نظّمت وحدة دراسات الخليج والجزيرة العربية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مساء الثلاثاء 12/9/2023، في مقر المركز في الدوحة، محاضرتها الشهرية الأولى في الموسم الأكاديمي 2023/ 2024، وقدّم فيها حيدر سعيد، الباحث في المركز ورئيس الوحدة، محاضرةً بعنوان "’الخليج العربي‘: السيرة السياسية لمصطلح". وأدار الجلسة الباحث عبد الرحمن الباكر.
في مستهل محاضرته، ذكر حيدر سعيد أنه سيعرض لورقة بحثية أنجزها عن السياقات السياسية التي أولدت تعبير "الخليج العربي" في الأدبيات العربية الحديثة، وتسعى للخروج عن الطابع السجالي الذي يحكم الموضوع؛ ما وجَّهه نحو البحث في أصول التسميات والجذور التاريخية لكل تعبير استعمل للدلالة على الخليج. وأوضح أن الورقة تقوم على افتراض أساسي، مفاده أن ظهور هذه التسمية لم يكن ينطلق - بالضرورة - من الرغبة في حسم هوية البحر الذي تتشاطؤه دول عربية وإيران، ولم يكن يحكمه – بالضرورة – النزاع والتنافس الذي يكاد يكون تاريخيًّا بين العالم العربي وإيران، بل إن التسمية كانت تحركها حاجات داخلية لبناء الهوية؛ ليس في بلدان الخليج العربية فحسب، بل في بلدان المشرق العربي أيضًا.
وبيّن المحاضر أنّ الافتراضات التي تذهب إلى أن هذا التعبير تعبير أيديولوجي ناتج من صعود الحركة القومية العربية خلال أواسط القرن العشرين، وأنّ فيها قدرًا من التبسيط والاستنتاج السريع المتعجل. غير أن الغاية الأساسية التي تسعى لها محاضرته، لا تتمثل في نقض هذه المقولة، بل في البحث عما يتخفى تحت الإيمان بها من وظائف تؤديها التسميات، ذات صلة ببناء الأمة والدولة وهوية كل منهما؛ فتسمية "الخليج العربي" ظهرت في سياق عمليات بناء الأمة، التي تكفلت بها الدول أو النظم السياسية الناشئة، بمعونة نخبها الوطنية، الناشئة معها، والمنتمية إلى هذه الدولة وكيانها السياسي. وقد تكفلت هذه النخبُ بمشروع بناء الهوية وصياغة سردياتها، الذي هو مفصل أساسي في عمليات بناء الأمة. وبناءُ الأمة الناشئة كان يرتكز، في أحد مفاصله الأساسية، على تحديد هوية الأمة بأنها هوية عربية، بوصفها هوية الشعب مطلقًا، أو هوية الغالبية السكانية في البلاد.
وحاجّ المحاضر بأن استعمال نخب المشرق لتعبير "الخليج العربي" لم يكن منطلقه عروبة الخليج، بل كان - بالأحرى - عروبة المشرق. ومع أن هذا الأمر سيتطور ويتشعب في العقود اللاحقة، فإنه سيظل أساسيًّا في الخطاب المشرقي؛ ذلك أنه يرى في عروبة الخليج صورةَ هويته العربية أولًا. في حين أن المصطلح استُعمل، لدى النخب الخليجية، في لحظة فاصلة في تاريخ منطقة الخليج؛ إذ انتقلت، من كونها كيانات سياسية بدأت تتشكل منذ أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، بوصفها منظومات سلطة مركزية، وقعت لاحقًا تحت نفوذ الاستعمار البريطاني، وارتبطت بإدارته، إلى حالة الدولة Statehood؛ أي الحالة التي بدأ نموذج الدولة الأمة يشكل مخيالَها السياسي، وبدأت تستعد لدخول نظام الدولة القومية، أو النظام الوستفالي، الذي تكرّس في المنطقة في الربع الأول من القرن العشرين.
وذكر المحاضر أنه تابع العمليات اللاحقة التي فرضت نوعًا من التأطير الأيديولوجي للتسمية، بدءًا من أواسط الستينيات من القرن العشرين؛ إذ تحكمت في استعمالاته وتثبيته وتحديد معانيه السياقية مقاربةٌ أيديولوجية، تولتها النخبة القومية الأيديولوجية، التي ورثت وخلفت النخبةَ القومية التقليدية، التي انحصر مشروعُها في بناء الهوية العربية للدولة، في حين مضت النخبةُ الأيديولوجية أبعد من ذلك؛ من خلال تحويل العروبة إلى منظور تُحدَّد من خلاله الثقافة، والجغرافية، فضلًا عن التاريخ، والتركيبة السكانية، والعلاقات السياسية. وفي هذا الشأن، تحدّث المحاضر عن مسائل عديدة وصفها بأنها "أساسية"؛ من ذلك حديثه عن الخليج بوصفه مجالًا للتنافس الاستعماري، وقد جاءت هذه المسألة في سياق حقبة "تصفية الاستعمار"، وحديثه عنه بوصفه قاعدة محتملة للقوى القومية واليسارية، وتشبيهه بالحالة الفلسطينية، من خلال "استعارة كبرى" Grand Metaphor، تهدف إلى الحديث عن وجود مؤامرة إيرانية لإحداث تغيير ديموغرافي في مجتمعات الخليج عبر حركة الهجرة الواسعة إليها من إيران.
وتوقف المحاضر عند الجهود الأكاديمية العربية التي شكّكت في صوابية تعبير "الخليج الفارسي"، في سياق الترويج لتعبير "الخليج العربي"، والتي صمّمت المحاجّةَ العربية في هذا المجال، وهي تقوم على مسألة جوهرية، بحسب المحاضر، متمثّلة في أن تعبير "الخليج الفارسي" لا يطابق الواقع، السكاني، والطبيعي والتاريخي، للخليج بضفتيه. ولاحقًا، جرى دمج عنصرين أساسيين في بنية هذه المحاجّة ذات الصلة بتعبير "الخليج الفارسي" نفسه؛ ذلك أنه تعبير نسبي، وليس مطلقًا، بما أنه يوناني النشأة، في حين استعملت الحضارات الأخرى – ومنها الرافدينية – تسميات أخرى، ثمّ إنّ الوثائق القديمة نفسها لا تخلو من استعمالات لتعبير "الخليج العربي".
وأوضح المحاضر أنه استند إلى العديد من الوثائق النصية لبواكير استعمال تعبير "الخليج العربي" في الأدبيات العربية وتطوره.
وقد شهدت المحاضرة إقبالًا وتفاعلًا واسعين، فطرح عددٌ من الحضور أسئلتهم حضوريًّا عن محاور عدّة، شملت مفهوم النخبة، والتمايزات بين النخب الخليجية والمشرقية، وما إلى ذلك.