العنوان هنا
تحليل سياسات 06 يوليو ، 2019

في دلالات تنقيحات القانون الانتخابي التونسي وجدالاتها

هل دخل مسار الانتقال الديمقراطي في تونس مرحلة التناقضات الهيكلية؟

سهيل الحبيّب

حاصل على الدكتوراه في اللغة والآداب العربية، اختصاص حضارة (فكر عربي حديث ومعاصر)، من كلية الآداب بمنوبة (2003). باحث بخطة أستاذ محاضر بمركز الدراسات الإسلامية ـ جامعة الزيتونة تونس. له العديد من المؤلفات، أبرزها: وصل التراث بالمعاصر: قراءة نقدية في طرح الماركسيين العرب (1998)؛ وخطاب النقد الثقافي في الفكر العربي المعاصر: معالم في مشروع آخر(2008)؛ وفي تشكيل الخطاب الإصلاحي العربي: تطبيقات على الفكر الإصلاحي التونسي (2009)؛ فضلًا عن المشاركة في كتب جماعية وأعمال ندوات، ومجموعة من الدراسات والمقالات في مجلات عربية مختلفة.


مقدمة

طبعًا، لا يمكن لأي إنسان ديمقراطي أن يتمنّى أن تكون الإجابة عن السؤال المذكور في العنوان بالإيجاب، بل لا يمكنه أن يتمنّى حتى الوصول إلى لحظة تُكرِهه فيها الوقائع المتعيّنة على أن يُفكر في فرضيات على هذا النحو. فبلوغ مسار اجتماعي ما، أو ظاهرة اجتماعية ما، مرحلة التناقضات الهيكلية، لا يعني سوى أنها باتت مُهدّدة تهديدًا حقيقيًا وجدّيًا بأن يكون مصيرُها آيلًا إلى الانفجار أو الانهيار. بيد أن لحظة التحليل والفهم تُكرهنا على عدم استبعاد حتى الاحتمالات التي نراها، بمعيار مواقفنا ورغباتنا الذاتية، سيئة وكارثية.

منطلق ما سيأتي لاحقًا، بخصوص تطورات المسار الانتقالي التونسي، هو سؤال يبدو في ظاهره بسيطًا: كيف يمكن أن يتخذ المرء "موقفًا ديمقراطيًا" في سياق هذه التطورات؟ والمقصود تحديدًا سياق الجدالات المحتدمة بشأن التنقيحات المُدخلة على القانون الانتخابي التي اقترحتها حكومة يوسف الشاهد ومرّرتها الغالبية البرلمانية للائتلاف الحاكم في 18 حزيران/ يونيو 2019[1]. بمعنى آخر؛ ما هو الموقف من هذه التنقيحات الذي يمكن أن يخدم بالفعل مسار الانتقال الديمقراطي في تونس ويثبّت دعائمه؟ والأمر الذي يجب التنصيص عليه، بدايةً، هو أننا لسنا تجاه سؤال نظري مجرد يقتضي النظر في متن هذه التنقيحات ومقارعتها بالقوانين المنظمة للحياة السياسية الديمقراطية؛ إذ لو كان الأمر كذلك لكان يسيرًا، بل نحن تجاه سؤال مقترن بسياقه العملي اقترانًا صميميًا، تقود الإجابة عنه (الموقف من التنقيحات)، على نحو مباشر، إلى موقف عملي ينخرط مباشرة في لعبة الحسابات الانتخابية لمحطتَي تشرين الأول/ أكتوبر (الانتخابات التشريعية) وتشرين الثاني/ نوفمبر (الانتخابات الرئاسية) 2019.

 يعلم "القاصي والداني" أن دوافع طرح الائتلاف الحاكم لهذه التنقيحات القانونية وإقرارها والجدالات المحتدمة بشأنها اليوم، لا علاقة لها بمواقف مجردة من عدة محاور؛ مثل استغلال العمل الخيري لأغراض انتخابية، والتمويلات الأجنبية، والإشهار السياسي، واعتماد الجمعيات المدنية لغطاء العمل الحزبي ... إلخ. إن الأمر، ببساطة، يتعلّق بمواقف عملية من قوى وشخصيات تُعطيها استطلاعات الرأي في نيات التصويت حظوظًا وافرة للفوز في المحطتين الانتخابيتين المقبلتين، على نحو يمثل تهديدًا حقيقيًا للائتلاف الحاكم الحالي (حزب "تحيا تونس" وحزب "حركة النهضة") أساسًا، ولمنظومة الأحزاب والقوى السياسية التي تؤثث المشهد السياسي التونسي منذ 14 جانفي (كانون الثاني/ يناير) 2011 إلى اليوم بصفة عامة (سواء في الحكم، أو في المعارضة). وباتت هذه الشخصيات والقوى التي تتبوّأ اليوم طليعة نيات التصويت، وفي مختلف عمليات سَبر الآراء التي تقوم بها مؤسسات مختلفة، تُعرف بـ "قوى خارج النظام"، باعتبارها تتألف من أطراف قفزت على نحو بهلواني ومفاجئ من مجالات العمل الخيري والجمعياتي والإعلامي، وحتى من المجال الجامعي الأكاديمي، إلى مجال العمل السياسي، وهذا ما ينسحب على نبيل القروي و"حزبه" المفترض الذي ظهر في ما بعد أنه سيأخذ اسم "قلب تونس"، وعلى قيس سعيد، وعلى جمعية "عيش تونسي" وزعيمتها ألفة ترّاس، ومئات القائمات المستقلة التي من المنتظر أن تحصد نصيبًا وافرًا من أصوات الناخبين، مثلما أشّرت إلى ذلك الانتخابات البلدية التي حدثت في العام الماضي، إضافة إلى الحزب الدستوري الحرّ وزعيمته عبير موسي التي باتت تتبجح، أكثر من أي وقت مضى، بأنها ضدّ "نظام الثورة" ومخرجاته الدستورية والسياسية.

