بدون عنوان

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومعهد الدوحة للدراسات العليا العدد الثالث والأربعون من الدورية المحكّمة تبيُّن للدراسات الفلسفية والنظريات النقدية. وتضمّن العدد ملفًا خاصًا ثانيًا عن الفلسفة السياسية المعاصرة، تضمّن الدراسات التالية: "الليبرالية وحرية التعبير: قراءة في الخلفيات الفلسفية لجدل قانوني وسياسي" لمنير الكشو، أبرز فيها الخلفيات الفلسفية للحجاج الليبرالي لصالح حرية التعبير، وتمييزها من تلك الخاصة بالمقاربة الجمهورانية التي تؤكد علوية القيم والفضائل الجماعية والمدنية على الحقوق والحريات الفردية، وتقصر مدى حرية التعبير على ما تسمح به تلك القيم والفضائل. فقد تميزت المقاربة الليبرالية بطابعها الفرداني وبدفاعها عن حرية التعبير، باعتبارها حقًّا أساسيًا للفرد، لا يمكن الحدّ منه إلا بما يخدم حرية التعبير ذاتها، لا غايات خارجة عنها. وتعرض الباحث كذلك لأشكال الحجاج التي قدّمتها الليبرالية للدفاع عن حرية التعبير، وفقًا للنظريات الأخلاقية التي تبناها الفلاسفة الليبراليون، وتعمل على إبراز نقاط القوة والضعف في كل واحد منها. وفي جزئها الأخير، ناقش وجاهة المبدأ الذي استندت إليه الفلسفة الليبرالية لتسويغ تقييد حرية التعبير؛ وهو مبدأ الضرر الذي صاغه جون ستوارت مِل، والذي لا يجيز للمجتمع وللسلطة العامة منع شخص من التعبير عن رأيه، إلا في حالة توافر قرائن، تشير إلى أن ذلك يعرّض غيره لضرر مادي متأكد. إن الأحداث والوقائع التي عاشتها المجتمعات الديمقراطية أثبتت عدم كفاية مبدأ الضرر؛ ما جعل الفيلسوف جويل فاينبرغ يدعو إلى رفده بمبدأ آخر هو مبدأ الإساءة الذي ينص على ضرورة الحماية القانونية للأشخاص ضد الإساءة أيضًا، وليس ضد الضرر فحسب.

أما رجا بهلول فناقش، في دراسته "العقل العام والدين والهوية في سياق فلسفة رولز السياسية"، قضايا العقل العام والهوية والدين (أو العقيدة الشاملة) كما تتبدى في فلسفة جون رولز السياسية، وناقش كذلك الانتقادات التي واجهتها مواقف رولز من هذه القضايا عند بعض النقاد، وبالأخص الجماعاتيين وأتباع العقائد الشاملة. وتوقف الباحث أيضًا عند مفهوم المعقولية والمسوغات العامة، متسائلًا إنْ كانت هذه المفاهيم تحظى بأي مشروعية تسمو فوق العقائد، وتحديدًا إنْ كان عقل رولز العام لا يعدو كونه عقلًا ليبراليًا يرتدي لبوس العمومية من دون وجه حق. لينتهي به القول إلى اعتبار أن الجدل القائم بين رولز وأنصار الليبرالية السياسية من جهة، والجماعاتيين وأتباع العقائد الشاملة من جهة أخرى، ليس من النوع القابل للحسم عقلانيًا، ما دام مفهوم المعقولية نفسه موضعَ خلاف. وأكد الباحث أن التطورات التاريخية الطويلة المدى والعميقة الأثر في العلم والاقتصاد والاجتماع والتنظيم هي فقط التي في وسعها أن تُقرب وجهات النظر المتباينة، وذلك من خلال صياغة و/ أو إعادة بناء المفاهيم والمعتقدات والقيم والتوجهات الانفعالية والإدراكية نحو القضايا ذات الشأن.

