في إطار المحاضرات العامة التي يعقدها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ألقت عالِمة السياسة الأميركية ليزا أندرسون محاضرة عنوانها "أمولة كل شيء: إعادة النظر في رأس المال والتعسّف في الشرق الأوسط". المحاضرة التي نظمتها وحدة دراسات الدولة والنظم السياسية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بالمشاركة مع برنامج العلوم السياسية والعلاقات الدولية في معهد الدوحة للدراسات العليا، بدأتها رئيسة الجلسة الدكتورة أمل غزال، أستاذة التاريخ وعميدة كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بالمعهد، بتقديم المحاضرة، والتنويه عن منجزها العلمي في حقل دراسات الشرق الأوسط.

وقد ربطت أندرسون، التي تشغل منصب الأستاذ الفخري لكرسي جيمس ت. شوتويل للعلاقات الدولية في مدرسة الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا، ما بين تطور الرأسمالية النيوليبرالية وتيار الأمولة المهيمن في وقتنا الراهن على الاقتصاد العالمي. وقد بَنَت محاضرتها على مناقشة تشارلز تيلي، عالم الاجتماعي السياسي الأميركي، لديناميات الإكراه وتشكّل الأنظمة القسرية بسلطة الدولة. ركزت الدكتورة أندرسون في محاضرتها على تطبيقات هذا المفهوم في المجال الاقتصادي، مبرزةً قدرة الرأسمال على رسم حدود جديدة للاستغلال وفَرْض صور من الهيمنة على المجتمع غير مسبوقة، وبيّنت تطورات الرأسمالية في طورها النيوليبرالي، وبخاصة منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وحاولت ربط هذا النقاش بتكوين الدولة في الجنوب العالمي، وركزت في ذلك على بعض الشواهد من الشرق الأوسط.

بيّنت المحاضرة أن الأمولة باتت تعمل في صعيد مستقل نوعًا ما عن الاقتصاد الإنتاجي، في حين تؤثر حركتها، على نحو متصاعد، في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى. ونبهت إلى أن الدولة هي الفاعل المهم في هذا السياق، بعد أنْ صارت تفكر بعقل شركة، وترى في إدارة المخاطر المالية وحوكمتها أولوية أولى للعمل الحكومي. باتت هذه الدولة في العديد من مناطق العالم تحركها أولويات تعكس تأثير الأسواق المالية وحركة الفاعلين الماليين الكبير في قرارها. وعلى الرغم من ذلك، فشلت تلك التوجهات في الوقاية من الأزمة المالية العالمية.

وقدّمت أندرسون مثالًا عن تأثير هذا الفكر في قطاعات عامة عديدة، ومنها القطاع الجامعي. وقدّمت، أيضًا، شواهد من خبرتها في العمل في هذا المجال، وتطرقت إلى توجه البنك الدولي للترويج لسياسات الشمول المالي، بزعم أنها أداة فعالة في تمكين الفقراء والحد من ظواهر الفقر، وضمن ذلك إدماج الفقراء في الأنظمة المصرفية، وفي سياسات تستهدف الجمع بين منظمي الرأسمال التمويلي والوزارات الخدمية. ضربت أندرسون كذلك مثالًا من خلال صناديق الثروة السيادية، منوهةً بأن 12 صندوقًا من المنطقة تُعدّ من ضمن الصناديق الخمسين الأكبر على الصعيد العالمي. وأبدت مخاوف من عمل هذه الصناديق خارج أُطر الاستثمارات الآمنة بالنسبة إلى نوعية من الاستثمارات العالية المخاطر، ووسيلتها في ذلك مشاركة الصناديق الخاصة الدولية التي تمتلك الجرأة على وضع استثمارات كبيرة في مشاريع محفوفة بالمخاطر، ومنها شركات التكنولوجيا والترفيه والعقارات.

بات تركيز الدولة على تدفق الرأسمال التمويلي العالمي والعابر للحدود يفوق تركيزها على تطوير نُظمها الضريبية. وفي هذا السياق، طرحت المحاضرة ملاحظات متعلقة بكيفية أداء آليات الإكراه دورًا مكملًا لحركة رأس المال التمويلي. وربطت صعود تيار الأمولة بصعود موازٍ لدور الشركات في المجال العام، ودخولها حتى إلى عدد من المعاقل التقليدية لعمل الدولة، كالسياسة الخارجية مثلًا. وأضافت في هذا السياق أمثلة لدور المناطق الاقتصادية الخاصة، والأنظمة الحضرية الخاصة، التي يمثلها بجلاء انتشار المجمعات السكنية المسوّرة، وأنظمة الأمن الخاصة، وأنظمة الإعفاء الضريبي التي تعكس تضاؤل دور الضرائب في تعزيز الإنفاق العام، وحتى تقلّص الدور القانوني للدولة، وبخاصة في تحكيم المنازعات عبر أنظمة لها استقلال عن المحاكم الوطنية.

وفي نهاية المحاضرة، تساءلت أندرسون عن مآل هذا التحول الكبير بالنسبة إلى الدولة والمجتمع، وحينئذٍ انفتح باب الحوار مع الحضور في قاعة السيمنار بالمركز العربي، ومع الجمهور عبر وسائل التواصل الاجتماعي.