بدون عنوان

انطلقت اليوم، السبت 12 أيار/ مايو 2018، أعمال المؤتمر الخامس للدراسات التاريخية "سبعون عامًا على نكبة فلسطين: الذاكرة والتاريخ" الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات على مدى ثلاثة أيام في الدوحة. ويضم المؤتمر نخبة من الباحثين والمؤرخين والأكاديميين والخبراء التربويين في القضية الفلسطينية. والمؤتمر السنوي للدراسات التاريخية تقليد علمي سنوي في الدراسات التاريخية، يعقده المركز العربي في كل عام؛ بهدف تطوير البحث التاريخي العربي، وتعزيز التراكم في المعرفة التاريخية، وتحقيق عملية التواصل بين المؤرخين العرب، وقد خصص موضوعه هذا العام لدراسة الكتابات التاريخية التي عالجت نكبة فلسطين.

افتتح المؤتمر المدير العام للمركز المفكر العربي عزمي بشارة. وأشار إلى أن المؤتمر يُعقد ضمن أجندة المركز العربي من المؤتمرات الدورية التي تشمل مؤتمر "العرب والعالم" الذي عقدت دورته السابعة قبل أيام وتناولت العلاقات العربية - الهندية، وكذا مؤتمر قضايا الديمقراطية والتحول الديمقراطي، ومؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية ومنتدى دراسات الخليج والجزيرة العربية، إضافة إلى مؤتمرات وندوات خاصة بموضوعات محددة أو مستجدة. وأضاف أن تخصيص المؤتمر السنوي للدراسات التاريخية هذا العام لموضوع نكبة فلسطين يتزامن مع مرور سبعين عامًا على النكبة، ولكن ليس من قبيل إحياء الذكرى في حد ذاتها، وإنما هو مؤتمر أكاديمي، ولا شك في أن في موضوعه وتوقيته بعدًا سياسيًا أيضًا.

حصيلة ضخمة من الوثائق والشهادات في مشروع "الذاكرة الفلسطينية"

أوضح الدكتور عزمي بشارة أن المؤتمر يتناول "النكبة" بالمعنى الهيستوغرافي؛ أي دراسة عملية تأريخ النكبة وليس تاريخها الواقعي الحقيقي، وهو موضوع ما زال يحتمل الكثير من البحث. وأشار إلى ثراء برنامج أعمال المؤتمر، وإلى أن عددًا من الأوراق الجيدة التي تلقتها لجنة المؤتمر لم يتمكن أصحابها من الحضور ولم تدرج في برنامج المؤتمر، إلا أنها ستنشر في كتاب يجمع أعمال المؤتمر. وقال إن محاور المؤتمر تضم، إضافةً إلى الأوراق المتعلقة بتأريخ النكبة، مجموعة مشاريع أخرى من بينها موضوع "وعد بلفور" الذي مرت مئويته العام الماضي، وقد تقرر أن يكون محور الندوة السنوية التي تعقدها مجلة الدراسات التاريخية "أسطور" التي يصدرها المركز العربي، وبالنظر إلى ارتباطه بموضوع المؤتمر تم الجمع بين الحدثين؛ إذ يخصص اليوم الأخير من المؤتمر لموضوع وعد بلفور. والمحور الثالث للمؤتمر مشروع بحثي يقوم به المركز العربي بالتعاون مع مجموعة مختارة من الباحثين العرب من مختلف الأقطار العربية وهو "قضية فلسطين في مناهج التدريس". وقال الدكتور عزمي في هذا الصدد "هذا الموضوع أُهمل كثيرًا، وهو يعكس تدهورًا في الحالة العربية، فموضوع فلسطين مرتبط بمسألة الهوية العربية إلى حد كبير، يعني أن قضية فلسطين قضية عربية بقدر ما يكون العرب عربًا، وكلما تراجع هذا الموضوع، حصل تراجعٌ في الهوية العربية وتمزقٌ وتشظٍّ كما تشهدون الآن، خاصة في المشرق العربي، ومع بدء عمليات التطبيع مع إسرائيل وغيرها [...] إن رصد تطور منهاج التدريس في الأقطار العربية بمنتهى الأهمية؛ كونه يعكس تغير الموقف من قضية فلسطين وتغير الموقف من الهوية العربية، لأنها مرتبطة بمدى التشديد على عروبة هذا القطر العربي أو ذاك؛ لذلك هذا موضوع في منتهى الأهمية لن نتوصل فيه إلى نتائج نهائية، ولكن ما توصلنا إليه إلى حد الآن هو بالتأكيد خطير، ويستحق المناقشة".

