في 20 حزيران/ يونيو 2021، استضافت وحدة الدراسات الإيرانية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات محمود منشيبوري، رئيس قسم العلاقات الدولية في جامعة سان فرانسيسكو، الذي ألقى محاضرة بعنوان "الديناميات المتغيّرة لتطوّر سياسات خطوط الأنابيب في جنوب القوقاز". وأدار المحاضرة مدير الوحدة، وأستاذ الشؤون الدولية في جامعة جورجتاون في قطر، مهران كامرافا.

استهلّ منشيبوري محاضرته بتسليط الضوء على أهمية جنوب القوقاز الجيوسياسية والجغرافية نظرًا إلى موقعها بين البحر الأسود وبحر قزوين. وتضمّ منطقة جنوب القوقاز أرمينيا وأذربيجان وجورجيا، وهي نقطة تقاطع بين الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا. ويقول منشيبوري "هي منطقة تشهد تنافسًا وتضاربًا للمصالح بين كل من روسيا وتركيا وإيران والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية".

لقد ترك السوفيات إرثًا جعل تلك المنطقة تعاني اقتصادًا ضعيفًا، ونزاعاتٍ لا تنتهي، ولا تزال تفتقر إلى ديمقراطية. تُعدّ أذربيجان البلد الوحيد في المنطقة الغنيّة بالنفط والغاز، في حين تعتمد أرمينيا وجورجيا على روسيا وإيران وأذربيجان لتأمين احتياجاتهما من النفط والغاز. وأصبحت أذربيجان طرفًا فاعلًا مهمًا في المنطقة، على نحوٍ أقلق روسيا؛ لما لذلك من تأثيرٍ في القطاع الروسي للنفط والغاز. ورأى منشيبوري، في هذا السياق، أنّ التنافس في المنطقة يؤدي إلى غياب التعاون بين بلدانها.

وشدّد منشيبوري أيضًا على دور تركيا في الجغرافيا السياسية على الصعيد الإقليمي قائلًا: "تركيا هي الرابط البري لنقل النفط والغاز إلى أوروبا". ورأى أنّ 72 في المئة من نفط المنطقة و73 في المئة من غازها [اللذَين يتم تصديرهما] إلى أوروبا يمرّان عبر تركيا التي تُعدّ مركزًا للطاقة، والتي أصبحت موردًا رئيسًا للطاقة بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، وتمتلك إحدى أكبر أسواق الطاقة في أوروبا.

وفي ما يتعلق باستراتيجية إيران في جنوب القوقاز، لاحظ منشيبوري أنّها كانت محكومةً دومًا باعتبارات جيوسياسية لا أيديولوجية. فقد حافظت إيران على موقفٍ محايد تجاه التوترات والمواجهات التي وقعت بين أذربيجان وأرمينيا. واستخدم منشيبوري في هذا السياق مصطلح "الحياد الإيجابي"، الذي وضعه أستاذ العلوم السياسية الإيراني كيهان برزيغار Keyhan Barzegar، لتسليط الضوء على جهود إيران في التخفيف من حدّة الأزمات الإقليمية ولتأكيد مصلحتها في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي.

وقال منشيبوري "تنخرط إيران في ’لعبة خارجية‘[1] من جهة، وتعرب من خلالها عن دعمها لأذربيجان، وهي دولة أخرى تنعم بأغلبية شيعية، بينما تمارس ’لعبة داخلية‘[2] تعبّر فيها عن تعاطفها مع أرمينيا، من جهة أخرى". وساهم عاملان رئيسان في تشكيل السياسة الخارجية الإيرانية في المنطقة، وهما: عزل الولايات المتحدة الأميركية إيران، من خلال العقوبات التي تفرضها عليها، وتبنّي إيران سياسة محورها روسيا. وقال منشيبوري في هذا الصدد: "لم يكن الإيرانيون استبقايين إلى أبعد الحدود، بل كانوا يتفاعلون بوتيرةٍ بطيئة إزاء إحراز التقدّم، إلّا إذا كان أمنهم الوطني في خطر".