لا يتطلّب الأمر نباهةً كبيرة للتفطّن إلى أن هذه التنقيحات جاءت لتقليص حظوظ هذه القوى المضادة للنظام؛ ما يعني عمليًا تثبيت الائتلاف الحاكم الحالي ("حركة النهضة"، وشق من شقوق "نداء تونس" أو أكثر) في دفة الحكم خلال الأعوام الخمسة المقبلة، على الرغم من كارثية النتائج. وهذا أمر بات من مدركات "الحسّ المشترك" لدى جميع التونسيين تقريبًا[2]. لكن ما الذي يدفع إلى الربط بين هذه التنقيحات والجدالات المثارة بشأنها من جهة، وفكرة الوصول إلى مرحلة بروز تناقضات ذات صبغة هيكلية تمثّل تهديدًا حقيقيًا للمسار الانتقالي الديمقراطي التونسي الهشّ من جهة ثانية؟ ذلك هو السؤال الذي سنحاول الإجابة عنه بعد استقراء دلالات اللحظة ومتغيّراتها في هذا المسار.

من "الثقافة السياسية" للنظام الاستبدادي إلى إعادة إنتاج ممارساته: في البقاء في السلطة على الرغم من إرادة الناخبين

جاءت نتائج عمليات سَبر الآراء، بخصوص نيات التصويت في الانتخابات التونسية المقبلة، لتكون صورةً عاكسةً، كأجلى ما يكون، لذروة الأزمة التي آلت إليها التجربة السياسية الديمقراطية الفتية التي شهدتها تونس خلال الأعوام الثمانية الأخيرة، وهي في الأساس أزمة التشكلات والنُخب الحزبية التي كانت في طليعة القوى الفاعلة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا في هذه التجربة؛ سواء منها التي تبوّأت سلطة الحكم، أو التي أدّت دور المعارضة. وأظهرت هذه النتائج، كما ذكرنا آنفًا، غلبة النزوع العام نحو "معاقبة" هذه القوى، وفسح المجال لقوى جديدة مختلفة تمامًا.

يستدعي فهم سياق الأزمة التي يعيشها المسار الانتقالي الديمقراطي التونسي في لحظته الراهنة وفهم عناصرها الرئيسة، في تقديري، أن نفهم حدث 14 جانفي 2011 باعتباره ثورةً حقيقيةً، أو على نحو أدق منطلقَ مسارٍ ثوري حقيقي نجح في إنجاز شطر لا يُستهان به من أهداف المطلب الديمقراطي المتعلّق خصوصًا بتغيير نظام الحكم السياسي. فإذا كان مفهوم الثورة مقترنًا دومًا بمفهوم التغيّر الجذري الراديكالي، يمكن القول إن تغيّرًا على هذا النحو قد عرفته تونس في طريقة الوصول إلى الحكم، وفي الشروط المؤدّية إلى هذا الوصول (حرية الترشّح، وحرية التواصل مع الناخبين، وحيادية الهيكل المشرف على الانتخابات ... إلخ). لكن خلافًا للوهم الذي استبدّ بالنخبة "الثورية" عشية 14 جانفي 2011، لم يمثّل الحدث الثوري، بهذا المعنى السياسي المخصوص، لحظةَ قطيعةٍ مع مسار الدولة الوطنية الحديثة في تونس، ومنه مسار دولة الاستقلال تحديدًا، فضلًا عما حصل في هذا المستوى السياسي (وهو غير هيّن في حدّ ذاته ويستحقّ توصيفه بأنه "ثورة سياسية")، بل إن الأمر على العكس؛ إذ بات ثابتًا اليوم أن هذه الثورة السياسية وجدت أحد أهم شروط نجاحها في بنية الانتظام الاجتماعي السياسي المتقدم في صيرورة تشكيل الدولة الأمة وتكريس هوية وطنية مدنية تشتمل على قدر لا بأس به من التماسك، وهي البنية التي ساهم في صنعها وتكريسها نظام الاستبداد السياسي في زمن حكم الحبيب بورقيبة، وفي زمن حكم زين العابدين بن علي أيضًا. وأبان منعطف 2013/ 2014 من المسار الانتقالي التونسي (نجاح الحوار الوطني، واعتماد دستور جديد، وإقامة انتخابات حرّة ونزيهة وشفّافة حقّقت تداولًا سلميًا على السلّطة) عن هذا الدور الإيجابي الذي قام به ميراث الوحدة الوطنية التونسية في تجنّب سيناريوهات باقي بلدان الثورات العربية الراهنة (الفوضى والاحتراب، أو عودة الاستبداد).