ويضم برنامج المؤتمر أيضًا عددًا من المشاريع التي يقوم بها المركز أو يدعمها، متعلقة بالموضوع نفسه، أهمها مشروع ديموغرافي حول إحصاء عدد الفلسطينيين في العالم بدعم من المركز، قام به كل من يوسف كرباج وحلا نوفل، وسيعرضان نتائج بحثهما حول عدد الفلسطينيين في العالم. أمّا المشروع الآخر، فهو المؤشر العربي، أكبر استطلاع للرأي العام في المنطقة يجريه المركز سنويًا، وسيعرض مدير المشروع النتائج المتعلقة بالقضية الفلسطينية فيه.

وأشار بشارة، أيضًا، إلى مشروع آخر يقوم به المركز العربي، وهو مشروع "الذاكرة الفلسطينية" الذي يشرف عليه معين الطاهر. وأوضح أن هذا المشروع يسعى لمأسسة الذاكرة الفلسطينية ويسد فراغًا كبيرًا في الساحة حاليًا؛ فهناك ضعف في هذا الجانب، مرده أصلًا إلى ضعف المؤسسات الفلسطينية وتحديدًا تراجع منظمة التحرير الفلسطينية، منوهًا في هذا الصدد بما قامت به وما زالت تقوم به مؤسسة الدراسات الفلسطينية في تأريخ القضية الفلسطينية وأبحاثها، إضافة إلى مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير، والذي تراجع دوره منذ احتلال بيروت عام 1982، لكنه خلّف ثروة كبيرة، وأهم ما فيها هو ما قام به المرحوم أنيس الصايغ مع فريق كبير في ظروف عمل فصائلي فلسطيني كان من الصعب أن تدخل عليها صرامة علمية وأن تصر على الصرامة العلمية في البحث؛ وهو مشروع "الموسوعة الفلسطينية" الموجود الآن في كل بيت فلسطيني. واعتبر أن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات يسعى الآن لملْء فراغ كبير في هذا الجانب، منوهًا بالنزعة الحالية لدى عدد كبير من الباحثين الفلسطينيين الشباب الذين يشارك عدد منهم في المؤتمر، يقومون بتأريخ القضية الفلسطينية، وهناك محاولة لتسجيل الذاكرة بسرعة؛ سواء عبر التاريخ الشفوي، أو التوثيق ... إلخ، وبالأحرى هناك شعور عام يجتاح الجميع دفعة واحدة، وكأنه الفكرة آن أوانها، ومن دون تنسيق نجد في كل الجامعات عبر العالم باحثين يحاولون توثيق الذاكرة الفلسطينية وإغلاق مرحلة من تاريخهم ضرورة جمع وتوثيق لأمور كثيرة، خوفًا من ضياعها وكأنّ هناك شعورًا في هذه المرحلة بأن من كان أمينًا عليها اختفى، وهو جهاز منظمة التحرير الفلسطينية، فلا بد أن يتولى أحد جمع هذه الأمور قبل أن تختفي.

وبيّن المدير العام للمركز العربي أنّ المشرفين على مشروع الذاكرة الفلسطينية قد جمعوا إلى حد الآن جزءًا مهمًا من الوثائق والشهادات، مبشرًا بأن إعلان المركز عن الحصيلة الأولى للمشروع بعد الانتهاء من رقمنة الوثائق سيكون مفاجأة سارة لكثيرين؛ بالنظر إلى حجم ما تم جمعه، ويجري تجهيزه ليصبح مادة للباحثين، خاصة أرشيف قادة فلسطينيين متوفين تم الحصول عليه من عائلاتهم وبدأ العمل عليه على نحو جِدي، وهو يضم كميات كبيرة وهائلة من المعلومات تجري الآن رقمنتها؛ لكي تكون أرشيفًا إلكترونيًّا يمكن الحفاظ عليه من الضياع. وأكد الدكتور عزمي بشارة أن هذه المهمة هي في الحقيقة مهمة الدول ومؤسساتها ووظيفتها، ولكن المركز تطوع بحملها على عاتقه.