ثم تطرّق منشيبوري إلى مشاريع خطوط الأنابيب الإيرانية، فرأى أنّ إيران اقترحت عددًا منها، غير أنّ عملية تنفيذ أغلبيتها باءت بالفشل، ومنها: مشروع خط أنابيب غاز نابوكو Nabucco Gas Pipeline، ومشروع خط أنابيب إيران – أرمينيا - جورجيا لنقل الغاز، ومشروع خط أنابيب الصداقة الذي يمتدّ من جنوب أوروبا عبر العراق وسورية [ليزوّد أوروبا بالغاز]. واقترحت إيران أيضًا مشروع خط أنابيب السلام لتصدير الغاز الإيراني إلى باكستان، لكن يبدو أنه غير فعّال بما أنّه لم يجرِ اتخاذ أي إجراء في هذا الخصوص. ويعتقد منشيبوري أنّ العقوبات الأميركية المسلطة على إيران هي التي أدّت إلى فشل هذه المشاريع المقترحة.

إنّ أحد خطوط الأنابيب الإيرانية قيد الإنشاء حاليًا، هو خط أنابيب النفط الخام غوره جاسكGoreh-Jask Crude Oil Pipeline. ويتميّز خط الأنابيب هذا بقدرته على نقل ما يصل إلى مليون برميل من النفط الخام يوميًا من مستودع غوره في مرفأ محافظة بوشهر في الخليج الفارسي إلى محطة النفط الأخيرة في مقاطعة جاسك على طول خليج عُمان. ويتيح خط الأنابيب لإيران تجاوز مضيق هرمز لتأمين صادراتها النفطية. ويوفّر أيضًا طريقًا مختصرة لناقلات الغاز الطبيعي المُسال، ويمكّن إيران من منافسة قطر في هذا المجال.

وأعرب منشيبوري عن الغموض الذي يعتري دور روسيا في المنطقة، مضيفًا أنه ليس واثقًا من أنها ستكون جهة فاعلة مهيمنة. غير أنّ روسيا هي المورد الأساسي للطاقة لكل من جورجيا وأرمينيا، وهي لم تكن راضية عن مساعي إيران للمشاركة في قطاعات الطاقة العائدة إلى أرمينيا وجورجيا. ولقد أعربت روسيا عن اهتمامها بإنشاء ممرّ بين الشمال والجنوب مع إيران، يربطها بمنطقة الخليج من خلال إيران. وتسعى روسيا من خلال ذلك إلى موازنة النفوذ المتنامي لتركيا في المنطقة ووضع حدّ للتدخل الأميركي في القوقاز.

في غضون ذلك، دخلت تركيا في معادلة القوى في منطقة جنوب القوقاز من خلال دعمها أذربيجان في حربها ضد أرمينيا. ومع هزيمة أرمينيا وسيطرة أذربيجان على ناغورنو كاراباخ، يُحتمل بناء ممرّ يربط مباشرةً بين أذربيجان وناختشيفان، أطلقت عليه تركيا اسم ممر زانغزور Zangezur Corridor. وقد وقّع البلدان [تركيا وأذربيجان] مؤخرًا إعلان شوشة وناقشا إمكانية إنشاء رابط مباشر وجديد بين المناطق البرية في كل من أذربيجان وبحر قزوين وجمهوريات آسيا الوسطى. ومن شأن ذلك أن يخفّف من اعتماد تركيا على الغاز والنفط الإيراني والروسي، ويقرّبها أكثر من هدفها؛ إذ تسعى لتصبح مركزًا إقليميًا للطاقة.

شكّلت حرب ناغورنو كاراباخ الثانية في عام 2020 بين أرمينيا وأذربيجان تحديًا جديدًا بالنسبة إلى إيران، تمثّل، أولًا، في التحوّل الذي طرأ على ميزان القوى الإقليمية. فقبل توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، كانت إيران الرابط البري الوحيد بين أذربيجان وناختشيفان المفصولة عنها. غير أنّ أذربيجان، ونتيجة انتصارها في الحرب باتت تنعم برابط مباشر مع ناختشيفان. وكما ذُكر، يربط إعلان شوشة تركيا بأذربيجان من دون حاجتهما إلى المرور عبر إيران. وبذلك، تكون تركيا المستفيد الأول من إمكانية الوصول إلى ناختشيفان، ومنها إلى أذربيجان. ووفقًا لمنشيبوري، ستتكبّد إيران خسارة كبيرة بسبب فقدانها عائدات العبور، وهي خطوة تشير أيضًا إلى أن سيطرة إيران المباشرة على أرمينيا باتت معرّضة للخطر على ما يبدو.