أما الأزمة الراهنة في المسار الانتقالي الديمقراطي التونسي، فتكشف، في تقديري، عن فاعلية الوجه الآخر من الميراث السياسي الاجتماعي لدولة الاستقلال في هذا المسار، لكنها فاعلية سلبية هذه المرّة، ودورها معوّق لصيرورة الانتقال الديمقراطي. ويتمثّل هذا الوجه في التقاليد السياسية التي رسّخها النظام السياسي القائم على الحزب الواحد، والزعيم الأوحد الذي حكم تونس طوال خمسين عامًا من دولة الاستقلال، بعد أن أجهض كل محاولات نشوء التعددية الفكرية والتنظيمية السياسية، وهو تطوّر طبيعي كان من المفروض أن يحدث في الإطار المؤسسي الاجتماعي والسياسي للدولة الأمة التي يؤمن بها هذا النظام. وأوجد أنموذج الحزب/ الدولة/ الزعيم، بالتدرّج وعلى مرّ الأعوام، تقليدًا في "العمل السياسي" الحزبي قائمًا في جوهره على العلاقات الزبونية والمصلحية. وقد ترسّخ هذا التقليد، إلى حد بعيد، في تونس خلال الأعوام الأخيرة التي سبقت ثورة 2011؛ وليس ذلك لأن الانخراط في التجمع الدستوري الديمقراطي كان، من الناحية العملية، بمنزلة الشرط الذي لا مفرّ منه من أجل "الطمع" في بلوغ المناصب "السامية" في الدولة ومنشآتها وفي الوظيفة العمومية فحسب، بل لأنه غدا كذلك - خصوصًا في الأعوام الأخيرة من حكم بن علي - في حكم الضرورة لـ "قضاء الحوائج" بمختلف أنواعها؛ مثل الرخص والتسهيلات، وحتى الامتيازات غير القانونية، بالنسبة إلى رجال الأعمال، والحرفيين، والتجار، وفئات اجتماعية أخرى. ولعلّ أخطر ما أفرزته هذه التقاليد هو أنها قرنت (بل يمكن القول إنها لبّست) العمل السياسي الحزبي بقيمة نقيضة لقيمته الأصلية. بمعنى آخر؛ أصبح هذا العمل رديفًا لقيمة/ غاية خدمة الشأن الخاص، في حين أن جوهره هو خدمة الشأن العام.

في هامش هذه التقاليد التي أرسى دعائمَها نظامُ الحزب الواحد والزعيم الأوحد، أي في الهامش الذي يفلت من قبضة نظام الاستبداد، نشأت تقاليد للعمل السياسي السرّي، كرّستها تنظيمات ذات مرجعيات يساريّة (قومية وشيوعية) وإسلامية. وعلاوةً على أن طبيعة المرجعيات الأيديولوجية لهذه التنظيمات (مرجعيات غير ديمقراطية بطبيعتها)، وأن طبيعة أهدافها الإستراتيجية (لا تؤمن بالتغيير في الدولة التونسية بقدر ما تؤمن بتغييرها أصلًا لفائدة مشاريع الأممية العمّالية، أو الأمة العربية، أو الأمة الإسلامية)، لم تسمحا لها أصلًا بأن تكون أطرًا لنشؤ تقاليد عمل سياسي موافقة للديمقراطية، فإن طبيعة عملها السرّي في سياق نظام استبدادي، وتعرّضها لحملات متلاحقة تستهدف وجودها التنظيمي جعلا هاجس المحافظة على الجماعة ومصالحها يؤدي دورًا أساسيًا في تحديد نوعية تقاليد للعمل السياسي الناشئة في هذا الفضاء الهامشي. وينسحب هذا الأمر، خاصةً، على الحركة الإسلامية التونسية التي تطوّر منها حزب حركة النهضة.

وفي تقدري، أدّى رسوخ تقاليد العمل السياسي التي فرضها، في المركز والعلن، نظام دولة الاستقلال، إلى أن تتحوّل شيئًا فشيئًا إلى ما يمكن وسمه بـ "الثقافة السياسية" (بعد أن نُجرّد مفهوم الثقافة السياسية ممّا يحيل عليه عادة من قيّم ومبادئ جوهرانية لاتاريخية ذات صلة بالطابع القومي، أو الانتماء الديني للجماعة السياسية). وما نعنيه، على وجه التدقيق، هو أن عقودًا طويلة من جَعْل العمل السياسي الحزبي (في الحزب الحاكم والأحزاب "الديكورية" أيضًا) طريقًا إلى التموقع الفردي وخدمة الشأن الخاص، حوّلت هذا التقليد إلى ثقافة سائدة لدى قطاع مهم من نخبة الفاعلين السياسيين، في حين خلّفت تقاليد مواجهة حملات التنكيل والاستئصال المتتابعة، خاصةً تلك التي أخذت طابعًا هويّاتيًا فجًّا (تتبع الإسلاميين بصفتهم إسلاميين)، ما يشبه الثقافة السياسية عند الإسلاميين، حيث صار الدفاع عن الوجود الفئوي والمصلحة الفئوية مدارًا للعمل السياسي وغايةً في حدّ ذاتها.

 لم يتمّ التفطن، بعد 14 جانفي 2011، إلى خطورة هذا الميراث من الثقافة السياسية، باعتباره أحد العناصر اللامادية التي كرّسها نظام الاستبداد، والتي يجب تصفيتها، ولو بالتدرّج، من أجل تأمين مسار الانتقال الديمقراطي (في حين وقع التركيز على وجوب إقصاء رموز النظام السابق بصفاتهم المادية)؛ ذلك أن المشهد الحزبي في تونس يبرز، اليوم، بوضوح أنّ رفع الموانع السياسية والتشريعية والأمنية التي كانت تحول، قبل الثورة، دون إنشاء الأحزاب وحرية تواصلها مع المواطنين، لم ينتج بصورة تلقائية ومباشرة، كما كان يُعتقد، تعدديةً حزبيةً في مستوى الفعل والممارسة، وثقافة سياسية في مستوى الوعي، على نحو ما هو سائد في جلّ البلدان الديمقراطية، بل أنتج ما يمكن وسمه بـ "التشظية" الحزبية التي تترجم، على نحو ملموس وعياني، أحد أهمّ مظاهر الثقافة السياسية التي كرّسها نظام الاستبداد قبل الثورة؛ نعني مظهر تلبّس العمل السياسي الحزبي بقيمة نقيضة لقيمته الأصلية، حيث يغدو هذا العمل رديفًا لقيمة/ غاية خدمة الشأن الخاص الفردي، أو الشأن الخاص الفئوي عند الإسلاميين.

