بدون عنوان

نظم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالتعاون مع معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، يوم الأحد 10 كانون الأول/ ديسمبر 2017، ندوة بعنوان "إشكاليات المصطلح في العلوم الاجتماعية والإنسانية". وأثارت الندوة الاهتمام من جديد بإشكاليات المصطلح العربي في العلوم الاجتماعية والإنسانية، انطلاقًا من أن تطوير البحث العربي في هذه العلوم يستلزم بالضرورة إرساء مصطلحات عربية قادرة على نقل المفاهيم العلمية بالدقة المطلوبة، وتوحيد استعمالها بعيدًا عن النزعات القُطرية والفردية، انطلاقًا من وضع منهجية مُحدّدة بوضوح، ينجم عن العمل بها الوصول إلى الكفاية المصطلحية.

انتظمت أبحاث الندوة في محورين؛ أحدهما محور وضع المصطلح العربي وآليات توليده، والآخر محور ترجمة المصطلحات العلمية. وفي الختام، خصّصت جلسة نقاشية مُوسّعة لتبادل الرؤى والتجارب والخبرات، شارك فيها علماء وخبراء من مؤسسة معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، وباحثون من المركز العربي للأبحاث، وأساتذة معهد الدوحة للدراسات العليا، وطلبة المعهد.

إشكالية المصطلح العربي ليست فنية، بل هي إشكالية بحثية

افتتح الندوة المفكر عزمي بشارة، المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وقد تحدث عن أهمية عقد هذه الندوة بحضور علماء متميزين في مجالاتهم، وأوضح أن "مشكلة المصطلح" واحدة من هموم أساتذة العلوم الاجتماعية الذين يبحثون عن منهج لتوليد المصطلحات العلمية أو ترجمتها عن اللغات التي درسوا بها في دول غربية، فمعظم أساتذة معهد الدوحة للدراسات العليا مثلا تلقوا تعليمهم في الغرب ويواجهون صعوبات في ترجمة المصطلح إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية، وقد باتت الحاجة ماسة إلى الكتابة البحثية والتدريس بمصطلحات عربية موحَّدة في ظل فوضى مصطلحية تعوق التواصل والتفاعل والتراكم المعرفي، كما تعوق مواكبة الإنتاج العربيّ لأحدث الإشكاليات المطروحة في مجالات البحث الإنساني  والاجتماعي.

وأشار بشارة إلى أن معجم الدوحة التاريخي للغة العربية يدرس مسألة تأسيس منتدى صغير داخل المعهد تحصل فيه مناقشة بين الأساتذة وخبراء معجم الدوحة التاريخي للغة العربية حول المصطلحات العربية وترجمتها، كما أشار إلى أنّ هذه الندوة هي فاتحة لإنجاح هذه التجربة.

وأكد بشارة في كلمته الافتتاحية أن مسألة المصطلحات ليست مسألة فنية أو تقنية متعلقة بترجمتها إلى العربية، فهذه مسألة سهلة، ولا تنتهي المهمة بترجمة المصطلح، لكنها مسألة بحثية في حد ذاتها؛ فالمهم، بحسب رأيه، ليس المفردة أو اللفظ، بل المفهوم الذي تعكسه، والذي خلّف تاريخًا كاملًا من التطوير والبحث إلى أن أصبح هذا المصطلح يعبّر عنه، ولكن هذا لا يقلل من أهمية التدقيق في استخدام المصطلحات وتوحيدها، حتى لو كانت ثمة تعريفات مختلفة للمفهوم. فعلى الأقل، يكون واضحًا أنّ الباحثين يختلفون في الشيء ذاته. ومن ثم فإن تجاوز الإشكاليات التي يطرحها المصطلح العربي يحتاج إلى تواضع معرفي والاطلاع على ما أُنجز في هذا الموضوع من توليد للمصطلحات وترجمتها، وإلى شرطين آخرين؛ الأول إدراك تطور العلوم الاجتماعية والإنسانية لكي يعكس توليد المصطلحات تطورًا داخليًا، بحيث نستنبط مصطلحات تعكس تفكيرنا وأبحاثنا بصورة حقيقية. أمّا الشرط الثاني، فمفاده أنه يجب أن تكون هناك مرونة لغوية في الترجمة، لا سيما أننا نواجه مشكلات حقيقية في كل ما يعتبر "بادئات" و"لاحقات" في اللغات الغربية، وخصوصًا تلك التي تفيد المقارنة، أو النفي، أو المزامنة.

