بدون عنوان

سلّطت أعمال اليوم الأول لمؤتمر "العنف والسياسة في المجتمعات العربية المعاصرة" الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات على مدى يومين في تونس، الضوء على أبرز العوامل البنيوية المؤججة للعنف في المجتمعات العربية المعاصرة. وأشار المشاركون إلى تأثير عوامل استبداد الأنظمة وعجزها عن تحقيق العدالة الاجتماعية وكذا فشلها في إقامة تنمية اقتصادية ولجوئها إلى العنف من أجل السيطرة على الحنق الشعبي من فشلها وفسادها واستبدادها. وأبرزت أوراق المشاركين البحثية أيضًا لجوء جماعات وقطاعات من المجتمعات العربية إلى العنف أداةً لمواجهة الأنظمة المتسلطة الفاسدة، سواء من منطلقات أيديولوجية مثلما هي الحال مع الجماعات الإسلامية، أو بسبب غياب أيّ أفق للتغيير السلمي وانسداد قنوات الاحتجاج غير العنيف.

الرابع في سلسلة مؤتمرات التحول الديمقراطي

جانب من جلسة افتتاح المؤتمر السنوي الرابع في قضايا التحول الديمقراطي : "العنف والسياسة في المجتمعات العربية المعاصرة"

افتتح اليوم (السبت 12 أيلول / سبتمبر 2015) بتونس الدكتور مهدي مبروك مدير مكتب المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تونس، المؤتمر السنوي الرابع في قضايا التحول الديمقراطي المخصص هذه المرة لموضوع "العنف والسياسة في المجتمعات العربية المعاصرة" بحضور عدد كبير من الضيوف التونسيين والعرب والأجانب.

مؤتمر العنف والسياسة: د. مهدي مبروك مفتتحا المؤتمر

في كلمته الافتتاحية، أوضح الدكتور مهدي مبروك أنّ تناول المركز موضوع العنف والسياسة سببه هو أنّه فرض نفسه على الأجندة الفكرية والبحثية نظرًا إلى ما آلت إليه الثورات من عنف غير مسبوق. وهو ما حتم أن نتساءل عن العلاقة بين العنف والسياسة.

وفي كلمة ألقاها الأستاذ جمال باروت مدير البحوث في المركز العربي نيابة عن الدكتور عزمي بشارة المدير العام للمركز، ذكّر بالدورات الثلاث التي سبقت هذا المؤتمر؛ وقد بحث في قضايا الإسلاميين ونظام الحكم الديمقراطي، والمسألة الطائفية وصناعة الأقليات. وذكر أنّ اللجنة العلمية التحضيرية لهذا المؤتمر تلقّت نحو 270 مقترحًا أقرت منها 170 مقترحًا، واعتمدت 45 ورقة بعد تحكيمها بمساعدة مختصين وخبراء في المواضيع ذات الصلة.

وأضاف جمال باروت أنّ هذا المؤتمر جزء من تقليد المؤتمرات السنوية المحكّمة التي دأب المركز على عقدها سنويًا. وقال: إلى جانب المؤتمر السنوي للتحول الديمقراطي، هناك المؤتمر السنوي للعلوم الاجتماعية والإنسانية الذي يعدّ أحد أهمّ العلامات في النشاط المؤتمري العلمي للمركز، وقد انعقدت منه حتى الآن ثلاث دورات، وينتظر عقد دورته الخامسة في آذار / مارس من العام المقبل 2016 حول موضوعي: "الحرية في الفكر العربي المعاصر" و"قضايا ومشكلات التمدين في المدينة العربية المعاصرة". وستعلن فيه نتائج جائزة المركز السنوية. كما أنّ هناك سلسلة مؤتمرية حول العرب والعالم، وقد عقد منها عدة دورات بحثت في "العرب وتركيا"، و"العرب وإيران"، و"العرب والقرن الأفريقي"، و"العرب وروسيا"، و"العرب وأميركا".