شهدت البلاد، مباشرةً بعد 14 جانفي 2011، "طوفانًا" من الأحزاب، جزء منه هو انسلاخات من أحزاب قائمة، بل انسلاخات من الأحزاب المنسخلة نفسها. وساد الاعتقاد خلال الأعوام الأولى أن هذا الأمر طبيعي، وأنه مجرد "انفجار" مؤقت للرغبات المكبوتة في زمن الاستبداد السياسي، وأن المشهد الحزبي سيتدرّج نحو التمركز في عدد محدود من الأحزاب السياسية الكبرى. لكنّ شيئًا من هذا لم يحدث، بل يمكن القول إن المسار تطوّر في الاتجاه المعاكس، وذلك بعد أن تحوّل حزب "نداء تونس"، الفائز في انتخابات عام 2014، من عنوان لبداية صيرورة قيام أحزاب كبرى إلى عنوان يعكس الصيرورة النقيضة في أجلى مظاهرها وأقذرها؛ صيرورة الانقسامات والتشظيات والانسلاخات المتتابعة في الأحزاب التونسية التي تعكس استفحال نزعة الفردانية، والمصلحية الشخصية، والتضحية بمصالح البلاد من أجل "غنيمة السلطة".

عمّقت المرحلة بين عامَي 2014 و2019 أزمة التشكلات الحزبية التونسية، وهي الأزمة التي توارت معالِمُها، إلى حدٍّ ما، خَلْف عناوين الصراع الأيديولوجي الهوياتي الذي وسم المرحلة بين عامَي 2011 و2014، والذي اندلع على خلفية "تسييس هوياتي إسلامي" (محاولة "أسلمة" المجتمع وتغيير "نمط عيشه") مارسته حركة النهضة (وجماعات إسلامية حليفة لها في ذلك الوقت) من موقع السلطة من جهة، و"تسييس هوياتي حداثي" مضاد مارسته باقي القوى السياسية المدنية من جهة ثانية. لقد بان بوضوح أن هذا الصراع الهوياتي هو الذي كان وراء تشكّل "نداء تونس" باعتباره حزبًا سياسيًا "كبيرًا" نجح في كسب أكبر عدد من الأصوات والفوز في انتخابات 2014، برلمانيًا ورئاسيًا. ومع نزع فتيل هذا الصراع بقيام التحالف "المقدّس" بين الحزبين اللذين كانا "عدوين لدودين" قبل الانتخابات (حركة النهضة ونداء تونس)، عادت أزمة الأحزاب إلى الواجهة.

غدا في إمكان المواطن العادي أن يرى بشفافية كبيرة الخلفيات المصلحية التي تقف وراء أداء الحزبين السياسي، وأداء الفاعلين السياسيين عمومًا. نتحدّث هنا عن المصلحة الفئوية لحركة النهضة باعتبارها جماعة لم يكن لها من همّ في هذه المرحلة سوى تفادي سيناريو استئصالي على شاكلة ما حدث للإخوان المسلمين في مصر، ونتحدّث كذلك عن المصالح الذاتية الأنانية التي حكمت، إلى حدٍ بعيد، أداءَ رئيس الدولة (توريث نجله قيادة حزب نداء تونس)، وأداءَ ثاني رئيس حكومة بعد انتخابات عام 2014 يوسف الشاهد (تأسيس حزب "تحيا تونس" الذي بات يتزعمه بعد أن انقلب على حزبه نداء تونس)، وأداءَ جلّ قياديي نداء تونس وكوادره ونوّابه في البرلمان الذين تفرقت بهم السُبل في أربعة أحزاب متناسلة، أو أكثر، تتقارب وتتصارع في ما بينها، كما تتقارب وتتصارع مع باقي الأحزاب، وتتحوّل فيها المواقف يوميًا في مشهد كاريكاتوري مقزّز. وفي المقابل، لم تقدر الأحزاب المعارضة في البرلمان على تقديم أداء يتجاوز مربع الاستعراض الاحتجاجي المقترن في الغالب بالصياح الحماسي واللغة الشعوبية، والممزوج بعبارات الشتم والتجريح في الأشخاص؛ الأمر الذي ولّد انطباعًا عامًا مفاده أن الأمر لا يتعدّى خصومات المصالح الشخصية.

كان واضحًا أن استفحال أزمة الثقة المتعلقة بأداء المنظومة الحزبية القائمة ونخبة الفاعلين السياسيين، الذين "مكّنت" لهم ثورة 14 جانفي، يسير في خطّ موازٍ مع استفحال الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد؛ ذلك أن العلاقة بين الأزمتين أصبحت من الحسّ المشترك الذي يتقاسمه جميع التونسيين. ففي ظل تنامي الثقافة الاقتصادية للمواطن التونسي، بفضل حرية الإعلام وفسح المجال لتحليلات الخبراء الاقتصاديين، صار في إمكانه أن يدرك العلاقة الصميمية بين تدهور وضعه المعيشي اليومي، وتدهور وضع البلاد الاقتصادي الذي تترجمه جلّ المؤشرات الرقمية (ضعف نسب النمو، وارتفاع نسبة التضخم، وتدهور سعر صرف العملة، وارتفاع عجز الميزان التجاري ... إلخ)، كما صار في إمكانه أن يدرك أيضًا أن وضعه الاقتصادي المتدهور هو، بدوره، نتاج الأداء السياسي لمنظومة الحكم. بمعنى آخر؛ إن المواطن التونسي صار يُدرك، على نحو مباشر ملموس، ما يمكن أن نوصّفه، بلغة عقلانية مجرّدة، بأنه وضع تناقض بين مقتضيات الفعل السياسي لسلطة حكم ديمقراطي توجب أن يتكرّس هذا الفعل لخدمة الشأن العام (لأنها سلطة مفوّضة ديمقراطيًا من الشعب صاحب السيادة) من جهة، والأداء السياسي للأحزاب الحاكمة، والبرلمانية بصورة عامة، الذي تكرّس لخدمة الشأن الخاص ونتائجه العملية التي أضرّت بالشأن العام، من جهة ثانية.

