نظم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات - فرع بيروت ندوة بعنوان "الدين في المجتمع: دراسات في التغيير المجتمعي بعد الحراك العربي"، بالتعاون مع معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت. عقدت جلسات الندوة بعد ظهر الأربعاء 6 شباط/فبراير 2019، وطوال نهار الخميس الذي تلاه، وتوزعت على خمس جلسات بعناوين متنوعة، شارك فيها 15 باحثًا وأكاديميًا من لبنان وبلدان عربية مختلفة.

ما بعد العلمنة

استهل الدكتور خالد زيادة، مدير فرع بيروت في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الجلسة الافتتاحية مرحبًا بالمشاركين وبالحضور، ومنوّهًا بمن شاركوا في التحضير للندوة ومناقشة واقتراح موضوعاتها، مشيرًا إلى ضرورة دراسة الدين والتدين بوصفها ظاهرة اجتماعية في الظروف الراهنة. وبناءً على التركيز على الحركات الدينية والجهادية ما بعد 11 أيلول/سبتمبر 2001، خصوصًا في البحوث الاجتماعية والسياسية في الغرب، استعاد زيادة محطات من الاهتمام الغربي بالدراسات الإسلامية منذ القرن الثامن عشر حتى اليوم.

في الحلقة الافتتاحية، قدم الدكتور ساري حنفي، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت، بحثًا عنوانه علم الاجتماع الديني في مجتمع ما بعد العلمنة، صنّف فيه أربعة أنواع من التدين في العالم العربي: تدين مؤسساتي/تراثي، وتدين إحيائي، وتدين مابعد إسلامي، وتدين شعبي، مركزًا على وظيفتين أساسيتين تجمعان أشكال التدين الأربعة: الأولى، وظيفة روحية على الرغم من سلعنتها؛ والثانية، محاولة تعويض انسحاب الدولة من المجالات الاقتصادية ومن مسؤوليتها عن العدالة الاجتماعية. اعتبر حنفي مصطلح الإسلام السياسي فضفاضًا إلى درجة فقده معناه، لأنه لا يميز بين الإحيائية والإسلامية الجديدة، فعالبًا ما استخدم لقدح مجموعات حركية معينة، للإيحاء بأن اتجاهها واحد، من قرّاء سيد قطب الإخوانيين إلى القاعدة.

التديّن الفردي

رئس الجلسة الوحيدة في اليوم الأول الدكتور عفيف عثمان، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية، وقدم فيها الدكتور رشيد جرموني، أستاذ علم الاجتماع واجتماعيات الأديان في جامعة مولاي إسماعيل في مكناس بالمغرب، بحثه في سوسيولوجيا التحولات الدينية: التدين الفردي أنموذجًا بناءً على بحث ميداني استطلع النزوع إلى الفردانية في التديّن، يردّه جرموني إلى وجود أزمة في إنتاج وإعادة إنتاج القيم الدينية، وتراجع في دور المؤسسات الدينية الرسمية، وطفرة تربوية في نزوع فئات من النساء والشباب إلى تملك معرفة دينية خاصة بهم، متفلّتة من أنواع التديّن السابقة، بناءً على ظهور الإعلام الديني في إطار طفرة الإعلام الجماهيري التلفزيوني والإلكتروني. استنتج جرموني أن ثمة علاقة جديدة بين الدين والديمقراطية كردة فعل على التوترات التي عاشتها حركات الإسلام السياسي. واعتمد الباحث مصطلح الفرد المسلم الذي أصبح مرجعًا له في التلقي والتوجّه والممارسة والتمثّل، مسقطًا مرجعيات السلطة الدينية، كالمسجد والأسرة والزاوية (الصوفية) وحركات الإسلام السياسي.

قدم الدكتور أحمد خواجة، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية، بحثًا بعنوان التديّن الشيعي: من الإمامة الروحية إلى الولاية السلطوية، رأى فيه أن المنعطف الجديد للتديّن الشيعي نشأ عندما سار الخميني على خطى بعض فقهاء الشيعة الذين وسعوا سلطة الفقيه على حساب السلطان، وعندما نحا إلى توحيد سلطة الفقهاء بسلطة النبي والأئمة. بحسبه، جاءت الاعتراضات على مذهب ولاية الفقيه السلطوي من خارج إيران، وهي اعتراضات يصفها خواجة بـ "الديمقراطية"، ونمت في لبنان والعراق، ومن أعلامها العراقي محمد بحر العلوم واللبنانيان محمد جواد مغنية ومحمد مهدي شمس الدين.