جمال باروت خلال كلمة افتتاحية

جاء أيضًا في كلمة جمال باروت عن نشاط المركز تنظيمه المؤتمر السنوي لمراكز الأبحاث الذي يعمل على تشبيك التعاون والتفاعل ما بين مراكز البحث والتفكير حول موضوعات عربية مهمة محددة. وقد تركّز موضوع الدورة الأولى على التحولات الجيوستراتيجية في سياق الثورات العربية، وفي حين تركّز موضوع المؤتمر الثاني على: قضية فلسطين ومستقبل المشروع العربي الفلسطيني، أما موضوع المؤتمر الثالث فتركّز حول "دول مجلس التعاون الخليجي: السياسة والاقتصاد في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية". وبين الدكتور أنّ نجاح المؤتمر الأخير أدى إلى تحويله إلى منتدى دائم حول الخليج والجزيرة العربية، سيعقد مؤتمره في كانون الأول / ديسمبر 2015 حول قضايا التعليم والعلاقات الدولية لمنطقة الخليج والجزيرة العربية.

وأوضح باروت أنّ هذه المؤتمرات جميعًا مؤتمرات علمية محكّمة، غير أنّ المركز حرص فيها على محاولة إتاحة فضاء نقدي حر للتفاعل ما بين الأكاديميين والخبراء والممارسين السياسيين والمؤثّرين في توجيه الرأي العام والقرار عمومًا، بما يغني الأكاديميين بالخبرة ويغني الممارسين بالرؤية وعمق التحليل.

وقال إنّ فعاليات المركز المختلفة تنطلق من رؤيته الأساسية لقضايا النهضة العربية، واستئناف أسئلتها وإشكالياتها في أزمنة متحولة، بوصف أنّ النهضة لا تزال مرحلة قائمة ولم تحلّ أسئلتها وأسئلتها الجديدة بعد. وفي عداد ذلك اهتمام المركز بقضايا التغير الاجتماعي والتحول الديمقراطي من منطلق فهمه أنّ الغاية العليا التي تسعى من أجلها العلوم الاجتماعية والإنسانية هي الحرية.

ويحاول المركز أن يقدّم خدمة علمية يبقى رصيدها مؤثّرًا في المستقبل من خلال إطلاقه مؤسسة المعجم التاريخي العربي. وقد شارك في إطلاقه وبناء مؤسسته. كما يعمل فيه اليوم مجموعة مختارة من أبرز اللغويين ومؤلفي المعاجم واختصاصيي الحاسوب. وسوف تصدر مجلداته تباعًا على مدار الخمسة عشر عامًا المقبلة. وسوف يرصد هذا المعجم تاريخ الألفاظ والمصطلحات العربية على مدى الألفَي سنة الماضية. وسوف يضم مجموعة إلكترونية شاملة. ومن المتوقّع أن يتفرّع عنه معاجم حضارية متخصّصة، ومعجمٌ كاملٌ للغة العربية المعاصرة، ومعاجم تعليمية.

ويذكر أنّ المركز سبق له أن أطلق قبل ثلاثة أعوام برنامج قياس الرأي العام. وهو أضخم مشروع عربي لقياس اتجاهات الرأي العام نحو موضوعات اقتصادية واجتماعية وسياسية راهنة ومهمة. ويجري الآن الإعداد لتنفيذ المؤشر العربي للسنة الثالثة على التوالي بعد نجاح المؤشر العربي على مدار سنتين في تنفيذ استطلاعات رأي عام في أربعة عشر مجتمعًا عربيًا على عينات ممثلة لهذه المجتمعات ضمن أعلى المعايير التقنية والعلمية للوقوف على آراء المواطنين في المنطقة العربية في قضاياهم.