إن جوهر أزمة المسار التونسي الراهنة كامن، بحسب تقديري، في هذا التناقض الذي بلغ مدى كبيرًا مع حجم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية غير المسبوق؛ أعني التناقض بين مفترضات السياسة في الديمقراطية، باعتبارها خدمةً للشأن العام، والمفترضات الضمنية التي تحرّك النخب الحاكمة المشبعة بثقافة القرن بين العمل السياسي وخدمة الشأن الخاص. وهذا التناقض، في حدّ ذاته، لا يمثّل إشكالًا في الوضع الديمقراطي؛ لأن الديمقراطية جاءت أصلًا لحلّ مثل هذه الإشكالات عبر الآلية الانتخابية التي تتيح للشعب استبدال ممثليه في السلطة بصورة دورية، ولا سيما أن جوهر العملية الانتخابية الدورية قائم على منطق استبدال النخب الحاكمة حين تفشل في خدمة الشأن العام، فما بالك حين تكشف سياستها عن أن هاجسها الرئيس هو غير خدمة الشأن العام أصلًا؟ إن نيات التصويت التي أبانت عنها عمليات سبر الآراء الأخيرة تنسجم تمامًا مع طبيعة مجريات الأمور في أي نظام ديمقراطي. بمعنى آخر؛ أنْ تسير الأمور في اتجاه إبعاد المنظومة الحزبية والنخب السياسية الفاعلة في المشهد التونسي الراهن عن دائرة سلطة الحكم؛ فهذا هو الحلّ الديمقراطي لهذا التناقض.

غير أن التنقيحات الأخيرة التي أُدخلت على القانون الانتخابي، والتي أقرّها نواب الائتلاف الحاكم، جاءت، عمليًا، لتقطع الطريق على هذا الشكل من الحلّ الديمقراطي لهذا التناقض الذي بات مستفحلًا في تونس، الحلّ الذي يتكرّس عمليًا في المحطة الانتخابية التي يجب أن تُعقد في إبّانها، والتي من المفروض أن تُفضي، منطقيًا، إلى استبدال النخبة الحاكمة الحالية. ونحن إذ نفهم هذه التعديلات من جهة نتائجها العملية، فذلك لأن الأمر لا يمكن مناقشته، كما سبق أن بيّنا، باعتباره يرتبط بمواقف مجردة من عدة محاور؛ مثل استغلال العمل الخيري لأغراض انتخابية، والتمويلات الأجنبية، والإشهار السياسي، واعتماد الجمعيات المدنية غطاءَ العمل الحزبي، ونحو ذلك. فلو تمّ إقرار هذه التعديلات في ظرفية أخرى غير هذه الظرفية، لكان في الإمكان إدخالها في باب تجويد شروط العملية الانتخابية، وتحقيق أقصى شروط التنافس النزيه، وسدّ الطريق أمام عمليات التحيّل على الناخبين ... إلخ. وقد كان في إمكان مناصري هذه القوانين أن يفرضوها خلال الأعوام الماضية، لكنّ جزءًا منهم على الأقل، وتحديدًا قادة حركة النهضة ونوّابها، لم يكن له المصلحة في ذلك، خاصةً أن "القاصي والداني" في تونس يعرف أن جزءًا معتبرًا من الخزّان الانتخابي لحركة النهضة وليد نشاط اللفيف الجمعياتي الدعوي والخيري القريب منها، والمتمتّع بتمويلات خارجية كبيرة.

إن دلالات هذه التنقيحات القانونية كامنة، إذًا، في سياقها، لا في مضامينها. فأمرُ إقرارها لا يخرج عن كون الائتلاف الحاكم الحالي (حزب "تحيا تونس" و"حركة النهضة") اعتمد، عبر غالبية نوّابه في البرلمان، قانونًا يُقصي من دائرة المنافسة - بصورة مسبقة - أهمّ القوى والشخصيات التي تعطيها استطلاعات الرأي في نيات التصويت حظوظًا وافرة للفوز في المحطتين الانتخابيتين المقبلتين في تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر 2019. وهذا لا يترجم إلّا إرادةً في حسم التناقض المستفحل المشار إليه من قبلُ، بطريقة معاكسة تمامًا لمفترضات الحلّ الديمقراطي؛ فإذا كان الإبقاء على شروط اللعبة الديمقراطية سيفضي إلى إقصاء الأحزاب الفاشلة في إدارة الشأن العام، كما تبيّن ذلك نيات التصويت، فإن بقاء هذه الأحزاب في السلطة لن يكون بغير تغيير هذه الشروط.

لا يعني إقرار قوانين لإقصاء المنافسين السياسيين الحقيقيين والبقاء في السلطة، على الرغم من إرادة الناخبين، نقضًا لشرط من الشروط الجوهرية للعملية الانتخابية الديمقراطية، في مطلق الأحوال، فحسب، بل يعني أيضًا إعادة إنتاج ممنهجة لأداة من أهم الأدوات التي كان يؤثر استخدامها نظام بن علي تحديدًا في سبيل تزويق "هندسته" نتائج الانتخابات ببرقع ديمقراطي. ويعرف متابعو الحياة السياسية التونسية، خلال العشرية الأولى من هذا القرن خاصةً، أن بن علي لم يؤدِّ لعبة التنقيحات الدستورية في عام 2002 التي أتاحت له إعادة الترشّح للرئاسة مرة رابعة وخامسة (2004 و2009) فحسب، بل أدّى كذلك لعبة تنقيح القانون الانتخابي باستمرار حتى يتحكّم في تحديد منافسيه وإقصاء الشخصيات (أحمد نجيب الشابي على سبيل المثال) والقوى السياسية التي "تُزعجه".

