استضافت وحدة الدراسات الإيرانية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الأستاذ المشارك في الدراسات الدولية في جامعة دي بول في شيكاغو كاوه إحساني، في 14 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، لإلقاء محاضرة بعنوان "إعادة النظر في التواريخ الاجتماعية (التابعة) للنفط في إيران". أدار الجلسة مدير وحدة الدراسات الإيرانية وأستاذ في جامعة جورجتاون في قطر مهران كامرافا.

استهلّ الباحث محاضرته بتناوله كيفية تأثير النفط في السياسات وعلاقات القوّة والدولة والمؤسسات والحياة اليومية. وأشار إلى أنه "بهدف فهم تأثير النفط في السياسة والمجتمع والبيئة، علينا أن نرى أين تتفاعل جميع العناصر الرئيسة المتعلّقة بالمجمّع النفطي هذا، من ناحية الإنتاج والتحويل والتصدير والاستهلاك، وكيف تتشكّل علاقاتها وتؤثر بذلك في البيئة". وتشمل بعض هذه الجهات الفاعلة شركات النفط المتعدّدة الجنسيات والحكومات الوطنية والمؤسسات الحكومية والسكان المحلّيين. وقد وصف الباحث الحيّز المادّي والفيزيائي الذي تُنتجه تفاعلات هذه العناصر الاجتماعية بــ "البيئة المبنيّة".

وفي دراسة الحالة التي عرضها الباحث، تناول محافظة خوزستان الواقعة في جنوب غرب إيران؛ حيث جرى اكتشاف النفط في هذه المحافظة في عام 1908، وسرعان ما أصبحت مصدرًا أساسيًا للطاقة بالنسبة إلى الإمبراطورية البريطانية التي كانت تحتكر النفط آنذاك. كان يسكن محافظة خوزستان، بصورة رئيسة، الرعاة والرحّل من قبيلة البختياري[1] وعربٌ ينتمون إلى قبائل وتحالفات مختلفة، إضافة إلى سكّان المناطق الحَضَرية. وقد غيّرت عملية استحداث عواصم نفطية، والعلاقات السياسية الناجمة عنها، حياة الناس وجعلتها متشابكة؛ إذ قوّض اكتشاف النفط، ومن ثم استخراجه، البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للبختياريين إلى حدّ بعيد، ما أدّى إلى انهيار زعامة القبيلة واستيعابها في هامش المجتمع الحَضَري. ثمّ تطرّق الباحث إلى التاريخ الجزئي Microhistory للرأسمالية النفطية في الربع الأول من القرن العشرين، وهي حقبة تشكّلت بسبب الأزمات السياسية التي تلَت الثورة الدستورية والحرب العالمية الأولى، إضافة إلى تداعيات الثورة السوفياتية وترسيخ النظام الملكي البهلوي الاستبدادي.

بمعزل عن كون النفط قد أصبح مصدرَ دخل للحكومة، فقد أدّى اكتشافه أيضًا إلى نشوء علاقات اجتماعية جديدة (الطبقة العاملة على سبيل المثال)، ونجم عن ذلك بصورةٍ خاصةٍ، ظهور أشكال حَضَرية من الفاعلية والوعي لم تكن موجودة من قبل. وعلى خلاف التواريخ الرسمية للنفط، التي تركّز على دور الدولة والقوى الاستعمارية وشركات النفط، سلّط الباحث الضوء على الحياة اليومية للناس العاديين، وكيف تأثّرت بها، وكيف أثّرت في المجمّع النفطي في المنطقة، ولاحظ أن الدولة شرعت في إعادة رسم دورها وتحديده بوصفها عنصرًا فاعلًا في أسلوب الحكم، بهدف اكتساب الشرعية؛ استجابةً لتنامي وعي السكان المحلّيين. ووجدت كبرى شركات النفط المتعدّدة الجنسيات، مثل شركة النفط الأنكلوفارسية، نفسها مدفوعة إلى الاستجابة للمطالب غير المتوقّعة للسكان المحليين، واضطرّت إلى صوغ أفكار بشأن الرعاية الاجتماعية والهياكل الأساسية الاجتماعية.

تطلّب بناء بنية تحتية نفطية عددًا كبيرًا من الأيادي العاملة وكمية من الأراضي والمواد. وقد وفّر رجال القبائل اليد العاملة بعد أن جُرّدوا من ممتلكاتهم، وكانوا في حاجة إلى الاعتماد على العمل المأجور. وأوضح الباحث أن هذا الأمر "بدأ يحدث تغييرًا في العلاقات الاجتماعية في الأطراف، وحوّل شريحة كبيرة من السكان الذكور وعائلاتهم إلى طبقة عاملة [بروليتاريا]"، وأضاف قوله إنّ هذه الفترة تسبّبت في معاناة كبيرة للسكان المحلّيين: "تدفق المهاجرون واللاجئون والنساء والعمال الأجراء والمغتربون والفلاحون ورجال القبائل والناشطون السياسيون وآلاف آخرون إلى المدن النفطية الناشئة في خوزستان، بحثًا عن سبل العيش أو عن فرصٍ ما أو سعيًا لمجرد البقاء على قيد الحياة". وقد نمت عبادان لتصبح مدينة عالمية. وبحلول عام 1920، صدّرت النفط وأصبحت موقعًا استراتيجيًا للبريطانيين الذين اعتمدت طائراتهم الحربية على وقودها.

أخيرًا، أشار الباحث إلى أن هذا الأمر ينطبق على بلدان أخرى في المنطقة، ولا سيما البلدان الواقعة في شبه الجزيرة العربية؛ إذ أتى بالنفط الحداثة، كما ساهمت صناعة النفط في تنمية الأراضي في تلك المنطقة. ومع ذلك، وخلافًا للتاريخ الرسمي والتصوّرات المرئية للنفط في تلك التواريخ، لا يعني ما سبق أن المدن التي جرى اكتشاف النفط فيها كانت أراضي خاوية. وفي نهاية المطاف، شهدت المجتمعات المحلية تحوّلات كبيرة، حتى إن بعضها تشرّد نتيجة اكتشاف النفط وانتشار الصناعات المرتبطة به.

[1] البختياري هي إحدى القبائل الكردية العريقة في إيران، وهي جزء من تشكيلة قبائل اللور الكردية. ولا تزال نسبة من البختياريين تعيش حياة البداوة والترحال، وإن كانت الأغلبية قد استقرّت في حياة حضرية. يوجد البختياريون في مناطق غرب إيران، وخصوصًا في شرق محافظة خوزستان ومحافظتَي جهار محال بختياري وبوير أحمد، وهم مسلمون يعتنقون المذهب الشيعي الإثنا عشري ويعتمدون لهجة خاصة بهم تسمى باللوریة البختيارية.