بدون عنوان

تتواصل أعمال مؤتمر "البحثُ في أزمنةٍ حالكة: الإبادة وجرائم الحرب والعنف السياسي"، الذي تنظمه دورية عمران للعلوم الاجتماعية (الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومعهد الدوحة للدراسات العليا)، بالتعاون مع كرسي اليونسكو لدراسات منع الإبادة الجماعية في العالم الإسلامي في جامعة بغداد، خلال الفترة 4-6 شباط/ فبراير 2025. وقد شهد اليوم الثاني من المؤتمر، الأربعاء 5 شباط/ فبراير 2025، محاضرة عامة وجلستين، اشتملت كلتاهما على مسارين متوازيين، قُدمت فيهما أوراق عديدة عن تجارب العنف السياسي وجرائم الحرب والإبادة في كل من غزة ولبنان وسورية والعراق، إضافة إلى طاولة مستديرة شارك فيها مجموعة من الأكاديميين.

إنكار الإبادة: من نبذ المنكرين إلى معاقبة الشهود

شهد اليوم الثاني من المؤتمر، محاضرة عامة، أدارها مراد دياني، وقدمها عن بُعد عبد الوهاب الأفندي، رئيس معهد الدوحة للدراسات العليا، بعنوان "إنكار الإبادة: من نبذ المنكرين إلى معاقبة الشهود"، تناول فيها آليات "تقديس المحرقة" اليهودية من جهة، في مقابل تصغير المحارق الأخرى أو جعلها مجرد هامش على "أم جرائم الإبادة"، مشيرًا إلى الاهتمام المفرط لمراكز دراسات الإبادة بالمحرقة بحيث أصبحت تسمى "مراكز دراسات المحرقة والإبادة"؛ ما يوحي بفرادة المحرقة اليهودية واختلافها عن الإبادة. وحاول في محاضرته استقراء تحولات القيم والمفاهيم والمواقف الدولية من الإبادة، منطلقًا في ذلك من جرائم الإبادة الأخيرة في غزة وفلسطين.

ركّز الباحث في محاضرته على قضيتين رئيستين: الأولى، انتكاسة المكانة المحورية التي كانت تحتلها قيم إدانة الإبادة واستهجانها باعتبارها "جريمة الجرائم"، معللّا ذلك بكونه نتج من جراء التناقضات في استدعاء المحرقة التي بلغت حدّ استخدامها ستارًا تُرتكب تحته الإبادة في مأمن من العقوبة وحتى النقد، ومن جراء الموقف الدولي من الحرب في غزة، الذي أثر في قيمة أولوية التصدي للإبادة بحماية الضحايا استباقيًا، ثم معاقبة مرتكبيها إن لم ينجح المنع. الثانية، إن مفهوم الإبادة نفسه باعتباره أبشع الجرائم مهدد، وكذلك تجريم الإنكار وغيره، ويربط الباحث ذلك بتحول مواقف الدول التي قادت جهود منع الإبادة؛ فإذا بتلك الدول التي قادت المجتمع الدولي في السابق في التصدي للإبادة وغيرها من الفظائع لا تكتفي بالنكوص عن ذلك الدور القيادي في حالة إبادة غزة، بل تدعم إسرائيل بالتسليح والتمويل والدعاية المهوِّنة من الجريمة، والمبررة لها.

ختم الباحث محاضرته بتساؤلات إنكارية عن إمكانية أن يتحدث بعد اليوم من ينكر الإبادة البشعة، القائمة أمام الأعين وعبر الشاشات، عن جرائم مشابهة، قديمة أو حديثة، غائبة أم حاضرة، فضلًا عن أن تقديس المحرقة أصبح في خطر، وذلك عبر تدمير بنيامين نتنياهو رمزية المحرقة بارتكابه جريمة الإبادة المتلفزة وتوريط جل الدول "الديمقراطية" فيها.

أعقب المحاضرة نقاش تناول جوانب منها، مثل معيار تحديد الإبادة بحسب وجهة النظر الأميركية والأوروبية، والوعي العالمي تجاه قضايا الإبادة. وتواصلت أعمال المؤتمر خلال اليوم الثاني الذي شمل، جلستين قدم فيهما باحثون أوراقهم البحثية.