على هذا النحو، تبدو لي هذه التعديلات القانونية التي مرّرها نوّاب الائتلاف الحاكم مؤشرًا دالًّا على تطوّر سلبي خطِر في مسار الانتقال الديمقراطي في تونس؛ فهي إذ تعني أن التناقض الهيكلي بين طبيعة النظام الديمقراطي الوليد والثقافة السياسية الحزبية الموروثة عن النظام الاستبدادي لم يعُد في إمكانه أن يستمرّ من دون حسم (وهذا أمر طبيعي ومتوقّع)، تدلّ أيضًا على أن إرادة الحسم متجهة ضدّ الاتجاه الموافق لمسار الانتقال الديمقراطي. فهذا الاتجاه كان يفترض أن ينتج النظام الديمقراطي، ويطوّر ثقافة سياسية حزبية بديلة تكرّس قيمة العمل السياسي؛ باعتباره خدمةً للشأن العام، واجتهادًا في البحث عن المصلحة الوطنية. غير أن التعديلات المُدخَلة على القانون الانتخابي، مقروءةً في سياقها، تشير بصفة قطعية إلى اتجاه معاكس في حلّ هذا التناقض؛ باعتبار أن الثقافة السياسية القديمة المتوارثة هي التي نراها تُعيد إنتاج الممارسات والقوانين السياسية الاستبدادية.

في "ضدّ النظام" الديمقراطي قبل أن يستقرّ: "الما قبل" و"الما بعد" أو الإشكال التاريخاني من جديد

أن يكون إقرار هذه التعديلات مؤشرًا دالًا على نزوعٍ إلى إعادة إنتاج ممارسات النظام الاستبدادي، فذاك لا يعني مطلقًا انتفاء الطابع المشكلي على مقاربة السؤال المطروح في منطلق هذه الدراسة (ما هو الموقف من هذه التنقيحات الذي يمكن أن يخدم بالفعل مسار الانتقال الديمقراطي في تونس ويثبّت دعائمه؟). فكما أن دلالات هذه التنقيحات القانونية كامنة في سياقها السياسي وحيثياته، لا في مضامينها، فإن الموقف منها لا يمكن أن يتملّص من رهاناته العملية في السياق ذاته. لا يستطيع المرء أن يتخذ موقفًا معارضًا لهذه التعديلات القانونية، بالنظر إلى أنها تُمثّل انتكاسًا في المسار الانتقالي التونسي نحو الديمقراطية، من دون أن يضع في اعتباره النتائج العملية الموضوعية التي ستترتّب على عدم تفعيلها في السياق المتعيّن الراهن لهذا المسار. فمن دون تفعيل هذه التنقيحات، ستكون ثمة حظوظ وافرة لقوى وشخصيات سياسات معيّنة (مذكورة آنفًا) كي تحقق انتصارات لافتة في الانتخابات المقبلة. ويطرح الانتصار الانتخابي لهذه الشخصيات والقوى التي باتت توصف بـأنها "ضدّ النظام" إشكالات متعلّقة بمستقبل الانتقال الديمقراطي في تونس لا تقلّ خطورةً عن الإشكالات التي تطرحها التعديلات القانونية التي تقطع الطريق على وصولها إلى السلطة.

بات مفهوم "ضدّ النظام" من المفاهيم الرائجة في التحليلات السياسية الراهنة، وهو معتمد، بصفته مفهومًا، توصيفًا لجملة من الظواهر الطارئة في المشاهد السياسية للكثير من البلدان الديمقراطية خلال الأعوام القليلة الماضية؛ من قبيل التنامي المتصاعد في شعبية قوى اليمين العنصري في الغرب، ووصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، ووصول الكوميدي فولوديمير زيلينسكي إلى رئاسة أوكرانيا، والصعود المفاجئ والسريع لحركات ذات طبيعة "هُلامية"؛ مثل حركة "5 نجوم" في إيطاليا (حصدت أكثر من 32 في المئة من الأصوات في الانتخابات التشريعية الإيطالية في آذار/ مارس 2018، وهي تصف نفسها بـ "اللاحزب"، كما أنها تضع نفسها خارج معيار التصنيف الكلاسيكي يمين/ يسار)، وحركة السترات الصفر في فرنسا ... إلخ.

توضع مثل هذه الأحداث في التحليلات السياسية ضمن سياق واحد، وتوصّف بأنها ظواهر "ضدّ النظام"، لاشتراكها في جملة من الخصائص، أهمّها اعتماد خطاب شعبوي (بمعنى ضد نخبوي)، ومراهنتها على سريانه السريع عبر الوسائط الإعلامية الأحدث والأكثر جماهيرية في وقتنا الحاضر (شبكات التواصل الاجتماعي)، وتجاوز الوسائل الكلاسيكية في التعبئة السياسية للمواطنين، ونحو ذلك.

على هذا الأساس، ثمة انطباع في تونس عند عدد كثير من الملاحظين - استنادًا إلى قراءتهم لأرقام نيات التصويت التي أفرزتها عمليات سَبر الآراء الأخيرة - مؤدّاه أن عدوى "التمرّد على النظام" التي تضرب الكثير من البلدان الديمقراطية، في عالمنا الراهن، لحقت الحياة السياسية التونسية. ومثل هذا الانطباع يبدو غير مجانب للصواب إذا اعتبرنا هذا المستوى التوصيفي في مفهوم "ضدّ النظام" كما يستخدمه بعض علماء السياسة اليوم؛ ففي هذا المستوى، قد يغدو من المشروع إقامة مقاربات معقولة بين الظواهر السياسية التي تمثّلها القوى التي تتصدّر نيات التصويت في المشهد التونسي الراهن والظواهر التي يدخلها المحلّلون والمراقبون في باب ظواهر "ضدّ النظام" في البلدان الديمقراطية الحالية.