المذكرات بصفتها مصادر لكتابة تاريخ النكبة والقضية الفلسطينية

عالجت الجلسة الأولى التي ترأسها عزمي بشارة موضوع كتابة تاريخ النكبة والقضية الفلسطينية، فقد قدّم الباحث معين الطاهر دراسة في مخطوطات أكرم زعيتر وقاسم الريماوي؛ إذ تناول مخطوطين لم يسبق لأحد أن اطلع عليهما. وأضاف أن وثيقة قاسم الريماوي (قائد ميداني 1919-1982) تحدّثت عن محاولة فلسطينية لإبقاء الضفة الغربية كيانًا فلسطينيًا مستقلًا وقاعدة ارتكاز للهيئة العربية العليا. أمّا المخطوط الثاني، فهو اليوميات غير المنشورة لأكرم زعيتر (قائد سياسي 1909-1996) وتضمّ تفصيلات عن الحالة الفلسطينية والعربية السائدة. وقد حرص الطاهر من خلال الدراسة على تتبع مواقف قادة الحركة الوطنية الفلسطينية واتجاهاتهم، إثر نكبة 1948، من خلال المقارنة بين المخطوطين.

في حين قدم الباحث أليكس وايندر دراسة في كيفية تحوّل ممارسة كتابة اليوميات إلى مدخل محدد لتجربة النكبة. وقد ركز وايندر في بحثه على اليوميات التي صدرت في الآونة الأخيرة عن النكبة، لكل من خليل السكاكيني ومحمد عبد الهادي الشروف، إضافةً إلى مواضيع أوسع من حيث الحجم والزمان وصلتها بتاريخ النكبة. كما كشف وايندر من خلال هذه اليوميات عن كون النكبة خليطًا متنوعًا من الكوارث الفردية والمجتمعية، تتكشف بصورة غير متساوية وملتبسة، وتنتج خبرات ومخاوف مختلفة ترتكز على الفضاءات المعيشية التي تتكون منها فلسطين. ومن خلال "قراءة في أوراق كمال عدوان"، قدّم الباحث أحمد جميل عزم دراسة حول كمال عدوان، وهو أحد الفاعلين في الحركة السياسية في قطاع غزة، وفي الحركة الوطنية الفلسطينية وقيادتها، وذلك قبل اغتياله عام 1973. وأشار عزم إلى أن ذكريات كمال عدوان عن النكبة وما قبلها، تشكّل نوعًا من القراءة التاريخية التي يُبنى عليها تصور لمستقبل العمل الفلسطيني، ولتبرير "الكيانية" الفلسطينية.

الوثائق والصور والتاريخ الشفوي بصفتها مصادر لكتابة تاريخ النكبة

ركزت الجلسة الثانية للمؤتمر التي رأسها خالد زيادة على دراسة الوثائق والصور والتاريخ الشفوي الفلسطيني، فقد عالج الباحث توم ريكس السيرة الذاتية وممارسات التاريخ الشفوي في النكبة الفلسطينية، وقدم في ورقته بحثًا في ذكريات الأحداث التاريخية في فلسطين أثناء الانتداب البريطاني التي أدت إلى طرْد جماعي لـ 750 ألف فلسطيني وقتْلهم وإبعادهم. وركز ريكس على ذكريات الفتيان والفتيات الفلسطينيين في المدارس الابتدائية والثانوية الفلسطينية والبريطانية والمدارس التبشيرية الأجنبية في القدس القديمة والحديثة. ويرى، خلافًا لعديد المؤرخين العرب، أن ماضي الشهود المدون في سيرهم الذاتية المطبوعة، إضافة إلى رواياتهم الشفوية بوصفهم شهود عيان للنكبة في العصر الحديث، تعتبر طريقة خلاقة يتحقق من خلالها شهود العيان من تجاربهم المؤلمة قبل النكبة، وأثناءها، وبعدها.

