/ACRPSAlbumAssetList/Images/لبنان%20-%20تقدير.jpg
تقدير موقف 06 أكتوبر ، 2020

اتفاق الإطار بين لبنان وإسرائيل لترسيم الحدود: دلالات التوقيت وطريقة الإعلان

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

أعلن رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 2020 عن التوصل إلى اتفاق إطار لإطلاق مفاوضات مباشرة بين لبنان وإسرائيل لترسيم الحدود البحرية والبرية بينهما. ويتضمن نص الاتفاق الذي وضعته الإدارة الأميركية، ويتولى تنفيذه مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شينكر، وجود مسارين لترسيم الحدود؛ أحدهما لترسيم الحدود البرية استنادًا إلى قرار مجلس الأمن رقم 1701 لعام 2006، وثانيهما لترسيم الحدود البحرية. وستؤدي الولايات المتحدة وفق هذا الاتفاق دور الوسيط، بناء على طلب الطرفين. وستعقد الجولة الأولى من المفاوضات بين ممثلي لبنان وإسرائيل في مقر الأمم المتحدة في الناقورة في 14 تشرين الأول/ أكتوبر على الأرجح.

ثمة عدة أمور في الاتفاق تلفت الانتباه، هي: أولًا، لا يوجد ربط ملزم بين المسارين البري والبحري. ثانيًا، لا يوجد إطار زمني للمفاوضات. ثالثًا، لا يشير الاتفاق إلى أي مرجعية لمفاوضات ترسيم الحدود البحرية مثل قانون البحار لعام 1982، ما يجعلها خاضعة كليًا لموازين القوى والضغوط التي يمكن ممارستها على لبنان. رابعًا، لا يطرح الاتفاق أي بدائل في حال فشلت المفاوضات بين الطرفين، كالاتفاق على التوجه إلى التحكيم الدولي.

مسار ترسيم الحدود البرية

اعتمد لبنان وإسرائيل، منذ توقيعهما على اتفاق الهدنة في آذار/ مارس 1949، الحدود الدولية بين فلسطين ولبنان، التي رسمتها دولتا الانتداب بريطانيا وفرنسا عام 1923، كخط للحدود بينهما. وبعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان عام 2000، رسم خبراء الأمم المتحدة "الخط الأزرق" بين لبنان وإسرائيل بناءً عليه. لكن هذا الخط استند إلى خريطة بمقياس رسم صغير وضعتها بريطانيا وفرنسا، وتم تثبيتها على الأرض بعلامات جغرافية محلية مثل صخور ووديان وشوارع ومفترقات طرق تغيرت معالمها خلال الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان. لذلك، برز خلاف بخصوص هذا الخط؛ إذ تعامل لبنان معه كخط انسحاب وليس خط حدود نهائيًا، وتحفّظ على 13 نقطة حدودية اخترق فيها الخط الأزرق الحدود اللبنانية لصالح إسرائيل. أما إسرائيل فقد تعاملت معه بوصفه خطَ حدودٍ نهائيًا. فضلًا عن ذلك، ظل الخلاف قائمًا حول مزارع شبعا؛ إذ يعتبرها لبنان جزءًا من أراضيه، في حين تدّعي إسرائيل أن المزارع أراضٍ سوريّة احتلتها إسرائيل في سنة 1967 وضمتها إليها في سنة 1981. وتشترط إسرائيل استعدادها لبحث موضوع مزارع شبعا باعتراف سوري رسمي بأن مزارع شبعا أرضٌ لبنانية.

ويوجد خلاف بين لبنان وإسرائيل على النقطة الأولى في البر، الفاصلة بين الطرفين على شاطئ البحر في رأس الناقورة؛ فإسرائيل تضع نقطة الحدود الأولى على الشاطئ إلى الشمال من النقطة التي يضعها لبنان. وفي حين تنسجم النقطة الأولى التي وضعها لبنان مع الخرائط البرية للحدود بين الطرفين، فإن النقطة التي وضعتها إسرائيل لا تستند إلى أي مستند قانوني. ويعد الاتفاق على هذه النقطة غايةً في الأهمية، لأنه بناء عليها سيتم ترسيم الحدود البحرية الإقليمية والمناطق الاقتصادية الخالصة للطرفين.