بيد أن الأهم الذي يجب استحضاره، في سياقنا هذا تحديدًا، هو البعد الذي يتجاوز هذا المستوى التوصيفي في مفهوم "ضدّ النظام" المعتمد اليوم؛ أي البعد التحليلي الذي يفهم مثل هذه الظواهر ويفسّرها باعتبارها ناجمة عن ضرب من ضروب اليأس من الديمقراطية. هكذا كتب أحدهم قبل خمسة أعوام: "هذا الشعور المعادي للنظام قد ازدهر في المناخ الاكتئابي الذي تطور على مدار العقد الماضي وأصبح أكثر راديكالية في الآونة الأخيرة"[3].

حينما نستحضر هذا البعد التحليلي التفسيري في مفهوم "ضدّ النظام"، يمكننا أن ندرك على نحو واضح الطابع الإشكالي لسحب هذا المفهوم من نطاق تحليل ظواهر متولّدة في سياقات أنظمة ديمقراطية مستقرّة، أغلبها راسخ منذ عشرات الأعوام، إلى نطاق تحليل ظواهر ناشئة في سياق مسار انتقالي إلى الديمقراطية؛ أي إلى وضع ديمقراطية ناشئة ما زالت تبحث عن سُبل تثبيت أقدامها. وفي تقديري، يجب ألا نغفل عن الفوارق النوعية والأساسية بين اعتماد هذا المفهوم أداةً في توصيف وتحليل أزمة الديمقراطيات الراسخة والمستقرّة، واعتماده في توصيف وتحليل أزمة ديمقراطية ناشئة وهشّة مثل الديمقراطية التونسية. فوظيفته في الحالة الأولى أنه يشتغل أساسًا في مرحلة ما بعدية (طور آخر من النظام الديمقراطي، أو ربما انبثاق نظام بديل منه على أي نحو كان) تومئ إليها تلك الظواهر غير النظامية، أو تُعبّر عنها من دون أن تمثّل تجسّدها الحقيقي (ما فتئت الأحداث تبرز أن هذه الظواهر تعبيرٌ عن أزمة وليست حلًا لها). أما استخدام مفهوم "ضدّ النظام" لتفسير تطورات مسار انتقال جارٍ إلى الديمقراطية، من قبيل المسار التونسي، فيضعنا مرة أخرى في مواجهة الإشكال التاريخاني الذي استحوذ على شطر من مشاغل الفكر العربي المعاصر.

تولّد هذا الإشكال تاريخيًا من رحم قضايا عالجها اليسار العربي، واليسار الماركسي منه على وجه الخصوص، وترجمتها أسئلة من قبيل: كيف يمكن رفع شعار الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة من دون أن تكون هذه الطبقة قد تشكلت بعدُ بالمعنى الدقيق؟ وكيف يمكن التطلّع إلى المجتمع الاشتراكي عربيًا من دون المرور بطور المجتمع الرأسمالي؟ وكيف يمكن طرح مشروع تطبيق "الديمقراطية الشعبية" من دون استيعاب مكاسب الحداثة الليبرالية؟ وبصرف النظر عن المضمون الأيديولوجي المخصوص والمتجاوَز الذي التبس بظهور الإشكال التاريخاني عربيًا، فإن هذا الإشكال بقي دائم الحضور، وبقي يفرض ذاته، وإنْ بسياقات مغايرة ومضامين أخرى. ففي سياق قضايا الانتقال الديمقراطي في البلدان العربية، نرى الإشكال التاريخاني ماثلًا في أسئلة من قبيل: كيف يمكن التطلع إلى تركيز أسس الدولة المواطنية الديمقراطية في حالات لم يُستكمل فيها حتى بناء الدولة الوطنية الحديثة والهوية الجماعية المتطابقة معها؟ وكيف يمكن الحديث عن حرية المجتمع المدني، بمعنى الجماعات والائتلافات والمنظمات المستقلة عن سلطة الدولة، من دون المرور بمرحلة تأسيس هذا المجتمع أصلًا؛ المجتمع المتماهي مع الدولة الحديثة عبر تجاوز التقسيمات العصبوية والائتلافات العضوية المغلقة؟

إن السؤال الذي تطرحه علينا تطورات المسار الانتقالي التونسي الراهن هو من جنس هذا الإشكال التاريخاني بامتياز: كيف يمكن المرور إلى مرحلة ضدّ نظام الأحزاب بمعناها الكلاسيكي وبتصنيفاتها الكلاسيكية (يمين، ويسار، ووسط) قبل أن يتركز هذا النظامُ نفسُه ويستقرّ؟ وهل سيساعد في توطيد أركان الديمقراطية في تونس هذا الصعود المفاجئ والقوي لقوى "هُلامية"، غير محدّدة المعالم، عُدّتها الوحيدة هي الاستثمار في فشل المنظومة الحزبية التي سادت المشهد السياسي التونسي خلال الأعوام الماضية، من دون أن تقدم بدائل وبرامج حكم واضحة المعالم؟

تدفع جملةٌ من المعطيات الموضوعية إلى التوجّس بشأن تجربة صعود مثل هذه القوى ووصولها إلى دفة الحكم في سياق دقيق مثل الذي يمرّ به المسار الانتقالي الديمقراطي التونسي حاليًا. وأول هذه المعطيات هو أن تجارب شخصيات وقوى "ضدّ النظام" في البلدان الديمقراطية تثبت، إلى حدّ الآن، أنها لا تشكّل بدائل حقيقية للنظام الحزبي الكلاسيكي، بقدر ما تمثّل ظواهر هي أقرب إلى "النزوات" التي تعبّر عن أنماط من القلق والتأزم وإرادة التطوير ونشدان الأفضل في بلدان استقرّ فيها النظام الديمقراطي. وإذا كانت الأنظمة الديمقراطية المستقرّة قد أثبتت قدرتها على امتصاص الآثار السلبية لمثل هذه الـ "نزوات"، فإن السؤال المطروح هو: إلى أي حدّ يقدر على ذلك نظام ديمقراطي فتيّ، مثل النظام التونسي؟