في حين قدم الباحث بلال شلش مجموعة من الوثائق لحُماة يافا التي تغطي نشاطها وفعلها العسكري خلال فترة النكبة. ويرى شلش أن السنوات الماضية، وإن تكثف فيها حضور السّير والمذكِّرات، بصفتها مصدرًا تاريخيًا بارزًا في الأدبيّات التاريخية الفلسطينية المتعلقة بتأريخ حرب 1947-1948، فإنه يندر وجود دراسات نقدية لاستخدام هذا الصنف من الأدبيات مصدرًا تاريخيًا، خصوصًا في ظل غياب مصادر أولية أخرى؛ كالمواد الوثائقية الأرشيفية العربية المتعلقة بالحرب. وأشار شلش إلى أن مقولة الورقة الأساسية، التي تتمثّل بأن نصوص السير والمذكِّرات اليافيّة كُتبت بعيون المهزومين، حضرت فيها هزيمة المدينة وأيامها الأخيرة، كما تضاعف فيها تأثير الهزيمة لتأثر أهل يافا بالهزيمة الكبرى التي تجلَّت في نهاية الحرب، وفقدان ديارهم وتشريدهم عنها؛ من أجل ذلك كان لهذه السّير والمذكِّرات تأثير سلبي في دقة ما قدمته من معلومات وملاحظات واستنتاجات وتقييمات. ومن خلال رصد إمكانية استخدام الصور الفوتوغرافية مصدرًا في دراسة تاريخ النكبة، قدم الباحث عصام نصار دراسةً تستند إلى حدّ ما إلى الصور العربية القليلة التي التقطت في تلك الفترة، وقارنها بالصور التي أنتجها مصورون صهاينة وإسرائيليون، فضلًا عما أنتجه مصورون أجانب.

النكبة في بعض السرديات العربية

مثّلت استعادة صورة النكبة وشكلها في ذكراها السبعين، باعتبار أنها كانت فاتحة الهزائم وسبب تواليها، والتي آلت إلى راهن تاريخنا اليوم، قضيةً رئيسة للبحث ضمن أجندة الجلسة الثالثة التي رأسها وجيه كوثراني. وقد قدم الباحث سعيد الحاجي ورقة حول صورة النكبة في المجتمع المغربي، وأشار إلى أن المواقف الرسمية لمختلف الدول العربية من القضية الفلسطينية عامة، ومن نكبة 1948 خاصة، ظلت معروفة لدى الدارسين والمهتمين، إلا أن حضور هذه القضية في عمق المجتمع المغربي لم يحظَ بالقدر الكافي من اهتمام الباحثين. ولهذا يرى الحاجي أن مقولة "تشكل وعي المغاربة بالقضية الفلسطينية بدأ مع حرب النكبة" إشكالي في حد ذاته. فعند الاستناد إلى الأرشيفات العائلية بشمال المغرب، يتبيّن أن تفاعل المجتمع المغربي مع القضية الفلسطينية، سابق لحدث النكبة، بل لتفاعل الأنظمة العربية نفسها مع القضية الفلسطينية، وأن مواقف التنظيمات السياسية أو الحقوقية أو الثقافية من القضية لم يكن سوى انعكاس للوعي المجتمعي بها، والذي كان ممتدًا إلى عمق المجتمع المغربي على اختلاف فئاته العمرية وانتماءاته الطبقية.

انتقلت الجلسة بعد ذلك، وعلى نحو أكثر تخصيصًا، إلى البحث في الروايتين الأردنية والسورية عن النكبة. وعالج الباحث محمد المصري تعدد السرديات في الرواية الأردنية للنكبة الفلسطينية. واختتم الباحث محمد جمال باروت الجلسة بالحديث عن ردة فعل الحكومة السورية تجاه تمكّن الجيش السوري من تحرير مستعمرة "ميشمار هايردن"، ومن الاحتفاظ بها، وبالتلال الواقعة إلى الغرب منها. واستنادًا إلى محضر مخطوط للجلسة السرية التي نوقشت فيها قضية تحرير الجيش للمستعمرة، بصفتها مشكلة سياسية للدولة، بيّن باروت أن السياسيين السوريين لم يتجرؤوا على سحب الجيش من المستعمرة المحررة، إلى أن قام حسني الزعيم بعد انقلابه بالتنازل عنها بموجب اتفاق الهدنة. وانتهى باروت بتقديم جملة من النتائج التي يراها مهمة حول قراءة موقف الحكومة السورية وقادة مجلس النواب تجاه الحرج الذي نتج من عملية التحرير تلك، بما يقلب الروايات الشائعة في الأدبيات التاريخية السورية.