نظّمت وحدة دراسات الخليج والجزيرة العربية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مساء الخميس 30 كانون الثاني/ يناير 2025، المحاضرة الأولى ضمن برنامج محاضراتها الشهرية لعام 2025، بعنوان "التاريخ المهمّش في الخليج: تساؤلات وإشكالات، مشيخة الزبير أنموذجًا"، التي قدّم فيها عبد الرحمن الإبراهيم، الباحث في الوحدة والأستاذ المساعد في برنامج التاريخ بمعهد الدوحة للدراسات العليا، مشروعه البحثي ذا الصلة. وأدار المحاضرة رئيس الوحدة حيدر سعيد.

استهلّ المحاضر حديثه بالقول إن محطاتٍ كثيرةً في تاريخ الخليج لم تُبحَث، لعل أبرزها تاريخ المشيخات التي وُجِدت قبل نشوء الدول. وقد تحوّل بعض هذه المشيخات إلى دول، في حين هُمّشت مشيخات أخرى ولم تستمر كياناتٍ سياسيةً، مشددًا على أهمية أن تُعاد قراءة تاريخ هذه المشيخات المهمّشة في السرديات الرسمية للدول.

وعرّف "التاريخ المهمش" بأنّه يشمل الموضوعات التاريخية التي وقع عليها فعل التهميش عمدًا، بغضّ النظر عن كيفية وقوع التهميش أو ماهيّته. وعدّ هذا التاريخ في الخليج ذا أهمية، كونه يعيد تعريف الهوية الوطنية القُطرية، ويواجه السرديات الرسمية التي تركز على السلالات الحاكمة والتطورات الاقتصادية، مثل ظهور النفط، بينما تهمل الفئات الأقل نفوذًا والبعيدة عن مركز السلطة، مثل عربستان والزبير وحائل، حيث جرى تغييب تاريخ إمارة آل الرشيد لمنطقة حائل، على سبيل المثال، مقابل إبراز رواية تركز على صعود الدولة السعودية الثالثة.

وقال إنّ الزبير ذات موقع جغرافي مهمّ، وكانت مركزًا للقوافل التجارية، وممرًا طبيعيًا للحجّاج من إيران والعراق وتركيا. وأضاف أن مشيختها كان لها دورٌ سياسي واقتصادي وثقافي كبير في جنوب العراق الحالي، ووصل وامتد إلى المناطق المجاورة (الكويت، ونجد، وشرق الجزيرة العربية).

وجادل الإبراهيم بأنّ وجود مشيخة الزبير تحت مظلّة الحكم العثماني، ووجود قوى إقليمية أقوى منها، أديا إلى تراجع الاهتمام بها، وأنّ هجرة أهل الزبير في زمن المشيخة إلى نجد أو الكويت بعد قيام الدولة العراقية الحديثة، وبعد تأسيس المملكة العربية السعودية، أسهمت في اندثار هذا التاريخ وتراجع الاهتمام به. أضف إلى ذلك أنّ أهل الزبير الذين كانوا يعيشون في زمن المشيخة لم يعودوا يعيشون فيها، لا هم ولا أحفادهم؛ إذ إنهم انتقلوا إلى السعودية والكويت.

ولخّص عوامل تهميش مشيخة الزبير وتأثيرها في الكويت والعكس في عاملَين، أحدهما سياسي والآخر اجتماعي. فأمّا العامل السياسي فيتمثّل في العلاقات السياسية المتوترة بين العراق ودول الجوار، لا سيما الكويت والسعودية، ويمتد ذلك منذ قيام الحقبة الملكية في العراق ومحاولة تدخّله في شؤون الكويت عام 1938، ثم تهديدات عبد الكريم قاسم عام 1961 بعد استقلال الكويت، وأخيرًا الغزو العراقي للكويت عام 1990، ما ساهم في إخراج الكويتيين ذوي الأصول العراقية من الهوية التاريخية للدولة، حتى إنّ بعض المجتمعات الخليجية لا تزال تتعامل بحذر مع التنظيمات والفئات الاجتماعية التي لها امتداد عابر للحدود الوطنية، لا سيما العراق وإيران. وقد أفضى ذلك، من بين نتائج عدة، إلى عزوف المؤرخين الخليجيين عن تناول مشيخة الزبير تحليليًا وأكاديميًا، وضعف اهتمام المؤسسات البحثية بها. أمّا العامل الاجتماعي فيتمثّل في رفض العديد من الأسر الزبيرية الارتباط بأصولها الزبيرية، حتى لا تنتسب إلى العراق اليوم، الذي اتخذ وضعًا إشكاليًا في علاقته بالكويت، حيث حاول الزبيريون بعد هجرتهم إليها الحفاظ على ارتباطهم بجذورهم النجدية، ما منحهم امتيازًا على غيرهم ممّن سكَن الكويت.

