استضافت وحدة دراسات الخليج والجزيرة العربية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الثلاثاء 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، في إطار سلسلة محاضراتها الشهرية، إسراء المفتاح، الأستاذة المساعدة في قسم العلوم التربوية في جامعة قطر، التي قدّمت محاضرة عن "تدويل التعليم العالي: حالة التنقل الأكاديمي وإنتاج المعرفة في جامعة قطر"، أدارها الأستاذ المساعد في برنامج التاريخ في معهد الدوحة للدراسات العليا والباحث في الوحدة عبد الرحمن الإبراهيم.

استهلّت المحاضِرة حديثها بإرجاع سبب اختيارها التدويل والتنقل في المجال الأكاديمي موضوعًا للبحث إلى مسألة شخصية تتعلّق بتمركز حياتها حول التنقل بين المؤسسات الأكاديمية في قطر ونيويورك وفانكوفر بكندا، إلى جانب المحفّز المتعلق بقلّة الأدبيات عن التنقل والتعليم العالي، ورأت أنّ جامعة قطر تمثّل أنموذجًا فريدًا وحالةً مثيرةً للاهتمام، تساعد على فهم كيف يمر القطريون بتجارب التنقل، وتقدّم إضافة في مجال دراسات التدويل النقدي، وتساهم في إعادة تعريف التدويل.

إنّ أحد مؤشرات قياس التدويل هو عدد الأكاديميين المواطنين مقارنةً بعدد الأكاديميين الدوليين في مؤسسة ما، وعدد الطلاب الدوليين فيها، وإنتاج معرفة مشتركة بين أكاديميين في مؤسسات دولية أجنبية. وقد تبنّت المحاضِرة تعريف الكاتبة الدنماركية ماريان لارسن Marianne Larsen للتدويل، وهو توسيع نطاق الجامعة إلى ما وراء الحدود من خلال تنقل الطلاب والإنتاج المعرفي وما إلى ذلك. أمّا الأسئلة التي اتّخذتها المحاضِرة منطلقًا للبحث فهي: كيف يؤثر نمط التدويل في جامعة قطر في الحراك الأكاديمي فيها؟ وكيف تؤثر إمكانية تنقل أعضاء هيئة التدريس في تدويل المعرفة في ظل جهود التدويل في مرحلة التأسيس وفي الوقت الحاضر؟

استندت المحاضِرة إلى المداخلات النسوية العابرة للحدود في دراسات العولمة، التي يُمكن أن تساعد على فهم ظاهرة تبدو عالميةً، وتبيّن كيف ترتبط ببناء اجتماعي معيّن، وتفكّك الثنائيات بين الوطني والعالمي، والمحلي والدولي، وكيف أنّ الأكاديميين ليسوا مجرد مُتلقين للمعرفة، بل أيضًا باستطاعتهم البناء عليها. وأجرت المفتاح دراسة حالة في جامعة قطر قامت فيها بعمل إثنوغرافي استنادًا إلى منهج الملاحظة التشاركية، وأجرت تنقيبًا أرشيفيًا، ومقابلات. وقد بيّنت النتائج أنّ جامعة قطر، منذ نشأتها عام 1973 نتيجة التعاون بين دولة قطر ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" UNESCO، لطالما كانت مشروعًا دوليًا، مع اختلاف الرؤى بين مرحلة التأسيس والمرحلة الراهنة.

كانت ميول تدويل الجامعة جليةً، ولا سيما في مرحلة التأسيس وحتى عام 1986، فمحمد إبراهيم كاظم (1928-1992)، وهو أكاديمي وأستاذ مصري ومؤسس جامعة قطر وأوّل رئيس لها (1977-1986)، امتلك رؤيةَ أن تكون الجامعة دولية، مع أنّها جامعة وطنية من حيث المبدأ. ولذا، يجب أن تكون منفتحةً على الآخر. وقد انعكس ذلك على البلدان الأصلية التي جاء منها الأكاديميون، وتحديدًا المملكة العربية السعودية ومصر والعراق والسودان، وكان هناك امتداد وصل حتى أميركا واليابان. في هذه المرحلة، تجلى نمط التدويل على نحو أكبر في تنقلات الأكاديميين البينية في بلدان الجنوب العالمي، وتحديدًا الدول العربية.

وفي عام 2005، بدأت مرحلة الإصلاح في جامعة قطر، الذي توّلته مؤسسة راند Rand Corporation الأميركية، فأدخلَت مفاهيم جديدة للهرميات الاجتماعية شعر معها بعض الأكاديميين بالترحيب، في حين شعر آخرون بالاغتراب. وكانت أهم التغييرات التي جرت آنذاك هو تغيير لغة التدريس من العربية إلى الإنكليزية، وأصبحت الولايات المتحدة الأميركية هي النموذج في الاعتمادية والتصنيف. وفي عام 2012، بعد عودة الجامعة إلى التدريس باللغة العربية، وجد بعض الأكاديميين أنفسهم "مشرّدين" بسبب هذا التغيير، حتى إنّهم وصفوه بـ "الإصلاح القاتل". ومع ذلك، ظلّت المعايير والتصنيفات تعتمد على المؤسسات الغربية. واستنتجت المحاضِرة أنّ أنماط التدويل المعتمَدة تحكم على تنقلات الأكاديميين وتوليد المعرفة في المؤسسات. وتُخلّف هذه العملية هرمية معرفية، وتتسبّب في فراغ عملي ومؤسسي يتسبّب في حرق الإنتاج المعرفي وغياب مراكز الأبحاث.

شهدت المحاضرة إقبالًا وتفاعلًا واسعَين. وطرح عددٌ من الحضور تساؤلاتهم حضوريًا عن محاور عدّة، من قبيل التحولات في جامعة قطر وتغيُّر السياسات التعليمية، وتقييم مرحلة إصلاحات مؤسسة راند في الجامعة، وإنتاج المعرفة عربيًا في ظل تقهقرها عامةً، والتدقيق المصطلحي لمفهوم التدويل، والتدويل بين كونه خيارًا أو إجبارًا، ومخرجات التدويل وأثره في جامعة قطر على المستويين الماكرو والميكرو، وغيرها من التساؤلات.