بدون عنوان

استضاف برنامج السيمنار الأسبوعي، الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يوم الأربعاء 20 كانون الأول/ ديسمبر 2017 الكاتب والباحث العراقي زهير المخ، المختص في الشؤون الدولية، حيث قدّم محاضرة بعنوان "البعد الثقافي للأزمة الخليجية."

وبيّن المخّ في بداية محاضرته أنّ الظاهرة المثيرة للانتباه، لمن يتابع تداعيات الأزمة الخليجية الناتجة من فرض الحصار على قطر، هي ما يمكن تسميته بدخول البُعد الثقافي على خط هذه الأزمة بزخم غير مسبوق. وقد استرجع الباحث العِقد الأول من الألفية الثالثة بوصفه مرحلةً شديدة الملاءمة للتطلعات القَطرية بشأن بناء مركزٍ للدوحة لتكون قطبًا منافسًا للأقطاب التقليدية في المنطقة، وتبرز باعتبارها إحدى أكثر اللاعبين تأثيرًا في السياسات الإقليمية على نحو جليّ. وردّ المخّ هذا التعطش للاعتراف إلى الفراغ الذي تركته التحولات العميقة في قوانين الاصطفاف الإقليمي، بقوله إنّ ميزان القوى الإقليمية الذي سمح خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي بنشوء قطب سعودي واضح - وإن لم يكن مهيمنًا - هو اليوم في تراجع عميق، وربما جذري.

أما السمات الجوهرية لهذا التراجع، فهي تكمن، في الحقيقة، في انحسار قدرة المعيارين الأيديولوجي والإستراتيجي على التعبئة والاستقطاب، واعتراف واقعي بأهمية العنصر الثقافي بوصفه معيارًا أو عنصرًا بديلًا، وربما حاسمًا للتفاعل الإقليمي. وقد تبدّى ذلك واضحًا، وفقًا للباحث، عندما انفجرت الكيانات، واندفعت الهويات المحلية العابرة للدول إلى الدخول في صلب الحياة السياسية والاجتماعية بصورة لم يتمّ الالتفات إليها من قبل إلى حد كبير.

كما ركّز الباحث على اعتبارات خمسة تفسّر بروز الدور القَطري في هذا المشهد، يتعلق أولها بابتكار الدوحة منحىً للتعامل مع فواعل وشبكات سواء محلية أو عابرة للحدود، ونسجت تحالفات غير رسمية معها في محاولة منها لتوسيع نفوذها، باعتبارها قوى ضامنةً لمكوناتها الاجتماعية (سواء كانت طائفية أو إثنية أو جهوية)، وهي جميعها معايير لا علاقة لها بالمصالح الاقتصادية أو الاعتبارات الإستراتيجية؛ إنما هي، في الواقع، تقع في صلب ما يسمى بـ "سياسات الهوية"، أو الانتماء الثقافي. وهذا التفاعل هو، الآن، أكثر أهمية من القوة العسكرية التقليدية أو الموقع الجيوستراتيجي في التأثير في مجريات السياسات الإقليمية.

أما الاعتبار الثاني فهو يتجسد في تماهي الدوحة مع هذا العنصر، وهو أن المعيار الذي تنشب على أساسه الصراعات المسلحة وفق معيار الانتماء (سواء إلى طائفة أو إثنية أو دين أو جهة) هو معيار لا علاقة له هنا أيضًا بالمصالح الاقتصادية أو الاعتبارات الإستراتيجية، إنما، في الواقع، بالانتماء الثقافي حصرًا. ولأن الوساطة ليست بديلًا ورديًا من الصراع وليست نقيضًا له، بل شكل من أشكال الصراع مع الآخر، بعيدًا عن ثنائية "الخير والشر" النرجسية.

ومن هنا، يبرز الاعتبار الثالث المتمثل بتأسيس محطة "الجزيرة" الفضائية التي كانت بمنزلة "ثورة إعلامية" عبر أثير الشرق الأوسط. اضطلعت قطر، عبر القناة، بدور حاسم في إعداد المسرح الثقافي ليس أملًا في مشاكسة هيمنة السعودية؛ القوة المحافظة الرئيسة في المنطقة التي لا تمتلك أصلًا هذا الرصيد، بل من فرادة هذا المنحى في تحقيق "هيمنة ثقافية" من خلال صناعة الوعي ومن ثمّ النفوذ. كانت "الجزيرة" تتبع خطى السياسة القطرية الخارجية فيما أصبح دارجًا في الأدبيات السوسيولوجية بـ "تحديد الأجندة" للتأثير في الدول والحكومات، وأن تكون كذلك نقطة اتصال بين المتضادات. إلا أن هذا لا يلغي الاعتبار الرابع المتمثل بتطوير الدوحة مفهومًا ثقافيًا محضًا إزاء انهيار دول أو احتضار بعضها في أشكال متعددة من التفسخ، وانحصار مهمتها في "إعادة بناء المجتمعات" وليس في "إعادة بناء الدول"، وذلك من أجل الخروج مفهوميًا من حالات الاستبداد السياسي ومن الهويات القاتلة. ويبقى أخيرًا الاعتبار الخامس، حيث يصح القول إنّ الدوحة تجاوزت خط الصدع المذهبي؛ المحرك الأساسي للحرب الباردة القائمة بين طهران والرياض، وتبنّت في المقابل مبدأ الحوار وقبول الاختلاف بوصفه منفذًا من هذه المرحلة المحفوفة بالأخطار والعنف.

وفي الختام، دار نقاش ثريّ بين الباحث والحضور حول موضوع البحث.