في بحثها الذي تناول التدين المسيحي، حللت الدكتورة رولا تلحوق، أستاذة الأنثروبولوجيا الدينية في جامعة القديس يوسف في بيروت، توق شبان لبنانيين مسيحيين إلى حياة تقشف سمعوا عنها في سير القديسين، خصوصًا في المجتمع الماروني، كردة فعل على عدم تقبلهم مظاهر الغنى، وعدائهم للمؤسسة والنظم عمومًا، مطالبين بالعودة إلى الأصول. وبحسبها، يستفيد رجل الدين المسيحي من هذا التوق ليجذب الشبان إليه وإلى دعوته، فيصير نجمًا دينيًا مشهورًا، وتصبح تعاليمه مرجعية للرعية. وأوردت الباحثة نتائج استطلاعاتها الميدانية حول احتفاء المسيحيين بأسبوع آلام الجمعة العظيمة في إحدى كنائس بيروت وقارنتها بطقوس الاحتفال بعاشوراء الشيعية للكشف عن الأبعاد السياسية - الاجتماعية الظرفية لهذين الاحتفالين الدينيين في منطقة متوترة طائفيًا.

دور المؤسسات الدينية الرسمية

عقدت في اليوم الثاني ثلاث جلسات. كان عنوان الجلسة الأولى المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، وأدارها الدكتور أكرم سكرية، أستاذ العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية. تحدث فيها أولًا الدكتور خالد زيادة، مقدمًا بحثًا بعنوان نشوء المؤسسة الدينية في الإسلام، سأل فيه سؤالًا لم يلق إجابة حاسمة: هل من مؤسسة دينية في الإسلام؟ بحسبه، ما كان هذا السؤال قائمًا قبل أن يطرح الفكر الحديث أسئلته على الإسلام، علمًا أن المجتمعات المختلفة عرفت نوعًا من تقسيم الوظائف منذ وقت مبكر: العلمية والسيفية (أهل الحرب) والقلمية (أهل القلم). في العهد العثماني، صار الانفصال بين الوظائف الثلاث أشد وضوحًا، لكن التحديث العثماني دفع العلماء إلى الواجهة للعب أدوار قيادية بسبب الأزمات، والدليل أن نابليون بونابرت عندما غزا مصر استدعى العلماء وشكل منهم مجلسًا استشاريًا. لكن محمد علي باشا أطاح الدور الذي راكمه العلماء وألزمهم بوظيفة التدريس والبقاء داخل أسوار الأزهر. ووفقًا لزيادة، المنعطف الكبير الذي أدى إلى خسارة العلماء نفوذهم الاجتماعي وشطرًا من وظائفهم كان التحديث الأوروبي، وانخراط خريجي الأزهر أنفسهم في مشروع التحديث، أمثال رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك. كما إن أفكار التحديث حملت الإمام محمد عبده على تطوير مناهج التدريس في الأزهر، وعلى الانصراف إلى نشر أفكاره خارج المؤسسة التعليمية التقليدية.

قدم الدكتور رضوان السيد، المتخصص في الإسلاميات، بحثه التطرف والمؤسسات الدينية (الرسمية) والمجتمعات المدنية، فعرض الحوادث الكبرى التي لابست التاريخ السياسي والاجتماعي في المجتمعات العربية الإسلامية في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته وتسعينياته، وأثر الثورة الإسلامية الإيرانية في ذلك، وتعاظم ظاهرة مفتِي الفضائيات التلفزيونية، والمرجعيات الدينية الخاصة في المشرق والمغرب العربيين، وتصاعد العنف السني القاعدي والداعشي واختلاطه بالعنف الشيعي الإيراني. وأكد السيد ضرورة تجديد الخطاب الديني لتغيير رؤية العالم لدى النخب المسلمة، على مستوى التفكير والتصرف، وتجديد الخطاب التربوي والتعليمي، والانفتاح والتواصل والتعاون مع القوى الاجتماعية، أي قوى المجتمع المدني، وتصحيح العلاقة بين الدين والدولة، لمكافحة ظاهرة التطرف الديني.