غزة: النسخة الأخيرة من الإبادة

انعقدت الجلسة الثالثة من المؤتمر في مسارين فرعيين متوازيين. ترأّس ليث مجيد حسين المسار الأول "غزة: الإبادة في نسختها الأخيرة"، وشارك فيه باحثان. جادل مجد أبو عامر في ورقته "حروب يومية وأخرى موسمية: أيّ منطق للعنف الإسرائيلي في غزة؟"، بأن الحرب، بما هي حالة استثناء دائمة، وبما هي ممارسة كثيفة لأشكال العنف كافة، تبلورت بوصفها المنطق الجامع للسياسات الإسرائيلية الاستعمارية تجاه قطاع غزة. وعبر استعراض الباحث حصيلة الحروب الإسرائيلية المتكررة على غزة، أوضح أن إصرار الاستراتيجية الصهيونية على الحرب على القطاع، على الرغم من فشلها، يطرح سؤالًا عن موقع العنف هدفًا في ذاته ضمن هذه الاستراتيجية. وفي السياق ذاته، قدم ياسر درويش جزائرلي ورقة بعنوان "الإعلام الأميركي والإبادة في غزة: بين التهميش والإنكار"، ركّزت على تغطية الإعلام الأميركي للإبادة في الحرب الإسرائيلية على غزة (2023-2025)، مبيّنًا انتقال هذه التغطية من إنكار حدوث إبادة إلى تفادي الكلام عنها. ليعرج بعد ذلك على تطورَين مهمَّين أجبرا الإعلام الأميركي على التعامل مع الإبادة، هما القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا، وإصدار المحكمة الجنائية الدولية أمرًا بإلقاء القبض على رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت.

لبنان والعراق وإرث العنف

في الجلسة ذات، ترأست لورا الصياح المسار الثاني "إرث العنف في لبنان والعراق"، وشارك فيه باحثان. حلّلت إلهام مكي حمّادي، في ورقتها "البنية التحتية للعنف في العراق: التداعيات على مسار بناء الدولة والتماسك"، العلاقة بين المجتمع العراقي وأدوات العنف في مرحلة ما بعد الغزو الأميركي للعراق، بالتركيز على معرفة الطرائق المعقدة التي يُنتج من خلالها العنف ويُطبع ويُستدام فيما يسمى البنية التحتية للعنف التي تسهّل ارتكابه في العراق، بما يشمل ذلك انتشار الأسلحة والبنية التحتية لسجون الاعتقال والمنشآت العسكرية والبنى الاقتصادية المموّلة للقطاعَين العسكري والأمني. وقدمت لميا مغنية ورقة بعنوان "العنف الإسرائيلي في لبنان: المشهدية النفسية للحرب والإبادة"، استكشفت فيها المشهديات النفسية المفككة إثر العنف الإسرائيلي في لبنان، استنادًا إلى بحث إثنوغرافي وأرشيفي حول الطب النفسي الإنساني والحروب الإسرائيلية في لبنان منذ عام 1982. وجادلت بضرورة الابتعاد عن ثنائية الصدمة/ المرونة، نحو التركيز على طرائق الترميم والالتئام النفسي في ظل الإبادة، باعتبارها معرفة مجتمعية تعين على إعادة التصور والتفكير في معنى أن تكون إنسانًا اليوم.

