اختُتمت يوم الجمعة 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، في باريس، أعمال مؤتمر "فلسطين وأوروبا: ثقل الماضي والديناميات المعاصرة" الذي نظّمه المركز العربي في باريس CAREP Paris، خلال يومي 13-14 تشرين الثاني/ نوفمبر، وخُصِّصا لبحث تاريخ العلاقة بين أوروبا وفلسطين وأثر الإرث الاستعماري الأوروبي في صياغة المواقف والسياسات الراهنة تجاه القضية الفلسطينية.
وكانت أعمال المؤتمر في اليوم الأول قد توزّعت على أربع جلسات تناولت نشأة الصهيونية في سياق التوسع الاستعماري الأوروبي في القرن التاسع عشر، وتحليل فترة الانتداب البريطاني على فلسطين؛ بوصفها لحظة تأسيسية لتكوّن الحركة الوطنية الفلسطينية وتداخل المشروع الإمبراطوري مع المشروع الصهيوني، إضافة إلى نقد مسار المؤسسات الأوروبية، من الجماعة الأوروبية إلى الاتحاد الأوروبي، بين خطاب الدفاع عن حقوق الإنسان والقانون الدولي من جهة، والعجز العملي عن حماية الحقوق الفلسطينية من جهة أخرى. ثمّ اختُتمت بأوراق بحثية ناقشت إمكان تنسيق السياسات الخارجية الأوروبية تجاه القضية الفلسطينية في سياق الانقسامات بين الدول الأوروبية.وتوزعت أعمال المؤتمر في اليوم الثاني على أربع جلسات ركّزت على أثر الماضي الاستعماري الأوروبي والأثقال التاريخية والرمزية في تشكيل المواقف المعاصرة من فلسطين، وصعود التعبئة الشعبية المتضامنة مع الفلسطينيين داخل المجتمعات الأوروبية. ثم جرت مناقشة تشابك المصالح الاقتصادية وشبكات النفوذ السياسي والأمني بين أوروبا وإسرائيل، خاصة في مجالات التجارة والسلاح والتكنولوجيا. واختُتمت أعمال المؤتمر بنقاش عام متعلق بمستقبل العلاقة بين أوروبا والقضية الفلسطينية، شارك فيه كلّ من جوزيب بوريل، الممثل السامي السابق للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، وفرانسيسكا ألبانيزي المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، ودومينيك دو فيلبان الدبلوماسي السياسي الفرنسي، وقد جرى نقاش حول مساءلة أثر الحرب على غزّة والقضية الفلسطينية في السياسة الأوروبية، الرسمية والشعبية، وفي صورة أوروبا عن نفسها.استهلّ بوريل النقاش بتأكيد أنه لم يُلمس في مداخلات المؤتمر أي تعبير معادٍ للسامية، معتبرًا أن منع انعقاده في كوليج دو فرانس كان "خطأً" سياسيًّا. ثم انتقد موقف الاتحاد الأوروبي من حرب غزّة، موضحًا أن ما سمّاه "الصراع" الإسرائيلي – الفلسطيني كشف عُمق الانقسام بين الدول الأوروبية؛ بين دولٍ طالبت بتفعيل بنود اتفاقية الشراكة مع إسرائيل بسبب انتهاك حقوق الإنسان وأخرى تمسكت بخطاب "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" ورفضت أي إجراءات عملية، وبيّن كيف أنّ مبادراته - بصفته مسؤولًا أوروبيًا - بشأن تعليق الحوار السياسي مع إسرائيل أو تجميد بعض برامج التعاون، ظلت بلا استجابة من جانب المجلس الأوروبي، ومن المفوضية الأوروبية؛ وذلك في وقت أُنشئ فيه مسارٌ قضائي خاص بجرائم الحرب في أوكرانيا ولم يُتَّخذ ما يماثله من المسارات في حالة غزّة. وأشار إلى أن الرأي العام الأوروبي، ولا سيما في ألمانيا، يتحرك بوضوح أكثر من الحكومات، إذ تُظهر استطلاعات حديثة أن غالبية الألمان ترى أن حكومتهم تُبالغ في دعم إسرائيل وتتجاهل حجم الدمار في غزّة، في حين تستمر المؤسسات الأوروبية في التصرّف كما لو أنه "لا سبب قانونيًا أو سياسيًا" لتعليق اتفاقية الشراكة مع إسرائيل.