انطلقت يوم الثلاثاء، 4 شباط/ فبراير 2025، أعمال مؤتمر "البحثُ في أزمنةٍ حالكة: الإبادة وجرائم الحرب والعنف السياسي"، الذي تنظمه دورية عمران للعلوم الاجتماعية (الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومعهد الدوحة للدراسات العليا)، بالتعاون مع كرسي اليونسكو لدراسات منع الإبادة الجماعية في العالم الإسلامي في جامعة بغداد، خلال الفترة 4-6 شباط/ فبراير 2025، بمشاركة 40 باحثةً وباحثًا من جامعات عراقية وعربية وأجنبية.
افتتاح المؤتمر
في الكلمة الترحيبية، رحّب بهاء إبراهيم إنصاف، رئيس جامعة بغداد، بالضيوف والمشاركين في المؤتمر الذي يأتي بصفته أولى ثمرات التعاون بين جامعة بغداد ممثّلة بكرسي اليونسكو لدراسات منع الإبادة الجماعية في العالم الإسلامي، والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ممثّلًا بدورية عُمران للعلوم الاجتماعية. ثمّ استعرض اتجاهات الجامعة في تأسيس العديد من المراكز البحثية، لا سيّما المتخصصة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، ومن ضمنها كرسي اليونسكو، داعيًا الباحثين إلى التعاون مع الكرسي، وشاكرًا المركز العربي لاختيار جامعة بغداد في العراق جهةً للتعاون البحثي الذي يؤمّل أن يستمر بعد هذا المؤتمر.
ورحّب علي عبد الأمير الكعبي، عميد كلية الآداب في جامعة بغداد، بضيوف المؤتمر، معرّفًا بجهود الكلية والأسماء التي رفدت بها حقل العلوم الاجتماعية منذ تأسيسها بما يزيد على خمسة وسبعين عامًا. واستعرض أهمية المؤتمر في التصدي بحثيًا للعديد من جرائم العنف السياسي التي حدثت في المنطقة العربية، ليختم شاكرًا الفريق المشترك من المركز العربي وكرسي اليونسكو في جامعة بغداد.
قدّم بعد ذلك صلاح الجابري، أستاذ الفلسفة ورئيس كرسي اليونسكو لدراسات منع الإبادة الجماعية في العالم الإسلامي في كلية الآداب بجامعة بغداد، كلمة بعنوان "استراتيجية كرسي اليونسكو لدراسات منع الإبادة الجماعية في جامعة بغداد"، وعرّف فيها بالكرسي بوصفه منصة أكاديمية لتعليم منع الإبادة وتأسيس القواعد العلمية، النفسية والاجتماعية والثقافية، لهذا المنع. وطرح الباحث رؤية الكرسي واستراتيجيته التي تقوم على أهداف قصيرة الأمد تتمثل في تحقيق تغيرات سريعة، وأخرى بعيدة الأمد تستدعي نظامًا تعليميًا يؤسس لمجتمع مستقبلي سليم يقاوم العنف بأشكاله المختلفة، اللغوية والسلوكية والحربية.
في السياق نفسه، عرّف حيدر سعيد، رئيس وحدة دراسات الخليج والجزيرة العربية في المركز العربي، في كلمته الافتتاحية، بالمركز العربي، وترافُق ولادته مع الظروف الحساسة التي مرت بها المنطقة العربية من الثورات وسقوط الأنظمة العربية العتيقة. وأكد بعد ذلك أهمية المركز في تقديم رؤى تنير طرائق البحث في القضايا الاجتماعية في العالم العربي، مشيرًا إلى أن المركز يحاول أن يبني عبر هذا المؤتمر على ما راكمته جامعة بغداد في الإسهام العلمي في بناء العراق المعافى.
وتحدث منير السعيداني، رئيس تحرير دورية عُمران للعلوم الاجتماعية، معرّفًا بالدورية ومستعرضًا جهودها في التواصل مع بلدان العالم العربي كافة، حيث حرصت الدورية على عقد مؤتمرها في العراق ضمن هذه الجهود، ليدعو بعد ذلك الباحثين في العلوم الاجتماعية من العراق إلى أهمية المساهمة بأبحاثهم في الدورية. وأكّد راهنية موضوع المؤتمر، بما يمثله من عمق مؤلم في العالم العربي، وما يمثله أيضًا من استجابة لحاجة علمية واجتماعية. ورأى أنّ هذا الأمر مهم الآن، لأن المنطقة العربية في منعرج تاريخي تفرضه قضايا الإبادة الذي وإن أثارته الإبادة الجماعية في غزة، فإنه قديم ومتوزع في أرجاء المنطقة كافة.