الدولة والعنف الداخلي

منير كشو

تضمنت الجلسة الافتتاحية محاضرتين؛ ألقى الأولى الدكتور منير كشو وتناول فيها مشكلة التحكّم في العنف في الدول الحديثة وفي مراحل الانتقال الديمقراطي. وعرّج على الأساليب التي اعتمدتها الدولة الحديثة للسيطرة على العنف المجتمعي؛ وذلك باحتكارها استخدام العنف الشرعي. ولاحظ الدكتور كشو أنّ استئثار الدول الحديثة بوسائل القوة والسيطرة على المجتمع وعلى المجال الجغرافي، خلّف تجمّعًا هائلًا للنفوذ بين أيدي أجهزة الدولة لم تستخدمه دائمًا لمصلحة المجتمع والقيم الحديثة التي بُني عليها وإنما لخدمة مصالح أطراف ومراكز نفوذ اقتصادية وسياسية. فالدولة الحديثة سيطرت على العنف الداخلي لكنها استخدمته ووجّهته ضد شعوب ودول أخرى من خلال الاستعمار والحروب وبخاصة الحربين العالميتين، واستهدفت به أيضًا أعداء داخليين لها وهو ما نراه في الدول الاستبدادية والكليانية مثل الستالينية والفاشية والنازية. وقال الدكتور اليوم هناك أمل في أن يكون تحكّم الدولة في العنف لا من خلال احتكار استخدامه فقط بل أن يكون أيضًا هذا الاستخدام خاضعًا إلى الرقابة الدستورية والقانونية والشعبية من خلال الرأي والجدل العمومي وأن يُحصر في الحدود التي يعدّها الجميع معقولة ومبرّرة. في بلدان التحوّل نحو الديمقراطية مثل بلدنا تونس حيث أنّ مؤسسات الدولة من إدارة وقضاء وأمن وجيش هي في طور إعادة بناء حتى تستجيب لمقتضيات الدستور الجديد، يشكّل العنف سواء في شكل أعمال إرهابية مدمرة أو تفشي الجريمة أو عنف الحركات الاحتجاجية العشوائية أو عنف أجهزة الدولة ذاتها في التعامل مع المواطنين، تحديًا ينبغي للدولة رفعه دون الارتداد إلى الممارسات القمعية الماضية؛ حتى لا تتعطل عملية بناء الثقة بين المواطن ومؤسسات دولة.


المجتمع المدني وصنع القرار

فالح عبد الجبار

أمّا المحاضرة الافتتاحية الثانية فقد تناول فيها الدكتور والباحث العراقي فالح عبد الجبار وهو مختص في علم الاجتماع السياسي، نشأة الدولة الحديثة وظاهرة العنف فيها وما يتطلبه توازن المجتمع لتفادي هذه الآفة. ورأى أنّ العنف أمر متصل بطبع الإنسان، وهو وسيلة وجدت في كل المجتمعات والدول وتجسدت في الحروب والنزاعات الطائفية وحتى في عمليات الانتحار، وأنّ الناس يتقاتلون من أجل الحرية ومن أجل الأوطان. وقال إنّ ربط العنف بالدين من الأخطاء الكبرى التي يرتكبها البعض على الرغم من أنّ كل الأديان تجيز العنف وتبرره. وهناك أنواع من العنف؛ هي: فرد ضد فرد، وفرد ضد جماعة، وجماعة ضد فرد، ودولة ضد فرد، ودولة ضد جماعة. وما يهمنا هو عنف الدولة ضد الجماعة. وتقوم الدولة الحديثة على فكرة المواطن كمفهوم حديث وتقتضي جملة من الأبعاد أهمها البعد الدستوري؛ إذ لا بد من دستور يضمن مبدأ المساواة بين كلّ الأفراد، وكذلك البعد الاقتصادي انطلاقًا من هيمنة الدولة على الثروة وضرورة انتفاع كلّ مكوّنات المجتمع بهذه الثروة.