تناول منشيبوري منظورَيْن في سياق ردّه على سؤال: هل انتهت اللعبة الكبرى[3]؟ يرى المنظور الأول أنّ اللعبة قد انتهت، وأنّ إيران في صدد دخولها الاتحاد الاقتصادي الأوراسيEurasia Economic Union – EAEU، إلى جانب أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وروسيا. أما آخرون، فقد وجدوا فيها لعبة قديمة، وأنّ اللعبة الكبرى الجديدة هي "مبادرة حزام واحد طريق واحد" التي أطلقتها الصين. ويعتقد الباحثون الذين يؤيّدون هذا المنظور، أنه يرجّح أن تتعاون إيران وروسيا لإيجاد طرق نقل بديلة، مثل الممر بين الشمال والجنوب. ويرى منشيبوري أنّ المشكلة الرئيسة تكمن في أن العديد من الدول في شرق آسيا وغربها، إضافة إلى جنوب شرق آسيا، متردّدة في التعاون مع إيران بسبب العقوبات. أما المنظور الثاني، فيرى أنّ اللعبة الكبرى قد احتدمت مقارنةً بما كانت عليه في الماضي. فبرأي منشيبوري "تمارس تركيا، في جنوب القوقاز، هذه اللعبة بثقةٍ وتصميم، متحلّيةً بصبرٍ استراتيجي. أما روسيا، فتستغلها للحفاظ على دورها في المنطقة، هذا إن لم تصبح الجهة الفاعلة المهيمنة". في حين أنّ ردّة فعل إيران متفاوتة تجاهها.

وختم المحاضر حديثه بالقول إنّ إيران تحتفظ بعدّة أوراق رابحة في منطقة جنوب القوقاز. ومن المتوقّع أن تشهد المصالح الروسية الإيرانية تضاربًا أكثر من احتمال تقاطعها. وقد حدّدت روسيا أيضًا مصالحها الاقتصادية والتجارية لتكون أكثر انسجامًا مع مصالح تركيا، منها مع مصالح إيران. وتوقّع منشيبوري أن يعيق مشروع ممر زنغزور طرق العبور التي تعتمدها إيران. وأخيرًا، شدّد منشيبوري على أهمية محادثات خطة العمل الشاملة المشتركة الأخيرة في فيينا، قائلًا إنّ "حل المشكلات مع الغرب سيفرج عن إمكانات إيران الاقتصادية القصوى ويتيح فرصًا سياسية في منطقة جنوب القوقاز".

[1] تهدف اللعبة الخارجية إلى التأثير في الرأي العام باللجوء إلى وسائل إعلام مدفوعة الأجر، مثل الاستعانة بأصوات الناخبين لمراقبة صانعي السياسات. (المترجمة)

[2] تتضمّن اللعبة الداخلية الاتصال المباشر بصنّاع السياسات، وهناك مصطلح آخر يعبّر عن اللعبة الداخلية، وهو ممارسة الضغط. (المترجمة)

[3] إن مصطلح "اللعبة الكبرى" The Great Game هو تعبير بريطاني يصف ما رآه البريطانيون تنافسًا وصراعًا استراتيجيًا بين الإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية الروسية سعيًا وراء بسط السيادة في آسيا الوسطى. وتمتدّ الفترة الكلاسيكية للعبة الكبرى بصورة عامة تقريبًا، بدءًا من المعاهدة الروسية الفارسية عام 1813 وصولًا إلى الاجتماع الإنكليزي الروسي عام 1907. وبعد الثورة البلشفية عام 1917، بدأ طور جديد أقل حدّة من اللعبة. إلا أنه بعد الحرب العالمية الثانية، حلّت الولايات المتحدة محل بريطانيا. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي استعر التنافس مرة أخرى في ما عرف باللعبة الكبرى الجديدة بين الولايات المتحدة وروسيا. (المترجمة)