استضافت وحدة الدراسات الإيرانية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، الباحثة آرزو اصانلو لإلقاء محاضرة بعنوان "الحفاظ على الحق والتسامح عن الخطأ: تصنيف مفهوم الرحمة في القوانين الجنائية في إيران". واصانلو هي أستاذة في قسم القانون والمجتمعات والعدالة بجامعة واشنطن حيث، وهي تشغل أيضًا منصب مديرة مركز الشرق الأوسط. وقد أدار المحاضرة مهران كامرافا، مدير وحدة الدراسات الإيرانية وأستاذ الحوكمة في جامعة جورجتاون في قطر.

استوحت الباحثة محاضرتها من كتابها الصادر مؤخرًا، جهد التسامح: الرحمة والقانون وحقوق الضحايا في إيرانForgiveness Work: Mercy, Law, and Victims’ Rights in Iran (مطبعة جامعة برنستون، 2020). وقد فاز هذا الكتاب بجائزة هربرت جاكوب للكتب Herbert Jacob Book Prize من جمعية القانون والمجتمع، في جامعة ماساتشوستس الأميركية، بوصفه عملًا إبداعيًا متميّزًا في مجال القانون والمجتمع. ويبحث الكتاب نظامَ العدالة الجنائية في إيران من خلال تركيزه على حقوق الضحايا ومفهوم التسامح والرحمة، ويستند إلى بحث مكثّف أجرته الباحثة في المحاكم الجنائية في طهران.

ترى الباحثة أنه جرى إعادة كتابة أغلبية القوانين في إيران بعد ثورة 1979 لتتوافق مع المبادئ الإسلامية، وأنه لم يتم التوصّل إلى الصيغة النهائية من التعديلات التي جرى إدخالها على القوانين الجنائية، ولا سيما قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية، قبل عامَي 2012 و2015، وعندما جرى تعديل القوانين فإنه جرى – أوّل مرّة - تشريع إمكانية تغاضي المدّعي (أو المشتكي) التي انبثقت من تعليمات الإسلام التي توصي بالرحمة والعطف.

أوضحت الباحثة أن "القانون الجنائي جعل العقاب حقًّا لأفراد أسرة الضحية، وأنهم يستطيعون، بوصفهم مدّعين، إما مطالبة الدولة بتنفيذ عقوبات جزائية نيابة عنهم، وإمّا التنازل عنها". ويتطلّب قانون الإجراءات الجنائية من المسؤولين القضائيين مساعدة الفرقاء في الوصول إلى تسوية. ومع ذلك، لا يزوّد القانون بتوجيه يذكر بشأن كيفية تحقيق المصالحة، أكان ذلك يتعلّق بالضحايا أم بالمسؤولين القضائيين. وتشرح الباحثة أن "التوتّر القائم بين واجب التسامح هذا، والغياب المقصود للمبادئ التوجيهية بشأن كيفية التسامح، ينتج حيّزًا اجتماعيًا شبه مستقلّ يتيح بذل جهد التسامح، ويشكّل سوقًا للترويج للتسامح؛ ما يحوّله إلى سلعة ويفتح آفاقًا جديدة للتفاوض بشأن المصالحة".

يشارك عدد من الأطراف الفاعلة في هذا الحيّز الاجتماعي لبذل جهد التسامح. وقد ذكرت الباحثة تدخُّل العديد من المجموعات الحكومية وغير الحكومية والأفراد في قضايا قتلٍ؛ سعيًا للتوسّط بين الضحايا والجناة، وتغيير الثقافة القانونية من أساسها على نحو شامل. فوفقًا للباحثة، هناك "حركة اجتماعية ناشئة للتسامح تهدف إلى إنقاذ الأفراد من الإعدام"، ثمّ إنّ الأطراف الفاعلة في القطاع الاجتماعي تنمّي "الشعور بالصفح" من خلال محاولة تغيير الثقافة.