وتعرض محمد الرحموني لـ "أنثولوجيا الإسلام الليبرالي"، من خلال النظر في الجدل الذي أثير منذ عصر النهضة العربية الحديثة حول علاقة الإسلام بالحداثة عمومًا، وبالليبرالية تحديدًا. فقد ظل هذا الجدل مرتهنًا في جزء كبير منه لتقلبات علاقة المسلمين بالغرب. وفي هذا السياق، تمكن الباحث من رصد لحظتين رئيستين في هذا الجدل؛ لحظة كان المسلمون مطالبين بمراجعة نصوصهم الدينية التأسيسية والتراثية حتى يصبحوا ليبراليين على النمط الغربي، ولحظة أصبحوا فيها يطالبون الغرب بمراجعة قيمه الليبرالية والكفّ عن النظرة الاستقطابية لعلاقة الإسلام بالليبرالية. واللحظة الثانية هي التي شهدت ميلاد مقولة "الإسلام الليبرالي" واشتهرت بفضل كتابات تشارلز كورزمان بالخصوص، وقد تأثرت بكتابات جون رولز عن الليبرالية، وبمقولات "نهاية التاريخ" لفرانسيس فوكوياما و"صدام الحضارات" لصمويل هنتنغتون.

وتناول محمد الأشهب، في دراسته "النظرية النقدية للعدالة في سياق التبرير نموذج راينر فورست"، مساهمة النظرية النقدية في صيغتها الجديدة مع راينر فورست الذي يعد أحد طلبة يورغن هابرماس الذين طوروا النظرية النقدية في سجال نقدي مع أستاذه. فلئن كان هابرماس طوّر النظرية النقدية في إطار نقد علاقات التواصل المشوّه، فإن فورست ينطلق من فكرة مفادها أنّ المجتمع هو مجموع علاقات التبرير الموزعة توزيعًا غير متكافئ. وبناءً عليه، فالنظرية النقدية التي قدمها الباحث، باقتضاب في دراسته، هي محاولة لنقد علاقات التبرير في المجتمع، باعتبارها علاقات غير متكافئة. فالظلم ليس مجرد توزيع غير عادل للخيرات الاقتصادية، بل هو أيضًا إقصاء للمعنيين بقواعد التوزيع من الحق في مناقشة هذه المعايير، أو بلغة فورست هو إقصاء للحق في التبرير.

أما دراسة عبد الرحيم موساوي، التي جاءت بعنوان "الديمقراطية القادمة: دريدا وتفكيك السيادة"، فتناول فيها الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، وطريقة معاجلته لمشكلتين أساسيتين تواجههما أوروبا في الوقت الراهن: المشكلة الأولى المتمثلة في السيادة الضيقة المبنية على أسس قومية تقليدية، والمشكلة الثانية المتعلقة بهيمنة الولايات المتحدة الأميركية على النظام العالمي وخرقها المستمر للقانون الدولي. لذا، سيعمل دريدا وفق قراءة الباحث على تفكيك مفهوم السيادة، ونقد أطروحات المنظرين الأوائل لهذا المفهوم غير القابلة للقسمة؛ من أمثال جان بودان، وتوماس هوبز، وكارل شميت أيضًا، من أجل تجذير قيم الديمقراطية التي لا يمكن أن نعيشها من جهة الحضور. إنها ديمقراطية تجدد نفسها باستمرار، وتقوم على تفكيك السيادة غير القابلة للقسمة والمفاهيم المرتبطة بها كالأخواتية، والمُروقية؛ وبناءً على ذلك، فهي ديمقراطية تقف على النقيض من الشعبوية.