وقال المحاضر العراقي الدكتور فالح عبد الجبار إنّ الدولة الحديثة تبني علاقتها بالمجتمع على ثنائية الإكراه والرضا؛ فكلّما قلّ الإكراه زاد الرضا والعكس صحيح. وقد عرفت البلاد العربية عدة أنماط من الحكم منها الديمقراطي الذي لم ينجح في الدول العربية، والنمط التسلطي الذي يعتمد على الحكم بالعسكر.

وما يلاحظ أنّ حركة الاحتجاج في البلاد العربية لم تنجح؛ ومثال ذلك ما حصل في سورية وليبيا. ونجحت جزئيًا في بلدان حصل فيها إصلاح؛ مثل تونس واليمن. غير أنّ في تونس حركة مدنية والتمايز الإثني والديني والطائفي ضعيف جدًا، مع وجود ترابط وتماسك اجتماعيَين يمنعان الصدام. بينما يختلف الوضع في اليمن بسبب حالة الانقسام والطابع القبلي العشائري للمجتمع اليمني.

وأكّد المحاضر أنّ هيمنة الدولة على الثروة والاقتصاد عمومًا تؤدي إلى الهيمنة على الطبقة المنتجة ورجال الأعمال، والتحكّم في هؤلاء يؤدي إلى احتكار الاقتصاد ويزيد من سطوة الدولة، ويجعل فئة فقط تتمتع بالثروة. وهو ما يؤدي لاحقًا إلى التمرد والعنف.

أمّا عن الحلول التي تسمح بالقضاء على ظاهرة العنف، فتتمثل بحسب رأي الدكتور فالح عبد الجبار في ضرورة إقرار المشاركة السياسية من خلال السماح للمواطنين بالانتخاب وممارسة النشاط السياسي وإبداء الرأي وحرية تكوين الأحزاب والمشاركة في صنع القرار أيضًا، والمشاركة في الأجهزة الإدارية لضمان حسن توزيع الموارد وضمان الاستقرار، كما أنّ المشاركة الثقافية أمر مهمّ. وفي غياب هذه الأنواع من المشاركة واحتكار الدولة الموارد، تدمَّر البلدان.

وشفعت المحاضرتان بحصة نقاش عام جرى خلالها تأكيد أهمية محور هذ المؤتمر العلمي، بخاصة وهو يتزامن مع سياق عربي تتخلله أشكال شتى من العنف الممنهج واللاإرادي أفرزتها التغيرات العديدة التي تشهدها المجتمعات العربية المعاصرة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وفي هذا الإطار، أشار بعض الحضور إلى أهمية تعميق تحليل هذه المتغيرات ومظاهرها المستجدة التي يمارسها الفرد والمجتمع والدولة، أسبابها وتداعياتها وضرورة استخلاص كل الدروس والعبر المتاحة بهدف مزيد فهم هذه الظاهرة، ومن ثمة تحديد الحلول والمقاربات الملائمة لتحصين هذا الفرد وهذا المجتمع وهذه الدولة ضد كل مظاهر العنف بمختلف أبعاده دون الاعتماد المفرط في ذلك على التجارب الغربية المسقطة.

وقد تلت الجلسة الافتتاحية للمؤتمر أربع جلسات انقسمت كل واحدة منها إلى مسارين يجريان في الوقت نفسه في قاعتين. وقدّم خلال الجلسات الأربع ما يقارب الـ 30 ورقة بحثية في مواضيع "العنف السياسي في السياقات العربية المعاصرة"، و"جماعات العنف"، و"العنف السياسي في السياقات العربية المعاصرة: في بعض حالات السودان"، و"العنف والهوية"، و"بعض مظاهر عنف الدولة: التعذيب ومساءلة مرتكبي الجرائم".

ويستمر المؤتمر ليومين. ويشمل برنامجه جلسات تقدَّم فيها أوراق بحثية لباحثين مختصين. ويختتم بجلسة نقاشية يساهم فيها الباحثون المشاركون من مختلف الدول العربية، ومن خارجها.