العنوان هنا
تقدير موقف 15 سبتمبر ، 2013

صفقة الكيماوي: المخرج الذي يحتاجه أوباما

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

بعد مجزرة القصف بالسلاح الكيماوي في غوطتَي دمشق في 21 آب/ أغسطس 2013، دخل الملف السوري مرحلة جديدة؛ إذ أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما في 1 أيلول/ سبتمبر عن قراره توجيه ضربة عسكريّة إلى النظام شرط تصديق الكونغرس على هذه الخطوة. وعلى الرغم من وجود معارضة واسعة ضمن شرائح الرأي العام الأميركي، ومن أعضاء في الكونغرس أيضًا، فإنّ احتمال تنفيذ الضربة العسكرية بقي قائمًا، ولم يتضاءل هذا الاحتمال إلا عندما أعلنت روسيا مبادرةً رحّب بها النظام السوري، وهي تقضي بوضع الأسلحة الكيماوية السوريّة تحت الرقابة الدولية وبسحبها وتدميرها في مرحلة لاحقة.

وتستعرض هذه الورقة كيفية تعامل إدارة الرئيس أوباما مع قضية استخدام السلاح الكيماوي التي ساهمت في بلورة المبادرة الروسية، كما تتناول الاحتمالات التي تتجه إليها المسألة السوريّة في ضوء التطورات الأخيرة، وإمكان تراجع الاهتمام الدولي بحلّ الأزمة في ما يتعلق بنزع السلاح الكيماوي وانتقال التركيز من معاقبة النظام على استخدام السلاح إلى الاكتفاء بتسليمه.


تطوّر الموقف الأميركي من الأزمة السوريّة

بعد الاستخدام الواسع للسلاح الكيماوي بدأت إدارة أوباما تحضير ضربة عقابية للنظام السوريّ، الأمر الذي اعتبر تغيرًا نوعيًا في الإستراتيجية الأميركية تجاه الملف السوري الذي أبدت تجاهه لامبالاة متفاوتة الدرجة. ويمكن إجمال إستراتيجية الولايات المتحدة منذ انطلاق الثورة السورية حتى استخدام الكيماوي في 21 آب/ أغسطس في ما يلي:

  • الانكفاء عن التدخل المباشر، والاكتفاء بالضغوط الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية ضد النظام، بما يتوافق مع المحددات العامة لإستراتيجية إدارة أوباما في القضايا الخارجية.
  • عدم اعتبار الأزمة السوريّة تهديدًا للأمن القومي الأميركي والمصالح الحيوية للولايات المتحدة في المنطقة، ما دامت تستطيع مع حلفائها في المنطقة إبقاء الصراع محصورًا داخل الحدود الجغرافية لسورية[1].
  • توصيف الصراع في سورية على أنه "حرب أهلية" قد تستمر لفترات زمنية طويلة، ما يفرض ابتعاد الولايات المتحدة عن الانخراط المباشر، وبخاصة أنّ المعارضة السوريّة وفق النظرة الأميركية هي معارضة منقسمة ومشتتة، تضم "قوى متطرفة". ومن ثمّ، فإنه من غير المؤكد أن تشكل المعارضة السوريّة الحالية حليفًا إستراتيجيًا للولايات المتحدة في حال حسم الصراع وسقوط النظام[2].
  • رفض تسليح المعارضة السوريّة.

بناء على ما سبق، فضّلت إدارة أوباما الانحياز التدريجي للتنسيق مع روسيا لإيجاد حل سياسي وفق اتفاق جنيف، كخيار بديل من خيارات أخرى غير مضمونة مثل تسليح المعارضة السوريّة، أو التدخل المباشر بأنواعه المختلفة. ولضمان السير في هذا النهج، حذّر أوباما النظام السوري مبكرًا من استخدام السلاح الكيماوي، واعتبره "خطًا أحمر" لا يمكن تجاوزه، وأنّ ما أسماه "قواعد اللعبة" سوف تتغير بشكل كامل في حال لجوء النظام إلى استخدام هذا السلاح.

مثّل استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية على نطاق واسع في الغوطتين إحراجًا لأوباما وإدارته، ووضعه أمام استحقاق التعامل مع تجاوز النظام الخطوط الحمراء التي حددها بوصفها عتبة ضرورية لتغيير تعاطيها مع الأزمة السوريّة. وفي ضوء ذلك، أعلن أوباما قراره توجيه ضربة سريعة وعاجلة ضد النظام، بحيث تكون ضربة عقابيّة ومحدودة النطاق. ويمكن إجمال أهداف الضربة في الآتي:

  • معاقبة النظام السوري لتجاوزه "الخطوط الحمراء" المحددة، بما يؤدي إلى إخراج أوباما من الحرج ويظهره رئيسًا حازمًا بعد الانتقادات الداخلية المتزايدة التي تصفه بالضعف والتردد.
  • تدمير القدرات الكيماوية للنظام السوري للحيلولة دون استخدامها ضد حلفاء الولايات المتحدة؛ أي إسرائيل. وبهذا تحقق الولايات المتحدة إحدى أولويات الأمن الإسرائيلي.
  • تحذير بعض الدول في المنطقة والعالم - وهي التي تصفها الولايات المتحدة بأنها "دول مارقة"؛ مثل إيران وكوريا الشمالية - برد عقابي حازم إذا سعت لامتلاك أسلحة الدمار الشامل أو تطويرها، فضلًا عن استخدامها، وبما يحافظ على "صورة" الولايات المتحدة ومكانتها بوصفها قوة عظمى تتحكم في مخرجات السياسة الدولية أو تؤدي دورًا مهمًا فيها.