وأسهب المحاضر في شرح أساس مشكلة التاريخ المهمّش في الكتابات التاريخية في الخليج، رادًّا إياها إلى المنهجية الوطنية والتاريخ الوطني، اللذَين يؤثران في تشكّل الهوية الوطنية، بطريقة مختلفة تعكس دوافع كل منها. وتعتمد هذه المنهجية، في رأيه، على الدولة القطرية بوصفها تحليلية أساسية بما يؤدي إلى بناء هوية وطنية تستند إلى حدود الدولة السياسية. وأضاف أن هذا الإطار يصوغ تصوّرًا ضيّقًا لهذه الهوية، إذ يجري التعامل مع العمليات التاريخية على أنّها حدثت داخل الحدود الجغرافية للدولة المعاصرة. ولذا، تُستبعد الجماعات والمناطق التي تقع خارج الحدود من السرد الوطني، حتى لو كانت لها روابط تاريخية وثقافية عميقة، مثلما حدث مع الكتابة عن الزبير في الكتابات التاريخية في الكويت، كونها تقع في العراق اليوم. وأشاد بالدور الذي يؤدّيه اليوم المؤرّخون في تيّار دراسات المحيط الهندي في محاولة تجاوز هذه الإشكالية من خلال تبنّي مقاربات عابرة للحدود لتعزيز فهمٍ أكثر شمولية بدلًا من تعزيز سرديات الدول القطرية.

في المقابل، حاجّ بأنّ التاريخ الوطني يهدف إلى تشكيل هوية وطنية أكثر أيديولوجيةً وانتقائيةً، تحتفي بـ "إنجازات الأمة"، وتُبرز شخصيات وطنية وأحداثًا كبرى لتعزيز الشعور بالفخر والانتماء، حتى لو كان على حساب تهميش الجماعات والمناطق التي لا تتماشى مع هذه السردية. وضرب مثالًا على ذلك بحالة النجديين في الزبير، فبسبب وجودهم في العراق، في رأيه، لا صوت لهم في الكتابات الكويتية، على عكس نجد، لأنّه لا وجود لإشكال حدودي مع السعودية، على عكس الإشكال الحدودي مع العراق.

وتطرّق إلى بعض الإشكالات التي يواجهها المؤرخون الخليجيون، ومنها الأرشيف المقيد الذي تسيطر عليه الدولة، فلا يتمكن الباحثون من الوصول إلى الوثائق، فضلًا عن المناخ السياسي المنغلق المتجسّد في قوانين الوحدة الوطنية التي تضيّق على الباحثين، وربما تضر بهم إذا ما حاولوا بحث بعض المواضيع المهمّشة. ويضاف إلى هذا كله ضعف الإنتاج العلمي في الجامعات الخليجية عمومًا.

شهدت المحاضرة إقبالًا وتفاعلًا واسعَين. وطرح عددٌ من الحضور أسئلة ذات صلة بمحاور عدّة مما تناوله المحاضر، من قبيل الكتابة التاريخية وارتباطها برسم الحدود الوطنية، وفهم المواطنة، ودور العامل الأيديولوجي، ونظرة أهل الزبير للبصرة ونجد والكويت، وعلاقة الزبير بالسلطة العثمانية، ومدى توافر كتابات موضوعية عن الزبير، والنظرة إلى الوهابية، والبُعدَين الطبقي والاقتصادي في مسألة الانتماء إلى الزبير، وتهميش التاريخ بسبب عدم الكشف عن أرشيفات بريطانية وعثمانية، ومركزية نجد في ادّعاء الأصالة، والفرق بين الهامش والمهمّش، وغيرها من التساؤلات.