ما بعد الإسلام السياسي، اعتمد الباحث التفسير الذي أطلقه عالم الاجتماع آصف بيات لهذا المصطلح، زاعمًا أنّ ما بعد الإسلام السياسي لا يعني ما بعد الإسلام. وقال في هذا الصدد "’إن ما بعد الإسلام السياسي‘ هو خطاب ومشروع فكريان، ولكنه في الوقت نفسه، حالة اجتماعية أو سياسية تتحدى الإسلام السياسي". ويشير مفهوم الإسلام السياسي إلى أن الدولة الإسلامية والحكم الإلهي يشكلان حلًا في مرحلة ما بعد الاستعمار، ويقوّض دور المواطنين والحقوق السياسية والمواطنة. ويضيف الباحث "يختزل هذا المفهوم، بوصفه خطابًا اختزاليًا، الهويات الهجينة والمتعّددة للمسلم [الفرد] في تعريفٍ مجرّد للإسلام".

لذلك، تردّ مرحلة ما بعد الإسلام السياسي، بوصفها حركة فكرية، على مفهوم الإسلام السياسي بالتشكيك في فرضيته الأساسية. وفي هذا السياق، يقول الباحث: "إنها خطاب حواري يتجاوز الانقسامات الثنائية الزائفة بين الإيمان والحرية، والدين والعقل/ الحقوق، وتجمع بين هذه العناصر كلها في الوقت نفسه". إنها تنتقد الدولة الدينية والدين الذي ترعاه الدولة، وتدافع عن مبدأ فصل المؤسسات الدينية عن الدولة، بينما تعترف أيضًا بالإسلام المدني وبالهويات الاجتماعية الهجينة المتعدّدة للأفراد المسلمين. والأهم من ذلك، بحسب الباحث، أنّ إيران مكوّنة من مجتمع الإسلام السياسي؛ لأن خطاب الإسلام السياسي قد استُنزفَ وفقد قدراته على التعبئة، وهو يعيش أزمة فكرية بسبب تناقضاته الداخلية. نتيجة لذلك، يطالب المجتمع المدني الإيراني بديمقراطية "علمانية وعُرفية ومدنية" لا تقصي الدين عن الحيّز العام. غير أنّ الباحث رأى أن حركة ما بعد الإسلام السياسي في إيران تمرّ بأزمة، ولا سيما في حقبة ما بعد عام 2009.

لقد استخدم الباحث "جدليّات البنية والفاعلية" للبحث في كيفية تفاعل العوامل الثلاثة المرتبطة ببنية "الدولة" والبنية "الاجتماعية الاقتصادية" وبنية "القوة العالمية"، وكيف عزّز هذا التفاعل العوائق البنيوية التي تعترض مسار التحوّل الديمقراطي. ويزعم مهداوي أن الدولة في مرحلة ما بعد الثورة في إيران دولة هجينة؛ إذ أنها مزيج من "السلطوية والاستبدادية وشبه الديمقراطية، وخليط من ’الدولة العميقة‘ التي تجمع بين عناصر من الأوليغارشية الدينية والأجهزة الأمنية، ومزيج من تحالفٍ ترعاه الدولة مؤلفٍ من الجيش والتجار ورجال الدين". وأشار أيضًا إلى أنّ الدولة الإيرانية ليست دولة دينية تقليدية؛ فالشريعة تُستخدم لحماية مصالح الدولة. وفي سياق تعليقه على طبيعة الدولة الإيرانية، ذكر التناحر السياسي والنظام الريعي والنيوليبرالية.

في بعض الحالات، كانت طبيعة الدولة الهجينة والمعقّدة تؤمّن مساحة محدودة لعملية التحوّل الديمقراطي، بينما كانت تشكّل، في حالات أخرى، عائقًا رئيسًا له. ويكمن العائق البنيوي الثاني أمام التحول الديمقراطي، في التنمية الاقتصادية المتفاوتة، والتي يفاقمها تفاعل الفساد الممنهج والعقوبات الاقتصادية. وفي هذا الإطار، قال الباحث "إنّ النموّ الاقتصادي المتفاوت هو سيف ذو حدّين. فهو قد يعترض عملية تحقيق الديمقراطية المستدامة من جهة، وقد يجذب، المزيد من التحالفات [المكوّنة] من قوى اجتماعية أخرى لتعزيز الديمقراطية من جهة أخرى". أخيرًا، لقد أدّت السياسات العالمية إلى عرقلة مسار الديمقراطية في إيران. فالحروب والتهديدات العسكرية والعقوبات الاقتصادية أضفت الطابع الأمني على الحيّز العام ورسّخت حكم أوليغارشية الدولة العميقة.

من ثم، شرح الباحث أزمات العوامل الفاعلة من خلال مهارة "القيادة" والقدرة "التنظيمية" و"الخطاب الفكري" للقوى المؤيدة للديمقراطية. ولقد لاحظ، في ما يتعلّق بالعامل الأول، أنّ الحركة الإصلاحية عانت أزمة في القيادة، وأن النخبوية شكّلت تحديًا رئيسًا. ورأى أنّه يجب استعادة وضع المجتمع المدني لتحقيق التحوّل الديمقراطي، مضيفًا أنّ قيادة الحركة تحتاج إلى نخبوية أقلّ وتعبئة أكبر؛ ذلك أنها تجد نفسها محاطة ببنية الدولة وبنية التنمية الاقتصادية المتفاوتة وبنية القوة العالمية. أما من الناحية التنظيمية، فلا تزال المشكلة نفسها قائمة؛ فلا توجد مجموعة تمثل "الأغلبية المهمّشة"، والتي تشمل كلًا من الطبقة الوسطى الفقيرة، التقليدية منها والجديدة. وأخيرًا، وفي ما يرتبط بدور الخطاب الفكري، أكّد الباحث أنه في الوقت الذي يعاني خطاب الإسلام السياسي أزمة، يكتنف الخطابَ الإصلاحي غموضٌ مفاهيمي واستراتيجي، إضافة إلى نزاعات داخلية.

واختتم الباحث محاضرته بالتشديد على أنه بهدف تحقيق ما يسعى له خطاب ما بعد الإسلام السياسي، لا بد من اعتماد نهج المجتمع المدني. ومن المهم تسليط الضوء على العدالة الاجتماعية الديمقراطية لمواجهة النموّ الاقتصادي المتفاوت، بوصفه عائقًا أساسيًا يحول دون عملية التحوّل الديمقراطي، ويعرقل عملية تمكين الطبقة الوسطى الفقيرة. ويرى أنّ تأثير الأفكار المجرّدة ليس قويًا بما يكفي، ما لم تُقرن بقوى مادية. فوفق الباحث "تُمنى الأفكار التقدّمية بالهزيمة أمام خطاب شعبوي رجعيّ، عندما يتّسم هذا الأخير بقيادةٍ وتنظيم قويّيْن". وأبدى تفاؤله بشأن الآفاق الديمقراطية المستقبلية لإيران، زاعمًا أنّ "ما بعد الإسلام السياسي هو بالفعل حالة اجتماعية، وقد حدثت نقلة نوعية معرفية نتيجةَ وجود مجتمع مدني نَشِط وحركة اجتماعية نابضة بالحياة".