فهم سنوات العنف في سورية

عُقدت الجلسة الرابعة من المؤتمر، أيضًا في مسارين فرعيَين متوازيَين. ترأس محمود عبد الواحد القيسي المسار الأول بعنوان "سورية: فهم سنوات العنف"، وقُدمت فيه ورقتان. ركّز هاني عوّاد ونيروز ساتيك في ورقتهما "الإبادة والسجن ومسألة الشرعيّة في سورية: دراسة في ضوء الخبرة المقارنة"، على أنماط ممارسات الإبادة التي نفّذها نظام بشار الأسد في حق المواطنين السوريين، منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011. وبيّنا أن ضعف شرعية نظام الأسد، وافتقاره إلى أيديولوجيا تبرر العنف، خلقا وضعًا فريدًا، مثّلت فيه السجون فضاءاتٍ لإنتاج سردية المؤامرة الرسمية وتعزيزها عبر مراكمة اعترافات المعتقلين قبل التخلص منهم. وحاول يسار منيف في ورقته "جغرافيا العنف في حلب منذ عام 2011"، تشريح العنف في المدينة بالتركيز على الإدارة المكانية والجغرافيا الاجتماعية ومسارات الفاعلين المختلفين زمانيًا ومكانيًا ضمن جغرافيا المدينة. وجادل الباحث، عبر توظيف مفهوم "قتل المدينة" وإدارة المدينة من خلال العنف المكاني، بأن العنف كان منظمًا ومحسوبًا بدقة؛ إذ تلاقى العنف السلطوي للنظام السوري مع العنف الإمبريالي الروسي والعنف شبه الإمبريالي الإيراني، لهزيمة المعارضة السورية.

الإبادة والعنف السياسي في العراق

في الجلسة ذاتها، ترأست ندى العابدي مسار "الإبادة والعنف السياسي في العراق: دولةً ومجتمعًا"، وقدم فيه باحثان ورقتيهما. بحث آلان ممتاز نوري، في ورقته "متواطئون مع الدولة في إبادة أبناء جلدتهم: ’فرسان‘ علي الكيمياوي نموذجًا"، الخلفية الاجتماعية والخصائص العابرة للمحلية في ظاهرة فِرَق الموت "الأهلية" المشارِكة في حملات الإبادة في إقليم كردستان العراق. وحاجّ الباحث بأن الشروط الاجتماعية السياسية التي أنتجت نمطًا معينًا من ثنائية المجتمع - الدولة، والتي أنتجت بدورها ميليشيات الفرسان وثبّتت دورها في الإبادة بقيادة حكومية، لا تزال تسود عراق ما بعد الغزو الأميركي، ولا يردعها سوى توازن رعب هش بين مكوّنات "الدولة" العراقية الحالية. وقدّم علي طاهر الحمود ورقة بعنوان "أنثرو-سوسيولوجيا الهوية السياسية للجماعات المسلحة في العراق"، ركّزت على التحوّلات الجوهرية في الاستراتيجيات والأدوار لدى الجماعات المسلحة الشيعية العراقية بعد عام 2003. وفيها، سعى الباحث لاستكشاف تحوّلات الهوية السياسية للجماعات المسلحة في العراق، التي انعكست على أدوارها سياسيًا، ودور العنف في هذه التحوّلات، مع تحليل السيناريوهات المستقبلية لهذه الجماعات.

إضافة إلى الجلستين الثالثة والرابعة، عُقدت في اليوم الثاني من المؤتمر طاولة مستديرة بعنوان "الأكاديميا في زمن الإبادة والعنف الشامل"، ترأسها هاني عوّاد مدير تحرير دورية "عُمران"، وشارك فيها آلان ممتاز نوري، وحيدر سعيد، وسامي هرمز، وصلاح الجابري، ولميا مغنية، ومنير السعيداني، وسعد سلّوم. ركّزت الطاولة المستديرة على موضوعَين رئيسَين: الأول، الموقف النقدي من اتفاقية منع الإبادة الجماعية ومدى أهمية إعادة النظر في تعريف الإبادة، في مقابل التفكير في الانتقائية في تطبيق النظام القضائي الدولي؛ والثاني، أهمية أن يكون للباحثين العرب مساهمتهم في دراسات الإبادة. وتطرّقت نقاشات الجلسة إلى قضايا عديدة مثل غياب دراسات الإبادة المرتبطة بسلوك الدول العربية، وانخراط من هم ليسوا ضمن الجهاز الرسمي للدولة في تعرف الإبادة، ودور الأكاديمي والمثقف في أزمنة الإبادة والعنف الشامل، وأهمية استثمار حضور العالم العربي في واجهة النقاش العالمي حاليًا للدخول في النقاش حول مفهوم الإبادة ومعاييرها، وتجذير مفاهيم الإبادة في إرث العالم العربي القديم والراهن.