وخلص بشارة إلى أن إشكاليات المصطلح العربي "ليس نقاشًا لغويًا فقط، فهو مرتبط بمدى تطور العلوم الاجتماعية عندنا واستنباط مصطلحات، ولدينا مثال هو نتاج ابن خلدون، إذا عدتم إلى مقدمته تجدون مخزنًا من المصطلحات التي نفتقر إليها الآن والتي تعكس العديد من مصطلحات العلوم الاجتماعية والإنسانية". حتى إن بعضها ظل كما هو في الأدبيات الغربية مثل كلمة "عصبية". وأرجع ذلك إلى أن ابن خلدون اشتغل بالتفكير في الكثير من مسائله البحثية، وأنّ الأمر ليس مجرد عملية ترجمة، إذ قدّم مصطلحات ملائمة لمفاهيم استعصت ترجمتها على المحدثين. وأضاف أن الإنتاج المعرفي العربي يحتاج إلى أن نتفق على المصطلحات، وأن نعترف بجهود الآخرين وألّا يبدأ كل منا من البداية كأنّ أحدًا لم يسبقه في التفكير في الموضوع، خصوصًا في ظل عدم وجود دولة جامعة ذات مؤسسات رسمية قادرة على الإلزام عبر مناهج موحدة؛ ذلك أننا نلاحظ أن كل مترجم يبدأ من الصفر، ما يجعل الباحث المطلع على الأدبيات العربية يواجه مشكلة بحثية حقيقية. وأخيرًا شدّد بشارة على أنه لا تناقض بين تعددية تعريف المفاهيم وتعددية نظريات العلوم الاجتماعية والإنسانية ومحاولة توحيد المصطلحات التي تعبّر عن الظواهر والمفاهيم ذاتها، حتى تلك المختلف فيها، وإلا فإنه يصبح من الصعب الحجاج والتحاور والتدال حول الخلاف نفسه.

وضع المصطلح وآليات توليده

تناولت الجلسة الأولى من أعمال الندوة "وضع المصطلح وآليات توليده"، وقد ترأسها الدكتور ياسر سليمان معالي رئيس معهد الدوحة للدراسات العليا بالوكالة، وفي هذا الصدد قدم الدكتور عبد السلام المسدي بحثًا بعنوان "العربية وآليات صياغة المصطلح"، رأى فيه أن المشتغل بالظواهر الاجتماعية يرتكز على عنصرين أساسيين في البحث؛ هما حقائق اللغة والتمثلات الإدراكية التي يشتغل بها عالم الاجتماع. ويرى المسدي أن قضية المصطلح هي إشكالية عامة لها خصوصية، ويعيد ذلك إلى طبائع الألسنة البشرية، ويستنبط ذلك في بعدين؛ المفاهيم والتصورات حول المصطلح، وإشكالية صناعة المصطلح في حقل العلوم الاجتماعية. وأوصى بضرورة اجتماع علماء اللسانيات العربية وتقديم خطة إستراتيجية متوسطة المدى، تبدأ بالبحث في تنقية إشكاليات المصطلح مما حصل فيها على مدى السنين الماضية. ويرى الباحث أنه آن الأوان الحضاري للاشتغال بالمصطلح العربي من خارج الأطر والطرق التقليدية التي سلكها العلماء والباحثون في العلوم الاجتماعية والإنسانية.

في الجلسة ذاتها، قدّم الدكتور علي القاسمي بحثًا بعنوان "مشكلات وضع المصطلح العربي في الإنسانيات"، وبيّن أن أهم الإشكاليات التي تواجه المصطلح تكمن في الازدواجية اللغوية. فالمفهوم الواحد يُعبَّر عنه بأكثر من مصطلح في المنطقة العربية. ورأى أن هذه الازدواجية منافية لأهم مبادئ علم المصطلح الواحد، وأكد ضرورة تخلصِ اللغة العربية من الترادف والاشتراك اللفظي. وأضاف القاسمي سببين رئيسين للازدواجية اللغوية. فالسبب الأول إداري وسياسي؛ فمثًلا، يختلف مصطلح "محافظ" بين دول المشرق والمغرب العربي. أما السبب الثاني، فهو يعود إلى اللغة في ذاتها؛ ذلك أنّ تعدد المصادر التاريخية التي أثرت في العربية، مثل الفرنسية والإنكليزية، زادت من إشكاليات الترادف والازدواج الاصطلاحي.