وإذا افترضنا إحالة قوى "ضدّ النظام" على آفاق تطوّر، على نحو ما، بعد النظام الحزبي الكلاسيكي في الديمقراطيات، فهل من الممكن أن نأمل أن تؤدي مثل هذه القوى الدورَ الذي قام به النظام الحزبي الكلاسيكي في تركيز دعائم النظام الديمقراطي؟ في الحقيقة، تفيدنا التجارب العربية المعاصرة، أن الشعارات "الما بعدية" غالبًا ما تتحوّل إلى أغلفة خدّاعة، تُخفي تحتها ظواهر "الما قبل"، إذا لم نقُل إنها تُعيد إنتاجها وتثبّت وجودها. وهكذا نكتشف اليوم مدى تغلغل ظواهر العلاقات الرعوية والإنتاجية المتخلفة والانقسامات الطائفية والإثنية والعشائرية في عدد من البلدان (مثل العراق، وسورية، واليمن) التي حكمتها على امتداد عدة عقود أنظمةٌ ادّعت أنها بصدد التقدم إلى الاشتراكية (تجاوز الرأسمالية "الرجعية")، والحرية والوحدة العربية (تجاوز القطرية "المتعفّنة")؛ فما الذي يضمن ألا يُعاد إنتاج الاستبداد وحكم الفرد تحت غطاء تجاوز النظام الحزبي؟

وضع تناقض هيكلي؟

نعود إلى السؤال: ما الذي يدفع إلى الربط بين هذه التنقيحات والجدالات المثارة حولها من جهة، وفكرة الوصول إلى مرحلة بروز تناقضات ذات صبغة هيكلية تمثّل تهديدًا حقيقيًا للمسار الانتقالي الديمقراطي التونسي الهشّ من جهة ثانية؟ طبعًا، إن مقولة "التناقض الهيكلي" هي مقولة توصيفية وتحليلية ذات طابع عقلاني مجرّد، غير أنها، في لحظات مخصوصة، قابلة لأنْ تأخذ صورة تجسّد حسّي أو عياني مباشر وملموس. وهو ما ينطبق، في تقديري، على السياق الذي فرضته إشكالية تنقيحات القانون الانتخابي على المسار الانتقالي التونسي في لحظته الراهنة؛ إذ سنجد أنفسنا في مواجهة مظاهر متعيّنة وحسّية لما يُسمّى في الخطابات التحليلية العقلانية، عادةً، "وضع التناقض الهيكلي"؛ وذلك بمجرد أن نطرح على أنفسنا السؤال المنطلق في هذه الدراسة: ما هو الموقف الذي يمكن أن يتخذه أي متابع من هذه التنقيحات من جهة مصلحة مشروع الانتقال الديمقراطي في تونس؟ يبدو لي أن أي محاولة للإجابة عن هذا السؤال تضعنا في مواجهة واقع مشخص، يطرح علينا بقوة فرضيةً مفادها أن المسار الانتقالي التونسي الديمقراطي الراهن انتهى إلى تناقض هيكلي. فإذا كان للتحليلات المثبتة آنفًا بعضُ الوجاهة والمعقولية، فإنه لا يمكن المفاضلة في هذه اللحظة تحديدًا، من جهة مصلحة تثبيت دعائم النظام الديمقراطي في البلاد، بين فرضية صعود قوى "ضدّ النظام"، وفرضية قطع الطريق عليها، على النحو الذي أقدم عليه الائتلاف الحاكم عبر تلك التنقيحات المدخلة على القانون الانتخابي؛ ففي الحالتين ثمة مخاطر حقيقية تهدّد بانتكاس مسار الانتقال إلى الديمقراطية.

إن الوضع الذي آل إليه المسار التونسي اليوم يبدو، في شطر مهم منه، بحسب تقديري، خلاصة عدم تطوّر ثقافة سياسية تجعل خدمة الشأن العام الوطني في مركز العمل السياسي، ومن ثمة عدم تطوّر واقع سياسي حزبي يناسب الحياة الديمقراطية. وعلى هذا الأساس، يبدو لي أن تطوير مثل هذه الثقافة السياسية والواقع الحزبي بات شرطًا ضروريًا لاستكمال هذا المسار وتلافي أوضاع تناقضات هيكلية خطِرة على غرار ما توحي به حيثيات اللحظة.


[1] سيأتي الحديث عن أهم مضامين هذه التنقيحات خلال تحليل هذه الدراسة. لكن لمعرفة تفصيلية بها، يُنظر مثلًا: آدم يوسف، "البرلمان التونسي يمنع الإشهار السياسي ويقر نسبة حسم 3 بالمائة"، العربي الجديد، 18/6/2019، شوهد في 4/7/2019، في: https://bit.ly/2KWI49x

[2] لمزيد من التفصيل، يُنظر مثلًا: وليد التليلي، "تونس: استطلاعات الرأي تُربك الناخبين والمرشحين"، العربي الجديد، 24/6/2019، شوهد في 4/7/2019، في: https://bit.ly/2RSJZfI

[3] Monique Dagnaud, “Que signifie, dans la France de 2014, être ‘anti-système’,” Salte Fr,10/2/2014, accessed on 22/6/2019, at:https://bit.ly/1cs3b7a