بدون عنوان

بالتعاون مع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات - فرع بيروت، نظمت الجمعية اللبنانية للدراسات العثمانية ندوة موضوعها مؤسسات ثقافية بين الدستورين العثمانيين 1876-1908، وذلك ضمن سلسلة ندوات مقررة تحت عنوان لبنان بين الدستورين العثمانيين 1876-1908.

عقدت الندوة بعد ظهر الأربعاء 24 تشرين الأول/أكتوبر 2018 في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وشارك فيها كل من جانيت رزق، المسؤولة عن أرشيف بطريركيّة الروم الملكيين الكاثوليك وأمينة مكتبة مركز التراث العربي المسيحي في الجامعة اليسوعيّة، والمحامي والكاتب عبد اللطيف فاخوري.

أدار الندوة الدكتور جوزيف أبو نهرا، العميد السابق لكلية التربية في الجامعة اللبنانية، مستهلًا كلامه بالقول إن غاية هذه الندوات جلاء أفكار مبهمة ومسبقة عن التاريخ العثماني، "علمًا أن الفكر والسياسة والدين على تداخل كبير في الشرق منذ عهد السلطنة وحتى اليوم"؛ ودليله على ذلك المنافسة بين البعثات والإرساليات الأوروبية إلى المشرق، خصوصًا البروتستانتية والكاثوليكية.

المطبعة الكاثوليكية والمشرق

تحدثت رزق عن نشأة المطبعة الكاثوليكية وصحافتها في ظل الرقابة العثمانية على المطبوعات، وعرضت المسار الإداري والحقوقي لنشأة المطبعة وأهدافها أنموذجًا لمطابع القرن التاسع عشر في بيروت، وتطرقت إلى أحوال الصحف في ظل القوانين والاصلاحات العثمانية.

قالت رزق إن "إصدار صحيفة كاثوليكية في سوريا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان عملًا جريئًا ومحفوفًا بالمخاطر، بسبب نظام الصحافة في الإمبراطورية العثمانية". فالقانون لم يكن "يَصِفُ الحدودَ" التي على الصحيفة التقيد بها، علمًا أن الصحف كانت "تخضع لرقابةِ مسؤولٍ تعيّنه القسطنطينية، وفي يده سلطة إيقاف الصحيفة وإلغائها في أي وقت، من دون محاكمة".

أرّخت الباحثة لـ "أول نظام عثماني للمطابع في 15 أيار/مايو 1855، ولم يكن في بيروت سوى ثلاث مطابع: مطبعةُ القديس جاورجيوس (1751)، والمطبعة الأميركيّة (1834)، والمطبعة الكاثوليكيّة (1848)؛ ثمّ صدر نظام المطبوعات في الأول من كانون الثاني/يناير 1865"، لافتةً إلى أن المسؤول العثماني عن رقابة المطبوعات كان يجهل العربية ويستخدم مترجمين.

كان للمنافسة بين البعثات الأجنبية دور بارز في ازدهار الطباعة والنشر والتعليم، بحسب رزق. "ففي عام 1834، نقلَ البروتستانت الأميركيين مطبعتَهم من مالطا إلى بيروت، وفي عام 1845 عاود الأرثوذكس في بيروت العملَ في مطبعة القديس جاورجيوس التابعة لهم". المنافسة إياها هي التي أدت إلى استيراد تقنيات الطباعة وتطويرها وتجديدها، وإلى توسع توزيع المطبوعات، "فاشترى اليسوعيون مطبعة كاملة المعدات من باريس، بذراعٍ وحروف عربيّة وأدوات للطباعة". وفي عام 1856، تسلمت الإرسالية اليسوعية مطبعةً ثانية، هديّة من اللجنة الفرنسية للمدارس الشرقيَّة في باريس.

العلاقة العثمانية بالمطبعة

كانت علاقة الحكومة العثمانيّة بالمطبعة الكاثوليكية طيبة إجمالًا بحسب استطلاعات رزق، على الرغم من أنها كانت تعمل "من دون ترخيص، وكانت الصحيفة التي تصدر عنها تُـنشر من دون إذن"، بناء على العلاقات الخاصة بين الآباء المرسلين والوالي العثماني، إضافة إلى تدخلات القناصل الفرنسيين وحماياتهم.