المحاضرة الافتتاحية
ترأّس السعيداني المحاضرة الافتتاحية للمؤتمر، التي ألقاها أستاذ علم الاجتماع في جامعة بيتسبرغ محمد بامية بعنوان "المعرفة في نهاية الزمن الحالك"، وقد حاول فيها الباحث تحديد الخصائص الأساسية لما يمكن أن يسمى "العصر الحالك"، مقترحًا تحقيبه في العالم العربي بالفترة 1974–2011، وفي أوروبا بالفترة 1815– 1848. وحاجّ بأن الأمور التي تبدو قاتمة في المنطقة العربية، شأنها شأن كل العصور المظلمة، يسودها عادة استقرار القمع، في حين تتميز نهايتها بالديناميكية (وليس بالضرورة بإقامة نظام أفضل). وبنى تصوّره على ملاحظات مستمدة من موجتين من الانتفاضات العربية (2011 و2019)، والتغيير الأخير للنظام في سورية، وبعض أوجه النضال الفلسطيني.
وقد تطرق الباحث في محاضرته إلى أربع قضايا اعتبرها مظاهر الصورة الديناميكية الحالية من "العصور المظلمة" في المنطقة العربية: أولًا، التشكيلات الجديدة في المجتمع المدني، حيث تعكس الإحصاءات المتاحة طفرة في درجة المشاركة في المجتمع المدني بعد عام 2011، فضلًا عن المشاركة المجتمعية؛ ثانيًا، طبيعة التعلّم الثوري في المنطقة العربية منذ عام 2011، ودخول الثورات إلى المجتمع بصفتها نوعًا من العلم وليس فقط حركات سياسية، معرّجًا في هذا الصدد على الطبيعة المفاجئة وغير المركزية للثورات، عارضًا مجموعة من الأمثلة في ذلك من الانتفاضة الأولى في النضال الفلسطيني، إلى ثورات الربيع العربي؛ ثالثًا، بروز مكوّنات جديدة للذاكرة التاريخية، في شكلها الشعبي حكمًا عامًا يأتي بمعرفة جديدة تصاحب الثورة، ومعرفةً تفصيلية تهتم بالتفاصيل، عارضًا أمثلة من أحداث متأخرة جرت في العالم العربي أثناء الأزمات والفوضى كنهب متحف بغداد في 2003، الذي أفاد بصفته ذاكرة في الحالة المصرية أثناء ثورة 2011، ومثال أحداث ميدان بورسعيد التي أفادت بصفتها ذاكرة تاريخية في الجزائر؛ رابعًا، الاهتمام المتزايد بمفهوم "الأمل" بوصفه نتاجًا لممارسة عفوية نابعة من الأسفل، وليس تطبيقًا لمنهج أيديولوجي فوقي تقوده السلطة السياسية.
ختم الباحث محاضرته باستخلاص بعض الدروس التي يمكن تعلّمها من تجربة مئة عام من الثورات في المنطقة، مركّزًا على الاختلاف الجذري بين منطق الحركات الاجتماعية الذي يهتم بالعمل داخل المجتمع المحيط بالحركة من جهة، ومنطق السياسة العليا High Politics الهادف إلى تغيير السلطة من جهة أخرى.
أعقب المحاضرة مناقشات تناولت عدة جوانب منها. وتواصلت أعمال المؤتمر خلال اليوم الأول الذي شمل، إلى جانب المحاضرة الافتتاحية، جلستين قدم فيهما باحثون مختلفون أوراقهم البحثية.