وحاول يونس الأحمدي، في دراسته "اللاهوت الليبرالي البروتستانتي: مفهومه وتطوره وإسهامه الإصلاحي في الفكر الديني المسيحي"، تسليط الضوء على واحدٍ من أهم التيارات الفكرية في حقل اللّاهوت المسيحي خلال القرن التاسع عشر، ثمّ القرن العشرين؛ ويتعلق الأمر ههنا بـاللّاهوت الليبرالي؛ مبرزًا إسهامه في تشكيل بروتستانتية القرن العشرين، وتأثيره في مجمل الفكر الديني المسيحي المعاصر. وقد وقف الباحث أولًا على دلالة هذا المفهوم وعناصر نشأته اللّاهوتية والفلسفية، ثم سعى ثانيًا، ومن لحظة اللّاهوتي الألماني فريدريك شلايرماخر، إلى تقصّي أهم مراحل تطوره واستكشاف المقاربات والأطروحات والإِشكالات التي رافقت هذا التطور، في منحى يمكّننا من إبراز قيمة هذا التّوجه اللّاهوتي، من حيث كونه محاولة إصلاحية تزوّدت بمناهج النقد العلمي والتاريخي؛ لدراسة المسيحية وحياة المسيح، واشتغلت على تحيين صورة اللّاهوت وتجديد مهماته خارج هويته التقليدية التي كرستها مصنَّفات العقيدة المسيحية.

وتضمّن العدد أيضًا ترجمة نوفل الحاج لطيف مقالة لجون رولز بعنوان "العدالة إنصافًا: نظرية سياسية وليست ميتافيزيقية". وقد سّلطت الضوء على بعض الثغرات التي لم يقتدر كتاب جون رولز "نظرية في العدالة" على تلافيها، ومن هنا تكمن أهميتها القصوى. وهي، فضلًا عن ذلك، أشبه بنواة مفصلية لمحاضرات رولز اللاحقة، التي جمعها في كتابه الليبرالية السياسية. والحقيقة، كما يذكر رولز نفسه، أنه استفاد في تطوير نظريته في العدالة، وتوضيح معالمها بوصفها تصورًا سياسيًا ينطبق على البنية الأساسية لمجتمع حسن التنظيم، في إطار ديمقراطية دستورية، من الانتقادات والتعليقات والملاحظات العديدة التي واجهتها نظريته "العدالة إنصافًا"، والتي أجمل فيها القول عام 1971 في كتابه المذكور، وكان "رجع الصدى" لفكرةٍ راودته منذ عام 1958 ضمّنها في دراسته "العدالة إنصافًا".

وفي باب "مراجعات الكتب"، نقرأ مراجعة لكتاب الدكتاتورية الجديدة لجون كين، أعدّها أيمن البوغانمي. ويأتي هذا الكتاب تحذيرًا من خطر استمرار أفول نجم الديمقراطية وصعود أسهم السلطوية، وخاصة أن ذلك يحدث، بحسب المؤلف، في غفلة من الديمقراطيات والديمقراطيين. وإذ يرفض صاحبه التبسيط الذي يمجّد الديمقراطيات ويقبّح الدكتاتوريات، فإنه يبيّن أيضًا ما حققته بعض الأنظمة السلطوية من نجاحات في تأصيل شرعية حكمها في إرادة الشعب؛ أي إنها أصبحت تنافس الديمقراطيات حتى على الصُعد المعيارية، وذلك من خلال نقلها مبدأ تمثيل إرادة الشعب من تعقيد المنظومات النيابية والمؤسساتية إلى تبسيط طقوس التجسيد وشخصنة السلطة. وإذا كانت النخب تفضّل التركيب، فإن الجماهير تميل إلى التبسيط. المهم عمومًا أن السلطوية لم تعُد كما كانت من قبل في تناقض صارخ مع مبدأ سيادة الشعب. فالقائد فيها يرفض التعالي النخبوي، ويعمل من خلال سلوكه وخطابه على التعبير عن أولويات الناس. والقيادة تمارس السلطة تحقيقًا لإرادة الشعب؛ بمعنى الاستجابة لرغباته.

** تجدون في موقع دورية "تبيّن" جميع محتويات الأعداد مفتوحة ومتاحة للتنزيل.