هوية وانتظام

في بحثه عن وعي الذات وأسئلة الهوية عند الأرثوذكس في لبنان، قرأ الدكتور طارق متري، وزير الثقافة اللبناني الأسبق ومدير معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت، تقلبات الهوية لدى أرثوذكس لبنان منذ بدايات القرن العشرين، فرأى أن سقوط روسيا القيصرية وانهيار الدولة العثمانية سببا اضطرابًا في علاقاتهم الداخلية والخارجية، بعدما اهتزت دعائم عالمهم القديم، وأصبحوا تحت رحمة قوى غربية تتنافس على غنيمة مادية ومعنوية كبرى. وعرض متري الانقسامات الكنسية الأرثوذكسية في سوريا ولبنان، وانخراط بعض الأثوذكس في الحركات القومية، السورية والعربية، والاشتراكية، حتى قيل إن الأرثوذكس أكثر المسيحيين عروبة، وأكثر العروبيين لا طائفية. واليوم، يجد الأرثوذكس أنفسهم، بحسبه، أمام محاولة لتشكيل صورة للذات الجمعية، تختلف عما انطبع في الأذهان منذ بداية عصر النهضة في نهاية القرن التاسع عشر، على الرغم من عدم انضوائهم في تنظيم سياسي واحد أو اتباعهم زعيم بعينه.

ختم الدكتور وجيه قانصو، مدير المعهد الملكي للدراسات الدينية في عمان، هذه الجلسة ببحثه المؤسسة الشيعية: من الانتظام الاجتماعي إلى الانتظام السياسي، قال فيه إن الفقيه الشيعي وسّع دائرة سلطته إلى سلطة نيابة محدودة عن الإمام المعصوم من دون ارتقائها إلى سلطة كاملة، بعدما ترسخ في الوعي الشيعي أن غياب الإمام الثاني عشر هو غياب كل سلطة مشروعة، ففي زمن الغيبة لا وجوب لإقامة حكم عادل بانتظار ظهور المهدي، وعليه يصير الانتظام الاجتماعي الشيعي في التاريخ انتظام اللادولة. لكن هذا تغير بعد الثورة الإسلامية في إيران، أي بعد إقامة دولة دينية وبروز خطاب فقهي يمنح مشروعيته للعمل السياسي، ويعتبر السلطة وممارستها وفق نظرية ولاية الفقيه من أساسيات انتظام الجماعة الشيعية التي انتقلت من الانتظام الاجتماعي إلى الانتظام السياسي، عبر الدولة وبالدولة الدينية.

تدريس الشريعة والانتاج المعرفي

حملت الجلسة الثانية عنوان تدريس الشريعة والانتاج المعرفي، وأدارها الدكتور أحمد الزعبي، الباحث والأكاديمي في الفكر السياسي في جامعة القديس يوسف ببيروت.

قدم الدكتور عبد الغني عماد، أستاذ الاجتماعيات في الجامعة اللبنانية والعميد السابق لمعهد العلوم الاجتماعية فيها، بحثًا بعنوان حراس الدين في مجتمع متنوع: التعليم الديني وتدريس الشريعة في لبنان، لاحظ فيه افتتاح عشرات الحوزات الدينية الشيعية في الجنوب والبقاع في الثمانينات في مقابل عشرات المعاهد والمدارس الشرعية السنيّة، وإنشاء أحزاب دينية جمعيات تربوية لا تلتزم المنهاج الرسمي ولا مناهج المؤسسات الدينية الرسمية، وتنافس رجال دين جدد للسيطرة على المساجد والوظائف الدينية. وبناءً على دراسة ميدانية، تبيّن له أن دخول الأحزاب والحركات الدينية على خط التعليم الديني أدى إلى التركيز على الهوية الدينية الطائفية التي تغيب الهويات الأخرى، وتكريس البنية الأبوية وسلطاتها البطيركية، وجعل المتعلم خاضعًا لإكراهات سلطوية ظاهرة وخفية، مباشرة ورمزية، تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة.

في بحثه كلية الشريعة تجربة حياة، لاحظ الدكتور محمد عيسى الشريفين، الأستاذ في جامعة آل البيت الأردنية، أن دواعي الطالب لدخول كلية الشريعة نفسية وشخصية، يتصدرها الضعف العلمي وهزال الشخصية المعرفية، وهذا ما يجعله صيدًا سهلاً للطائفية والحزبية والأفكار المتطرفة. ورصد الشريفين صراعًا بين أجيال أساتذة كليات الشريعة لحملهم آراء عقدية متباينة بين السلفية وباقي التيارات الفكرية، وبلغ التيار السلفي أطراف النصر في هذا الصراع الذي يدعم فيه المجتمع التيار السلفي. لكن مؤسسات الدولة الأردنية تحاول إحياء مرجعيات المذاهب السنية الأربعة، للانقلاب على الفكر السلفي. وبحسبه، الحجة القائلة إن الدين اتباع لا ابتداع تؤدي إلى اتباع التلقين أسلوبًا في التدريس، فينعدم بذلك الابداع ويتوقف التجديد، ويطغى القمع الفكري.