استعرض الدكتور إبراهيم بن مراد، ملاحظات لسانية ومنهجية متعلقة بتوليد المصطلح واستعماله في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وبيّن أن إشكاليات المصطلح لا تزال قائمة منذ قرنٍ، وأنّ اللغة العربية ليست بمعزل عن إشكاليات المصطلح؛ على غرار اللغات الأخرى. فالفرنسية، مثلًا، طبّقت سياسة الحمائية تجاه الإنكليزية. ووجد الباحث أن إشكالية الحقيقية تكمن في أننا لم نفكر في مقاربة نظرية في علم المصطلح، مع ضرورة وجوب الخروج من هذه المقاربة؛ لنضع تصورًا للمصطلح ضمن مقاربة اصطلاحية معجمية. وفي نهاية ورقته، أوصى باتباع منهج "التوحيد أو التقييس" الذي يعني توحيد استعمال المصطلح، حتى لا تتشتت المفاهيم العربية، كما أوصى بتوحيد القواعد النظرية العامة في المصطلح.

ترجمة المصطلح العلمي

وفي الجلسة الثانية من الندوة التي ترأسها الدكتور علي الكبيسي، المدير العام للمنظمة العالمية للنهوض باللغة العربية، قدم الدكتور عز الدين البوشيخي بحثًا بعنوان "المَعْيَرة والتَّقييس منهجًا لترجمة المصطلحات العلمية: حالات ونماذج"، وقد أكد البوشيخي الحاجة إلى وضع منهج واضح لترجمة المصطلحات، خاصة أن الأصل في اللغة أن تكون العلاقة بين الدال والمدلول اعتباطيةً، وهو ما ينتفي في الصناعة المصطلحية؛ ذلك أنّ اختيار المصطلح اختيارًا واعيًا يعتمد على عدد من الأسس اللسانية والمفاهيمية. فالمصطلح تسمية واعية لمسماه، ويمكن تصنيف المصطلحات إلى مصطلحات "حضارية"، وثانية "علمية"، وأخرى "تقنية". ولكل من هذه الأصناف وضعه الخاص عند الحديث عنه. فالمصطلحات العلمية مثلًا تتناول مفاهيم كونية، وقد أرجع الفوضى في ترجمة المصطلح إلى أسلوب "يُعجبني ولا يُعجبني"؛ أي سيادة الذوق في الانتقاء. ومن ثم فإنّ من وظائف المصطلحات تأسيس العلم، وتقييد العلم، وتنظيم المعرفة العلمية، وتنظيم الباحثين في المعرفة عن طريق توحيد المسميات بينهم. وهنا تأتي أهمية المَعْيَرة اللسانية، أي إنه لا بدّ لمن يُقدم على ترجمة المصطلح أن يستحضر قواعد بناء الكلمة وقيودها، ولا بد من مؤسسة تُضفي الشرعية على المصطلحات وتقوم بتعميمها وتوحيدها بين الباحثين، والتجربتان الفرنسية والكندية مميزتان في هذا المجال.

أما الباحث رمزي بعلبكي، فقد ناقش في بحثه "دور السوابق واللواحق العربية في المصطلحات المنقولة عن اللغات الأجنبيّة" مسألة تفضيل النحت وسيلةً لصناعة المصطلح، مقارنةً بالتركيب؛ بالنظر إلى أن الكلمة المفردة مفضلة دائمًا على التركيب، فاقترح مثلًا "السرنمة" بدلًا من "السير أثناء النوم"؛ وذلك لأنّ الاشتقاق منها أيسر، كما أن نعت المصطلح المركب يستلزم أن تتوسطه الصفة فتقول: "السير الطويل أثناء النوم"، في حين أننا نقول في حال استعمال المصطلح المفرد: "سرنمة طويلة". وقدّم البعلبكي في هذا الشأن عددًا من الأمثلة، مقترحًا مصطلحات منحوتة للتعبير عن مفاهيم طبية. ثمّ انتقل البعلبكي إلى بيان إمكانية استعمال عدد من السوابق واللواحق العربية المطّردة في ترجمة المصطلحات المركّبة.