نسبت الباحثة إلى الأب لويس شيخو قوله إن المطبعة الكاثوليكية "أُصيبت بنكسة في إثر حوادث عام 1860، لكن ما لبثت أن عاودت نشاطَها وزاد العمل فيها مع إنشاء المدارس الجديدة، فازداد عدد عمالها على الأربعين". كما أُضيفت إليها طابعة ثالثة جلبها الآباءُ من مرسيليا.

في عام 1887، أُضيفت مواد قانونيّة تُضيّق الخناق على المطابع، وصدر الأمر بإقفالٍ فوريٍّ لكل مطبعة لا تملك ترخيصًا رسميًّا. تلقّت المطبعة الكاثوليكيّة إنذارات خطّيّة عدة. وبعد أيام، عَقَدَ مجلسُ الولاية جلسةً للبتِّ في أمر مطبعة اليسوعيين، وأعلن القاضي أنها تقوم بخدمات جليّة للبلد، فأثنى الوالي على المطبعة.

صدرت.. توقفت

انتقلت رزق إلى الحديث عن مجلّة البشير الكاثوليكيّة، وكانت إخبارية أسبوعية، أُنشئت لخدمة الطوائف المسيحية الكاثوليكيّة الشرقيّة. وعندما أمرت السلطات بتوقيفها، "أخذ القنصل الفرنسي على عاتقه معالجةَ الوضع مع حاكم سوريا. وفي كانون الثاني/يناير 1871، دفع البروتستانت رشوة للحصول على قرار من المحكمة بإيقاف البشير، وكان عدد المشتركين فيها 265 مشتركًا، بينهم 205 كهنة".

ونقلًا عن المؤرخ المؤرخ اليسوعي ميشال جوليان، روت رزق قصة تأسيس مجلة الكنيسة الكاثوليكيّة. فبعد أن "نُقلت المجلة البروتستانتية المقتطف إلى مصر، هربًا من اضطهاد الرقابة العثمانية، كانت الفرصة ملائمة لكي ينشئ اليسوعيّون مجلّةً مكانَها". لكنها لم تعش سوى "عامين ونصف العام فقط، وتوقفت في أواخر عام 1891".

أما مجلة المشرق فصدر عددها الأول في كانون الثاني/يناير 1898، "بافتتاحية عنوانها: بسم الله خير الأسماء". وفي أعدادها الأولى المتتالية، جددت المجلة "الشُّكر للسلطان (عبد الحميد الثاني) لحُسْن التفاته" إليها. وذكرت الباحثة أن المشرق استطاعت بفضل "حنكة الأب شيخو أن تستمرَّ مع الرقابة والمضايقات العثمانيّة، وتخطت محنة الحرب العالميّة الأولى". أما موضوعاتها فتنوّعت لتشمل جميع العلوم: الدّينيّة والفلسفيَّة والعلوم الاجتماعيَّة والأثريَّة والآداب". وكانت دائرة المشتركين في المشرق تشمل أبناء الشرق وأوروبا، وكان قرّاؤها من المستشرقين والشرقيين، بينهم متخصصون وأساتذة جامعات.

خلصت رزق في مداخلتها إلى أن "المطبعة الكاثوليكيّة أبدعت في التأليف والتصنيف والترجمة والإعلام، حتى احتلّت المرتبة الأولى بين مطابع بيروت، وذاع صيتها في الشرق والغرب، وانتشرت مطبوعاتها وصُحُفها في بلدان متعددة، وأدت دورًا رئيسًا في خدمة اللغة العربيّة ونشر العقيدة الكاثوليكيّة في الشرق".

المقاصد ومدارسها

في مداخلته عن إرهاصات تأسيس جمعية المقاصد الإسلامية ومدارسها في بيروت، تحدث فاخوري عن حاجة "المجتمع المديني الإسلامي إلى الإصلاح، وشيوع فكرة الإصلاحات المنسوبة إلى مدحت باشا" والي سوريا.

عن حاجة بيروت الإسلامية إلى مؤسسات تعليمية حديثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، نقل فاخوري عن خليل الخوري قوله: "جميع المكاتب (المدارس) بيد المسيحيين وليس عند أهل الإسلام في بيروت مدرسة متقنة للتعليم.. وكثير من أولادهم يتعلمون في مكاتب النصارى".