ختام هذه الجلسة بحثٌ للأكاديمي المصري، خريج الأزهر وكلية الآداب بالقاهرة، الدكتور محمد حلمي عبد الوهاب، عنوانه إشكالات تدريس الشريعة في مؤسسات التعليم الديني العتيقة: الأزهر أنموذجًا، استهله بالقول: "كنت أزهريًا، فرزقني الله التوبة". ذكر الباحث ملمحين يكشفان عن مناهج التدريس في الأزهر: الأول، الاستغراق في مسائل غير متصلة بالواقع؛ والثاني غلبة الفذلكة والتلاعب بالألفاظ والألغاز اللغوية والفقهية. وما لفت انتباهه في أطروحات الدكتوراه بالأزهر هو تجاوزها أحيانًا ألف صفحة على ضحالة موضوعاتها وبعدها عن الواقع، وندرة الإبداع فيها مقابل فيض الاقتباسات. ولفت إلى غياب الأفق الاجتهادي في دراسة الحدود الشرعية، وغلبة الطابع الشكلاني ونبرة التحريم والاهتمام بالقضايا الغيبية، ووضع المرأة وغير المسلمين الدوني في إطار المواطنة، والموقف الرافض للفلسفة في القضايا الكلامية.

الدين والممارسات الجديدة

أدارت الدكتورة هبة خضر، أستاذة العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت، الجلسة الثالثة والأخيرة، وعنوانها الدين والممارسات الاجتماعية - الاقتصادية الجديدة، والتي قدم فيها الدكتور عبد الحليم زيدان، رئيس معهد برامج التنمية الحضرية في لبنان وتركيا، بحثًا عنوانه إهمال مفهوم الوقف كبارديغم تأسيسي في الاقتصاد الاسلامي، قال فيه إن الوقف في الإسلام مسألة دنيوية، مركزًا على كيفية إحياء أعماله داخل بنية تقسيم العمل وقطاعاته واختصاصاته في المجتمع الإسلامي المعاصر، خصوصًا التعليم الديني الوقفي، وإيجاد سوق وقفي للعقارات والمدارس والجامعات والمياتم وإنتاج السلع المختلفة، ليكون الوقف "رافعة اقتصادية ومالية ومرتبط بالتنافسية الحضارية العالمية". واستند إلى مقابلات أجراها مع 135 شخصية مختصة بالوقف في 16 دولة، ليقوا إن الوقف يحتاج إلى توليد صيغ جديدة تحاكي حاجات مجتمعات الإسلام المعاصرة وتطلعاتها المستقبلية، وإلى نزع التغول الاجتماعي - الإغاثي عن مفهومه، بعد حشره في الإسعاف الاجتماعي والإنمائي، وإغفال تثميره الاجتماعي في الأسواق وفرص العمل الجديدة.

قدم الدكتور عبد العزيز أحلوى، أستاذ الأنثروبولوجيا في المعهد الجامعي للبحث العلمي في جامعة محمد الخامس بالرباط، البحث الثاني والأخير في الجلسة، عنوانه أشكال التديّن الجديدة في فرنسا:سوق الحلال أنموذجًا، استند فيه إلى عمل ميداني إثنوغرافي أنجزه في باريس في أوساط الجيل الإسلامي السلفي الجديد، توصل بنتيجته إلى أن سلفيين فرنسيين يستحوذون على سوق الحلال في فرنسا ودول أوروبية أخرى، ويسيطرون على أكبر وأهم مصدر في الاستثمار الاسلامي بعد الحج، تقدر تعاملاته بنحو 1.300 مليار دولار سنويًا. ولاحظ أن الرأي العام الفرنسي بدأ منذ عام 2012 يألف النقاش العلني بشأن من يقف وراء هذه السوق الضخمة، ومن يمولها، وكيف تنظم مساجد فرنسا شهادات الحلال، ورهانات السياسيين الفرنسيين على الدعم الانتخابي من المستثمرين في سوق الحلال. وقد أسندت الإدارة الفرنسية لمساجد في باريس وليون مهمة منح منتوجات سوق الحلال تراخيص تؤكد حيازتها صفة الحلال، كي يستهلكها المسلمون في فرنسا والدول الأوروبية، وتتصل هذه السوق اتصالاً عضويًا وماليًا وعلى صعيد الفتاوى ببلدان الخليج العربية.