ترسيم الحدود البحرية

منذ أقرت الأمم المتحدة اتفاقية قانون البحار عام 1982، أخذت أكثر الدول تستند إليه في حل نزاعاتها على الحدود البحرية، إما بصورة ثنائية أو عبر التحكيم الدولي[1]. رغم ذلك، ظلت إسرائيل ترفض حل نزاعها البحري مع لبنان وفق قانون البحار أو باللجوء إلى التحكيم الدولي، وأصرت بدلًا من ذلك على إجراء مفاوضات مباشرة بين الطرفين وبوساطة أميركية؛ وذلك لإجبار الجانب اللبناني على الجلوس معها مباشرة إذا أراد البدء بالتنقيب عن الغاز في مياهه الإقليمية. اللافت أن لبنان وافق على المطلب الإسرائيلي بدلًا من اللجوء إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي والاحتكام إلى قانون البحار، وهو خيار كان متاحًا تمامًا أمام لبنان. وقد عالجت العديد من الدراسات، بما فيها الإسرائيلية التي قام بها خبراء متخصصون في ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، جوانب مختلفة، وخلصت إلى أن حجة إسرائيل القانونية فيما يخص مطالبتها بالقطاع (بلوك) رقم 9 مقابل السواحل اللبنانية هي حجة ضعيفة، تسقط أمام أي مرافعة قانونية دولية، في حين أن حجة لبنان في ترسيم حدوده قوية لأنها تستند إلى قانون البحار.

وقد خلصت "مذكرة"[2] ناقشت خيارات إسرائيل بخصوص النزاع على الحدود البحرية مع لبنان إلى وجود ثلاث طرق لحل النزاع: مفاوضات بوساطة طرف ثالث، أو التحكيم الذي تقوم به محكمة أو مؤسسة دولية وفق قانون البحار، أو التوجه إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي. لكن إسرائيل أصرت على الخيار الأول؛ أي المفاوضات المباشرة بوساطة طرف ثالث؛ وذلك للأسباب التالية: أولًا، لأن الطرفين هما من يحدد مرجعية المفاوضات وإطارها بينهما من الناحية الإجرائية، وهذا يحيّد القانون الدولي ويمنح إسرائيل حق الاعتراض "الفيتو"، ويستطيع أي طرف منهما أن يطرح اقتراحات لا تتماشى بالضرورة، أو تتناقض حتى، مع القانون الدولي. ثانيًا، تسمح المفاوضات بالتوصل إلى حلول وسط بشأن المنطقة البحرية المختلف عليها، بدلًا من صدور أحكام ليست في مصلحة إسرائيل من جهات قانونية دولية. ولن يكون في الإمكان، في حال المفاوضات، فرض حلٍ على إسرائيل لا تقبل به.

إن حجة إسرائيل القانونية في ترسيمها للحدود المختلف عليها مع لبنان ضعيفة قانونيًا؛ فإسرائيل تعتمد في ترسيم حدود منطقتها الاقتصادية الخالصة مع لبنان على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية المبرمة بين قبرص ولبنان عام 2007، والتي لم يصدّق عليها لبنان حتى الآن، ولم يسلمها للأمم المتحدة، وهي تعد من ثمّ غير معترف بها دوليًا.

وقدمت هذه المذكرة عدة توصيات أخرى دعت فيها إلى الفصل بين النزاع البري والبحري، وإلى الفصل بين مسألة تحديد نقطة البداية في رأس الناقورة عن مختلف نقاط الاختلاف الأخرى بشأن الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل. وأوصت بأنه من الأفضل لإسرائيل التوصل إلى اتفاق مع لبنان بشأن نقطة البداية هذه، وعدم تحويل فض النزاع بشأنها إلى محكمة أو مؤسسة دولية؛ لأن الموقف اللبناني الذي يستند إلى خرائط ووثائق يعد أقوى من الموقف الإسرائيلي قانونيًا[3].

لماذا وافق لبنان على التفاوض؟

استغلت إسرائيل والولايات المتحدة أوضاع لبنان السياسية والاقتصادية الصعبة لدفعه إلى الموافقة على الدخول في مسار تفاوضي بشأن ترسيم حدوده البحرية ومنطقته الاقتصادية الخالصة من دون أي مرجعية أو إطار زمني أو ضمانات للوصول إلى حقوقه التي يكفلها القانون الدولي (قانون البحار في هذه الحالة)، وبعد أن ظل يرفض ذلك لأكثر من 10 سنوات. فلبنان الذي تعرّض خلال الشهور الأخيرة لسلسة أزمات كبرى، بدأت بسقوط حكومة سعد الحريري بعد احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر 2019 وصولًا إلى سقوط حكومة حسان دياب بعد الانفجار الذي هز مرفأ بيروت في آب/ أغسطس الماضي، يعاني ديونًا خارجية تصل إلى نحو 100 مليار دولار، دفعته إلى إعلان عجزه عن تسديد فوائدها. كما تواجه قطاعاته المصرفية والخدماتية خطر الانهيار الكامل، في ظل العجز عن تشكيل حكومة جديدة. من الواضح أن لبنان يدفع بهذا القرار فاتورة الصراع المحتدم بين زعماء طوائفه وطبقته السياسية الفاشلة، وانهيارها المعنوي والأخلاقي، والأزمة التي يواجهها حزب الله الذي يحمّله خصومه اللبنانيون المسؤولية عن عزلة لبنان العربية والدولية، وضعف موقع إيران وانحسار قدرتها على تقديم الدعم المالي لأنصارها في لبنان بسبب العقوبات الأميركية.