عالج الباحث حسن حمزة مسألة "المصطلح العربي: نقل للمصطلحات الأجنبية أم نقل المفاهيم؟". وقد أشار، من خلالها، إلى أن الأصل في ميلاد المصطلح أن يكون عند أهل حقله في سيرورته؛ بدايةً ونشأةً وتطوّرًا. فأولى إشكالات المصطلح العربي، بحسب حمزة، أنّ شأن ولادة المصطلح فيها غريب؛ ولا سيما أنّ أكثر المصطلحات العربية، في الوقت الراهن، تأتي عن طريق ترجمة قد يقوم بها مختص في المجال حينًا، وغير مختص حينًا آخر. وقسّم الباحث الترجمة التي تدخل الكثير من المصطلحات إلى العربية إلى ثلاثة أصناف؛ أولها ترجمة مباشرة لكتب ومقالات أجنبية، ثانيها ترجمة شبه مباشرة تقدِّمها المعاجم الثنائية اللغات، ثالثها ترجمة غير مباشرة تكون في ما يؤلَّف بالعربية، وهو شبه نقل عن فكر أجنبي؛ فتظهر الحروف اللاتينية في ثنايا صفحاته. أما الإشكالية الثانية التي يواجهها المصطلح العربي، فهي متعلقة بظروف إنتاج الترجمة ومصطلحاتها. لقد أشار حمزة إلى محاولة عدد كثير من الباحثين إقامة موازنة بين ما يترجمه أهل هذا الزمان، وبين ما كانت عليه الترجمة في القرون الأولى من الهجرة، والأمر لا يستقيم؛ لأنّ العلوم التي ترجمها العرب القدامى عن الإغريق، مثلًا، كان قد توقّف تطورها، في حين أنّ المترجمين العرب، اليوم، يكونون في مواجهة مصطلحات ما زالت علومها قيد التطور، ثمّ إنّ حال العرب القدامى أنّهم كانوا أصحاب مشروع حضاري، يعتني بالعلم، ويرفع شأن العربية، أما الآن فالحال غير الحال، وكثيرون يقولون "لا داعيَ إلى الترجمة"، ويرون أن تعلّم اللغات الأجنبية، والأخذ منها وبها أولى. ويأتي كل هذا بالتزامن مع فقدان المجامع اللغوية العربية – التي نشطت أواسط القرن الماضي - لمكانتها وسلطتها، وضعفت مؤسساتها.

أضاف حمزة، إلى ما سبق، إشكالية خلط كثير من المترجمين بين الترجمة والتوليد. فكل مترجم، مختص، أو غير مختص، يقوم بدور "المترجم"، ودور "المصطلحي" الخبير بتوليد المصطلحات؛ إما بحكم الضرورة لغياب المصطلح عن متن اللغة، وإما لأنّ المترجم لا يعرف المقابل العربي الموجود للمصطلح، خاصةً في ظل غياب أدوات التواصل بين الباحثين العرب، كما أن بعض المترجمين يُؤخذ بـ "فتنة الكلمات"، فيسعى لابتداع مصطلحات جديدة، تكون له أبوَّتها، ولا سيما في ظل عجز عن إنتاج مفاهيم جديدة. وأكّد أنه لا يجوز اقتراح مصطلح جديد ينافس مصطلحًا موجودًا إلا إذا تَحقق شرطان؛ أوّلهما أن يكون المصطلح الموجود مفتقدًا للصحة أو الدقة، وثانيهما عدم شيوعه واستقراره في الاستعمال. فأيّ اقتراح لمصطلح جديد بديلٍ من مصطلح سبقه من دون تحقق هذين الشرطين معًا، فهو من قبيل "نبش قبور الموتى".

اختتمت أعمال الندوة بجلسة نقاش عامة أدارها الدكتور حيدر سعيد، الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وقد تطرق فيها الحضور إلى أبعاد مشكلة الاصطلاح في العلوم الاجتماعية العربية، وكيفية تجاوزها. وشهدت هذه الجلسة مداخلات من حقول معرفية متنوعة. وبيّن الحضور أن مشكلات إنتاج المعرفة في العالم العربي، لا تزال تلقي بظلالها على قدرات التعريب والترجمة وابتداع المصطلحات. وفي هذا الحقل، ثمة جهود كبيرة مطلوبة تستدعي ضرورة تكامل الجهود العربية، وتشكيل مجامع عابرة للاختصاصات تسهم في هذا المجال.