الإبادة في الحقل الأكاديمي: دراسةً وتدريسًا
ترأس حيدر سعيد الجلسة الأولى بعنوان "الإبادة في الحقل الأكاديمي: دراسةً وتدريسًا"، وقدم فيها ثلاثة باحثين أوراقهم. حلّل حسن ناظم، في ورقته "حقل دراسات الإبادة في الأكاديميا العربية"، افتقار الأكاديميا العربية، مقارنةً بالأكاديميا الغربية، إلى دراسات الإبادة. وحاجّ بأن أولى أولويات حقل دراسات الإبادة في الأكاديميا العربية، في حال نشوئه، ينبغي أن تكون الرجوع إلى التاريخ الثقافي القديم والحديث للمنطقة.
بينما سلّط خالد حنتوش ساجت، في ورقته "العنف والإبادة تحت مجهر علم الاجتماع: دراسة تحليلية للإنتاج البحثي في جامعة بغداد"، الضوء على الإنتاج البحثي في قسم علم الاجتماع في جامعة بغداد في الفترة 1974-2024، مبيّنًا أن الفترة الممتدة من ثمانينيات القرن العشرين إلى بدايات القرن الحادي والعشرين شهدت طفرة في الاهتمام بدراسات الإبادة.
في السياق ذاته، ركّز سعد سلوم، في ورقته "لماذا ينبغي تدريس الإبادة في الجامعات العراقية؟"، على جهود تأسيس حقل دراسات الإبادة في العراق، من خلال عمل المجتمع المدني بالشراكة مع كرسي اليونسكو لمنع الإبادة في جامعة بغداد، والآفاق التي يتطلع إليها هذا المسعى.
الحياة اليومية والمقاومة في سياق الفظائع
انعقدت الجلسة الثانية بعنوان "الحياة اليومية والمقاومة في سياق الفظائع"، ترأستها فريدة جاسم داره، وقدم فيها ثلاثة باحثين أوراقهم. سلّطت ليلى الطيب، في ورقتها "الحياة اليومية والسياسة البديلة في ليبيا ما بعد الثورة"، الضوء على المساحات البديلة التي شكّلها الليبيون عبر أدائهم اليومي، انطلاقًا من تحليل أداء المغني الليبي فؤاد القريتلي، في أغنيته الساخرة "ندوِّش بالمالقي" (أستحمّ بإبريق)، لتبيّن كيفية تشكيل الفنون الشعبية مساحاتٍ للتفاعل بين الليبيين، ونوعية السياسة البديلة التي يمكن أن تنتجها هذه التفاعلات.
وتناول عمر جبري سلمنكا، في ورقته "العودة من باطن الأرض: الجغرافيات الخفية المتنافسة في غزة"، باطن الأرض، بوصفه ساحة للمقاومة والتصدي للظلم في زمن الإبادة، انطلاقًا من افتراض أن العوالم تحت الأرضية الفلسطينية تمثل مقاومة مناهِضة للاستعمار وتشكّل جغرافيا منافِسة؛ تعبث بالنظام الاستعماري للأشياء وتزعزع العالم الإمبريالي فوق سطح الأرض. وبيّن الباحث أهمية النظر إلى ما تحت الأرض لإعادة تصوّر التحرر الوطني من الأسفل إلى الأعلى، رابطًا بين العلاقات المكانية بين سطح الأرض وما هو تحته.
واستكشف مصطفى أفندي، في ورقته "اليوميّ المعسكَر: الحياة اليومية في الخرطوم خلال حرب 15 نيسان/ أبريل 2023"، بعض الديناميكيات الصغرى المعتملة في السياق السوداني، إثر الحرب المندلعة في السودان في 15 نيسان/ أبريل 2023، استنادًا إلى ملاحظات إثنوغرافية من منطقتي الديوم الشرقية، وسط الخرطوم، ومنطقة شمبات، شمالي الخرطوم العاصمة، وبيّن أن صيرورة العسكرة تعيد تشكيل أنساق الوجود والممارسات اليومية في نطاق الحرب، وتفرض شكلًا خاصًّا للوجود والفعل الاجتماعيّين.
تتواصل أعمال المؤتمر، التي تتوزع على ثلاث محاضرات عامة وست جلسات في مسارين متوازيين وطاولة مستديرة، إلى يوم الخميس 6 شباط/ فبراير 2025، وتُبثّ أعمال المؤتمر عبر حسابات المركز العربي على شبكات التواصل الاجتماعي (فيسبوك، وإكس، ويوتيوب).
* لمزيد من المعلومات، يرجى الاطلاع على جدول الأعمال وكتيّب المؤتمر