استضافت وحدة دراسات الخليج والجزيرة العربية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في المحاضرة الثانية من سلسلة محاضراتها الشهرية، يوم الخميس 6 نيسان/ أبريل 2023، المؤرخة الألمانية أولريكه فريتاغ، الأستاذة في جامعة برلين الحرة ومديرة مركز لايبنز لدراسات الشرق الأوسط الحديث (ZMO)، وقد قدّمت محاضرة تحت عنوان "جدّة وفضاء المحيط الهندي: من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين". وأدارت المحاضرة أمل غزال، أستاذة التاريخ وعميدة كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية في معهد الدوحة للدراسات العليا.
استهلّت فريتاغ محاضرتها بالحديث عن جدة بوصفها ميناءً على المحيط الهندي، ذلك أن البحر الأحمر هو جزءٌ من هذا المحيط، اقتصاديًا وثقافيًا. وناقشت فكرتها من منظور جغرافي مناخي، شارحةً التداعيات السياسية والاقتصادية لموقع جدة، حيث كانت الميناء الذي أتت إليه السفن قادمةً من المحيط الهندي، كونها منفذًا للبضائع من مصر والمحيط الهندي إلى الإمبراطورية العثمانية والبحر الأبيض المتوسط وأوروبا، كما أنّها منفذٌ للبضائع المحلية الآتية من البصرة والحجاز.
وأشارت فريتاغ إلى أنّ ميناء جدة كان يُعاني بعضَ المشكلات، من بينها صعوبة الوصول إليه بسبب كثافة الشُعب المرجانية، وشُحّ المصادر، خاصةً ندرة المياه. ومع ذلك، ثمّة سببان مهمان لمركزيّة جدة؛ يتمثل الأوّل في قربها من مدينة مكة، وكونها طريقًا للحج والقوافل المؤدية إليها. وبينما ساهم دخول البواخر إلى اختصار الطريق، خاصة بالنسبة إلى الحجّاج القادمين من جنوب شرق آسيا؛ ما قاد إلى تنامي عدد الحجاج من جنوب شرق آسيا خلال القرن التاسع عشر، إلا أن هذه البواخر تسبّبت في الكثير من الإشكاليات بالنسبة إلى التجارة، حيث أصبحت البواخر تتجاوز المدينة، وتُبحِر مباشرةً من عدن إلى السويس. أمّا السبب الثاني فهو طول مدّة الحكم العثماني الذي رأى في المدينة ميناءً تجاريًا مهمًّا. علاوةً على ذلك، واصل العثمانيون سعيهم للسيطرة على اليمن بعد أن فقدوه في القرن السابع، لكن استعادته باتت ممكنةً في القرن الثامن عشر باستخدام ميناء جدة نقطةَ ارتكاز. وكان هدف العثمانيين الرئيس بالحجاز هو السيطرة على مدينتَي مكة والمدينة المقدّستَين، إلّا أنّ جدة فقدت دورها تدريجيًا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر وأربعينياته، عندما بدأت السفن الأوروبية الإبحار في ممرّات بحرية جديدة شمال جدة في مياه البحر الأحمر.
وتحدّثت فريتاغ عن التطورات السياسية والاقتصادية في جدة خلال فترة التنظيمات العثمانية، بعد أن حصلت المدينة على نصيبها الأول من الإصلاحات. وبعد أربعينيات القرن التاسع عشر، كان القادة العثمانيون يُرسَلون بانتظام من إسطنبول إلى جدة. وأشارت إلى الكيفية التي تجلّى بها مكون المحيط الهندي في الفضاء الحضري للمدينة؛ ما أدى إلى وجود طابعٍ كوزموبوليتاني للسكان، فقد هاجر إليها كثيرون؛ منهم بحّارة وحرفيون وعبيد، إضافة إلى عائلات التجار الذين رُحِّبَ بهم، وسهَّل التجارُ المحليون هجرتَهم من خلال الزواج من بناتهم لإقناع المهاجرين الجدد بالبقاء، على الرغم من أنّ هذا يُعد مخالفًا لعادات القبائل النجدية في شبه الجزيرة العربية. وقد أسَّس هؤلاء المهاجرون المنازل والشركات، وهو أمرٌ سُهِّلَ من خلال قانون الجنسية العثماني، الذي اعترف بالمهاجرين المسلمين مواطنين بعد إقامتهم خمس سنوات. وقد اندمج المهاجرون بسهولة في المجتمعات الحجازية ذات الطابع الكوزموبوليتاني؛ لذلك كانت جدة إحدى الموانئ الرئيسة في تجارة العبيد من أفريقيا إلى شبه الجزيرة، حيث جُلِبَ العديد منهم إلى الخليج، وبالتحديد جدة، للعمل لدى العائلات المحلية. كما شُيِّدَت العديد من الضواحي من العبيد والمهاجرين لاستيعاب القادمين الجدد، وهو ما تسبَّب بالكثير من الانزعاج للقناصل الأجانب، فقد كانوا قلقين من أنّ رعاياهم المُستَعمَرين، ولا سيّما من الهند وأندونيسيا، سوف يتعاطفون مع الإمبراطورية العثمانية، أو أن النشطاء السياسيين سوف يستخدمون ذريعة الحج للبقاء في مكة والاتصال بالعثمانيين.
كما تحدثت فريتاغ بإيجاز عن التغييرات المرتبطة بالحكم السعودي وبناء الأمة في القرن العشرين، خاصةً تلك المُتعلّقة بمدينة جدة؛ إذ أدّى استلام السعوديين الحكم في البلاد إلى تغييرات تدريجية، فقد تخلّص ابن سعود من الأشياء التي كانت طبيعية بالنسبة إلى أبناء جدّة، مثل الموسيقى والراديو وتدخين السجائر والمقاهي وما إلى ذلك. وباتت جدة العاصمة الاقتصادية بعد أن بدأت الطفرة النفطية الحقيقية عقب الحرب العالمية الثانية، فقد زادت الإيرادات بسرعة، ورافق ذلك تحديث "محافظ"، ومن ثم فُتِحَت السفارات والشركات الأجنبية، وعُبِّدَت الطرق والأحياء. وخلال الثمانينيات، وبينما كان يجري تحول "محافظ"، انتقلت جميع السفارات من جدة إلى الرياض، وأصبحت الأخيرة هي العاصمة الاقتصادية للمملكة العربية السعودية. وفي حين أنّها كانت فترةً إسلامية محافظة، فقد عُمِّمَت أيضًا القيم القبلية على المستوى الوطني؛ لذلك بدأت رمزية جدة بالتلاشي أكثر فأكثر، وغدا الذهاب إليها بهدف قضاء أوقات ممتعة فقط. واختتمت فريتاغ بتأكيد ارتباط جدة بالمحيط الهندي على نحو وثيق، والذي يمكن استشعاره في شكل الملابس والأسماء المشتركة مع السكان المختلفين من المنطقة بأكملها.
عُقب ذلك، شهدت المحاضرة إقبالًا وتفاعلًا واسعين مع ما قدّمته فريتاغ، فطرح عددٌ من الحضور تساؤلاتهم عبر تطبيق زووم عن موضوعات عدّة شملت العلاقة بين جدة والحجاز بوصفهما منطقتين متشابهتين أو مختلفتين، والفولكلور الثقافي في جدة، والتربية الإسلامية فيها مقارنةً بالمراكز التعليمية في مكة والمدينة، والفنون في مدن المحيط الهندي وعلاقتها بالتجارة البحرية، ووجود الإثنيات المختلفة وتأثيرها في الهوية، وغيرها.