عن التأسيس الفعلي للمقاصد، ذكر فاخوري أنه كان "مشحونًا بألغاز محيرة، وأسرار غامضة، لأنها ترافقت مع تولي مدحت باشا ولاية سوريا". وهو الإصلاحي العثماني الأكبر بين الولاة. والمعروف أن الشيخ عبد القادر القباني الذي كان من "المتنورين الساعين إلى الإصلاح" بحسب فاخوري، هو وأمثاله من البيارتة، كانوا المبادرين إلى تأسيس المقاصد في سرايا بيروت. وعندما وصل مدحت باشا إلى المدينة في عام 1878، "نصبت له الجمعية قوس نصر من الأزهار".

تعليم الناشئة

إلى دورها التضامني في نهضة مجتمع بيروت المديني المسلم في تلك الحقبة، وضعت جمعية المقاصد في رأس أولوياتها تعليم الناشئة تعليمًا محدثًا، منذ تأسيسها في عام 1878، ونشرها كتاب الفجر الصادق الذي شرح أهدافها الإصلاحية.

في تشرين الأول/نوفمبر من ذلك العام، أسست أول مدرسة للبنات في بيروت، تلتها مدرسة ثانية في حزيران/يونيو 1879 في سوق المنجدين. وذكر فاخوري أن "أبرز تلميذات المدرسة الأولى كانت السيدة كلثوم بنت الشيخ محمد البربير، والدة الرئيس صائب سلام"، إضافة إلى "والدة الرئيس رياض الصلح، نظيرة محاسبجي".

الطريف أن الكتاب الأول لتعليم البنات كان "أرجوزة" ألفها الشاعر البيروتي آنذاك قاسم الكستي، تتحدث عن "مكارم الأخلاق وتهذيب أنفس البنات لمعاشرة الأهل والأزواج".

في خطوة جديدة، أنشأت الجمعية في عام 1879، مدرسة داخلية وطنية مباحة لجميع الطوائف، استجابة لأهمية تكاتف أفراد المجتمع. وبحسب فاخوري، يبدو أن "البلاد السورية كانت تخلو آنذاك من مدرسة من هذا القبيل".

عدّد الباحث أنواع مواد التعليم في مدارس المقاصد في بداياتها لبيان مزجها بين المحدث والتراثي: "علم القرآن الشريف والواجبات الدينية والمعاملات الفقهية، اللغة العربية بفنونها، اللغات التركية والفرنسية والانكليزية، وعلوم الرياضيات من جبر وهندسة، وعلوم الجغرافيا والتاريخ، وحسن الخط، والقوانين العثمانية، ومسك الدفاتر التجارية".

نهضة التعليم المقاصدي

يبدو أن عام 1979 شهد خطوات عديدة في نهضة التعليم المقاصدي، "حينما أوفدت الجمعية خمسة طلاب لدراسة الطب في مدرسة القصر الطبية في القاهرة، وذلك مع منحة شهرية قدرها 50 قرشًا"، بحسب فاخوري.

لكن، بعد أربع سنوات على تأسيس الجمعية، أي في عام 1882، رأى الوالي العثماني الجديد أحمد باشا، بحسب قراءة فاخوري، أن المسلمين في بيروت والمناطق يلتفون حول الجمعية، وأن الاستقطاب التربوي بدأ يتحول سياسيًا. لذا عمد إلى إصدار أمر بحلها، وإلحاقها، بالمعارف، أي الجهاز العثماني التربوي والتعليمي.

استمرت الجمعية ومدارسها تعمل على هذه الصورة حتى عام 1907. أما مع عودة العمل بالدستور العثماني وتأسيس مجلس المبعوثان في عام 1908، "فبدأ المسلمون يطالبون الوالي الجديد ناظم باشا بعودة جمعية المقاصد إلى نشاطها، وتسليمها مدارسها". وهذا ما أقره فعلًا مجلس إدارة ولاية بيروت.

حضر الندوة لفيف من الباحثين والأكاديميين والصحافيين والمهتمين، ودارت في ما بينهم مناقشات وتعليقات حول الموضوع، فقدم بعضهم مداخلات عن دور المؤسسات الثقافية في زمن الإصلاحات العثمانية.