وقدّمت ألبانيزي قراءة قانونية للموقف الأوروبي، انطلقت فيها من المادة الثانية في اتفاقية الشراكة مع إسرائيل، التي تشترط احترام حقوق الإنسان؛ ومن ثمّ ذكرت أن توقيع هذه الاتفاقية أصلًا مع دولة تمارس الاحتلال العسكري، وتبني المستوطنات منذ عام 1967، كانَا "عارًا أوروبيًّا" منذ أوّل يوم لهذين الحدثين. ورأت أن ما يجري في غزّة ليس "حربًا"، بل هو إبادة جماعية مخطَّطة ومُنَفَّذة، وأن المشكلة لا تقتصر على صمت أوروبا، بل إنها تشمل أيضًا استفادتها من هذا الواقع واستمرارها في تقديم الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري لدولة تَعتبرها تقارير الأمم المتحدة مرتكبة لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وانتقدت حتى الدول التي تُصنَّف في خانة المتقدمة، مثل إسبانيا وإيرلندا؛ إذ لم يصل الأمر – بحسب رأيها – إلى الحد الأدنى من التزاماتها القانونية المتعلقة بعدم مساعدة دولة ترتكب انتهاكات جسيمة للقانون الدولي، وشدّدت على أنّ عقودًا من الإفلات من العقاب هي التي صنعت "غرور" إسرائيل الحالي، مؤكِّدة أن أوروبا السياسية تكشف اليوم جوهرها: أوروبا تجارية المنطق، تحتفظ في عمقها بإرث استعماري وعنصري لم تَجْرِ المحاسبة عليه بعدُ. وفي مقابل ذلك، رأت أن الأمل يأتي من جيل جديد، من الشباب والعمال وحركات المقاطعة BDS، الذي يرفض هذا التواطؤ، ومن إمكانية بناء تعددية دولية جديدة مع دول الجنوب، محذِّرة من أن الاكتفاء بالخطاب والاعترافات اللفظية بدولة فلسطين - من دون إجراءات ملموسة – سيؤدي، في نهاية الأمر، إلى اختفاء فلسطين ومعها جزء من الحقوق والحريات الأساسية في أوروبا نفسها.أمّا دو فيلبان، فربط بين القضية الفلسطينية وتحولات أوروبا الداخلية والخارجية، معتبرًا أن فلسطين ليست قضية "بعيدة" عن أوروبا، بل هي مسألة ترتبط مباشرة بجغرافيتها وأمنها وتوازناتها السياسية، على غرار ما أظهرته أزمات العراق وسورية وأزمة اللجوء في عام 2015، وقال إن هذه الجغرافيا القريبة جعلت عجز أوروبا الدبلوماسي أكثر فداحة؛ إذ تحوّلت السياسات الأوروبية، بحسب رأيه، إلى "دبلوماسية بيانات وتعاطف لفظي"، وتركت المبادرة للولايات المتحدة الأميركية. ودعا إلى استعادة استقلالية الدبلوماسية الأوروبية عن واشنطن، واستخدام أدوات من قبيل السوق الأوروبية واتفاقات الشراكة للضغط من أجل استقرار جوار أوروبا، حتى لو كان ذلك من خلال صيغ مرنة من "تحالفات الدول الراغبة" بدلًا من انتظار موقف أوروبي موحَّد لا يأتي. وبيّن دو فيلبان أهميّة "بُعد الذاكرة"، مؤكدًا أن فلسطين صارت "مرآة" لذاكرات أوروبية متراكبة: المسألة الشرقية، والإرث الاستعماري، والصدمة النازية والهولوكوست. وحذّر من "حرب الذاكرات" التي تجعل كل ذاكرة تُستخدم سلاحًا ضد أخرى؛ فحين يجري ذكر الهولوكوست من أجل تجريم أيّ نقدٍ لإسرائيل، أو تُستغل معاناة غزّة لتغذية خطاب معادٍ للسامية، فإنّ الذاكرة تتحوّل إلى أداة سياسية تدمّر أُسس التعايش القيمي في أوروبا. وفيما يخص توصيف ما يجري في غزّة، رأى أنه يوجد "فخَّان" يجب تجنّبهما؛ أحدهما مساواة ما يحدث في غزّة بما جرى في أوروبا قبل ثمانين عامًا على نحو يمحو فرادة المحرقة، والآخر رفض أي بحث في صفة الإبادة الجماعية على نحو يلغي جوهر الالتزام الأخلاقي الذي قامت عليه اتفاقية 1948. واعتبر أن ترك المسألة كليًّا للقضاء الدولي، في سياق تعطيله من خلال الضغوط المختلفة، يعني التهرّب من "واجب الوقاية"، ودعا إلى "تسمية الأشياء" بأسمائها؛ استنادًا إلى ما تراه العيون وتعرفه الضمائر، وقال إنه ينبغي تمكين الصحافيين والخبراء والقضاة من الوصول إلى غزّة؛ لأنّ قبول التعتيم نوعٌ من أنواع التواطؤ.