لقد عزز كل ذلك من قدرة إسرائيل وأميركا على ابتزاز لبنان ودفعه إلى تغيير موقفه بشأن التفاوض مباشرة مع إسرائيل. هناك عوامل أخرى أيضًا ربما تكون دفعت باتجاه اتخاذ هذا القرار، حيث قرر رئيس مجلس النواب نبيه بري فجأة التخلي عن ملف ترسيم الحدود البحرية، وهو الملف الذي ظل يحتكر إدارته لأكثر من عقد من الزمن، خاصة بعد أن فرضت واشنطن عقوبات على بعض المقربين منه، كما لا يستبعد أن ما يسمى في لبنان "الثنائي الشيعي" يريد أن يتهرّب من مفاوضات مباشرة مع إسرائيل. لقد نقل الملف إلى عهدة رئيس الجمهورية الذي من مصلحته أن يظهر كأن هامش مناورته أوسع من نطاق السيطرة الإيرانية، كما أنه يحاول على ما يبدو إبعاد شبح العقوبات عن صهره ووريثه، جبران باسيل.

خاتمة

يطرح قبول لبنان الدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل وبوساطة أميركية لترسيم الحدود البحرية بينهما مجموعة من الأسئلة الأساسية، أهمها: لماذا وافق لبنان على مسار المفاوضات بدلًا من اللجوء إلى التحكيم الدولي الملزم، أو إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، لتطبيق قانون البحار في نزاعه مع إسرائيل؟ ولماذا لم يشترط لبنان وضع مرجعية للمفاوضات في عملية ترسيم حدوده البحرية مع إسرائيل؟ ولماذا لم تتم الإشارة إلى بدائل في حال فشلت المفاوضات بين الطرفين، كالاتفاق مثلًا على التحكيم الملزم أو التوجه إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي؟

يبدو واضحًا أن قرار لبنان بهذا الشأن، والذي يعد بمنزلة قبول بالشروط الإسرائيلية، قد اتخذ من منظور مصالح الطبقة السياسية اللبنانية التي تتعرض لضغوط داخلية وخارجية شديدة، وقد تكون بذلك فتحت الباب واسعًا أمام الابتزاز الإسرائيلي هذه المرة.



[1] مثل القرارات التي اتخذتها المحاكم أو المؤسسات الدولية في ترسيم الحدود بين رومانيا وأوكرانيا في 2009، ونيكاراغوا وكولومبيا في 2012، وبيرو وتشيلي في 2014، وبنغلاديش وميانمار في 2012، وبنغلاديش والهند في 2014، وغانا وساحل العاج في 2017، وكرواتيا وسلوفينيا في 2017، وكوستاريكا ونيكاراغوا في 2018.

[2] ينظر مثلًا إلى مذكرة بيني شنيير، "بوسائل سلمية: فحص النزاع على الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان في نظر قانون البحار"، حيفا: مركز حيفا لبحث السياسة والاستراتيجية البحرية التابع لجامعة حيفا، تموز/ يوليو 2019؛ وهي مذكرة باللغة العبرية جاءت في 72 صفحة، شوهد في 6/10/2020، في: https://bit.ly/3leOq27. ينظر أيضًا ناديه تسيمرمان، "الخلاف على ترسيم خط الحدود البحري بين إسرائيل ولبنان – نظرة قانونية" في: شاؤول حوريب وإيهود غونين (محرران)، تقييم استراتيجي بحري لإسرائيل لسنة 2017-2018 (حيفا: مركز حيفا لبحث السياسة والاستراتيجية البحرية، 2018)، (بالعبرية) ص 148-156، شوهد في 6/10/2020، في: https://bit.ly/36DKnsa

[3] حوريب وغونين، وبخاصة ص 63-66.