وفي إشارة إلى المصدر الذي يحفّز الأطراف الفاعلة في القطاع الاجتماعي المعنيّة، أضافت الباحثة أن "الرحمة والعطف أساسيان وجوهريان في المفهوم الإسلامي للعدالة"، وقالت إنّ الفقهاء يرون أن النظام الديني الأخلاقي في الإسلام "يؤسّس لدعوة للحوار ويبني على الاستجابة للرحمة بوصفها تغاضيًا في قضايا القصاص". أما النظام القانوني، فتجد الباحثة أنه يقوم على نظام ديني أخلاقي ينشئ علاقة سلطة هرمية، بين مَنْ مَنَحَ العفو من جهة، والجناة من جهة أخرى. وترى أن "القرآن يشجّع بقوة على الصفح، وأنّ هذا التشديد على الصفح الوارد في القرآن قد انتشر في القوانين الجنائية الإيرانية".

أكدت الباحثة أن القانون يمنح القضاة سلطة معيّنة تتيح لهم التقدير في موضوع المصالحة بعد مرحلة صدور الحكم، لا في القصاص وإصدار الأحكام. فـ "الحكم هو حق في القصاص أكثر مما هو قصاص، وهذا يعني أنه لا يحق لعائلة الضحية أن تمارس هذا الحق". ويشير المتخصصون الاجتماعيون إلى أن عائلة الضحية تنعم أيضًا بالحق في التسامح. لكن هذا التحديد للقصاص، والتشديد على المصالحة في القوانين لا يأتيان فقط من الجزاء؛ إذ ذكرت الباحثة أن مشكلة القانون الجنائي الإيراني تكمن في تعريف النية، ثمّ إنّ "تعريف القتل عمدًا فضفاض جدًّا؛ إذ إنه يشمل العديد من الحالات التي لا تُعدّ أنه جرى ارتكابها عمدًا في ولايات قضائية أخرى".

واختتمت الباحثة محاضرتها بدراسة حالة فردية للتسامح، انطلقت من دافع يقوم على الحكم القرآني "الأمر بالمعروف". ويتعلّق الأمر بشابّين اشتبكا في شجار أدّى إلى إصابة أحدهما في رقبته. وجرى اتّهام الجاني بالتسبّب في أذى جسدي للضحيّة. إلا أن عائلة الضحية، التي كانت تنتمي إلى "الباسيج"، توجّهت إلى المحكمة وعبّرت عن عفوها عن الجاني؛ ما أدّى إلى تخفيف عقوبته. وبعد أن تعافى الشاب المجني عليه، توجّه إلى كربلاء مرّتين ليقيم مراسم أربعينية الحسين، حيث وافته المنية في نهاية زيارته الثانية. فتم القبض على الجاني، مرّة أخرى، ووُجّهت إليه تهمة القتل عمدًا، على أساس أن إصابة الضحية ربما تكون ساهمت في وفاته. واختارت أسرة الضحية، مرّة أخرى أيضًا، أن تسامح الجاني على أساس الحكم القرآني "الأمر بالمعروف".

استنادًا إلى بحث الأستاذ الأكاديمي البريطاني، المتخصّص في دراسات الشرق الأدنى، مايكل كوك Michael Cook بشأن تاريخ هذا الحُكم الإسلامي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وأصله وتطوّره، أشارت الباحثة إلى أنه يظهر في ثماني آيات قرآنية، وأنه نادرًا ما ترد العبارتان على نحو مستقل. ويشكّل مبدأ "الأمر بالمعروف" تأكيدًا فضفاضًا، في حين أن السلوك الذي يشير إلى ضرورة اعتماده غير واضح. ويوضّح كوك أن "المعروف" ليس مصطلحًا قانونيًا، بل يذكر أنه "أداء عمل ما، بطريقة لائقة ومشرّفة". ويفترض القرآن أنّ بعضًا من أعمال المعروف مسائل معلومة، ومتعارف عليها من قبل؛ ما يعني أن التسامح يتّسم بصفة معيارية.

اختتمت الباحثة محاضرتها قائلة: "يعتمد القضاة والمتخصصون الاجتماعيون على الجانب العادي من التسامح المغروس في طبقات متعدّدة، ولكنه جزء من الحياة العادية، والشريعة الإسلامية ليست بمتحجّرة، بل هي دومًا في طور التحوّل، وهي تستلهم من هذه المصادر المتعدّدة للثقافة والطقوس العادية، لتحريك النص المقدّس".