ومن الملاحظ أنّ أوباما لم يلتفت إلى أهداف الثورة السوريّة، ولا قضايا الشعب السوري في خطابه السياسي في هذه المرحلة. كما أنه - خلافًا لسلفه جورج بوش - لم يتطرق إلى نشر الديمقراطية أو مكافحة الإرهاب أو الاستبداد، بل قصر خطابه على قضايا العلاقات الإقليمية والدولية المتعلقة بالضرر الذي يمكن أن يلحق بالولايات المتحدة وحلفائها. كما يلاحظ أنّ مؤيدي النظام السوري هم من تصدّوا لتبني خطاب جورج بوش المتعلق بمكافحة الإرهاب الإسلامي والظلامية.

وفي ضوء الأهداف السابقة، حرصت إدارة أوباما على طمأنة الداخل والخارج، وبخاصة حلفاء النظام السوري بأنّ الضربة المحتملة ستكون محدودة، ولا تهدف إلى إسقاط النظام، أو تغيير موازين القوى على الأرض. وفي هذا السياق يمكن فهم قيام الدبلوماسي الأميركي جيفري فيلتمان بصفته مساعد الأمين العام للأمم المتحدة بزيارة طهران في 26 آب/ أغسطس 2013، إذ سعى لاحتواء ردة فعل إيران، ودفعها إلى عدم التصعيد في حال حصول الضربة العسكرية.


الحشد الأميركي للضربة

خلال الأيام التي سبقت عودة الكونغرس من إجازته الصيفية، بدأت إدارة أوباما مساعي دبلوماسية حثيثة لبناء تحالف دولي واسع للمشاركة في العمل العسكري، أو تأييده على الأقل؛ فتحالف "الراغبين" المصغّر الذي كان يضم بريطانيا وفرنسا إلى جانب الولايات المتحدة لم يعد قائمًا بعد خروج لندن منه في أعقاب تصويت مجلس العموم البريطاني على رفض المشاركة في العمل العسكري ضد نظام الأسد. وبالفعل، فقد نجح أوباما خلال قمة العشرين في تجاوز المعارضة الشديدة لخطوته من قبل روسيا والصين فضلًا عن القوى الصاعدة المتحالفة معهما (البرازيل، والهند، وإندونيسيا)؛ إذ صدر على هامش القمة بيان لـ 12 دولة (في 6 أيلول/ سبتمبر 2013) تحدّث عن ضرورة القيام بردّ قويّ لردع النظام السوري عن استخدام الكيماوي. كما نجحت مشاركة وزير الخارجية الأميركي جون كيري في اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في ليتوانيا في 7 أيلول/ سبتمبر، وصدر بيان ختامي طالب بردّ قوي رادع ضد النظام السوري. وعلى الرغم من أنّ كيري فشل في إدراج الاتحاد الأوروبي في قائمة المشاركين في الضربة، فإنه نجح في ثني ألمانيا وإيطاليا والعديد من الدول الأوروبية الأخرى عن مطلبها بضرورة الحصول على موافقة مجلس الأمن على القيام بعمل عسكري ضد النظام السوري. وكانت حصيلة جهد الدبلوماسية الأميركية موافقة (33 دولة) على المشاركة في الضربة المزمعة ضد النظام.

ومن الضروري دراسة ردّة فعل الرأي العام الغربي الذي لا تصدّق بعض فعالياته محدودية الضربة، وتشكّك في نيات حكوماته بسبب الأثر الذي خلّفه العدوان الأميركي على العراق بحججٍ كاذبة. ومن الواضح أنّ الرأي العام الغربي لم ينقسم في هذا الموضوع إلى يسار ويمين، أو ليبراليين ومحافظين؛ إذ نجد عناصر من أقصى يمين الخارطة السياسية تعارض توجيه ضربة جنبًا إلى جنب مع حركة السلام، إما من منطلق الحرص على مصالح إسرائيل أو من منطلق عداء الإرهاب. فقد نجحت دعاية النظام الروسي في تأكيد مواقفه ضد الإسلام، ودعاية النظام السوري في خلخلة مواقف قوى سياسية تثير أساليب النظام السوري القمعية اشمئزازها، ولكنها لا تتعاطف مع البديل منه. وفشلت دعاية المعارضة السورية في وضع معاناة الشعب السوري في المقدمة، وفي نقد جرائم القوى المتطرفة في سورية، وتفنيد الصورة التي ينشرها النظام عن الثورة. وبالمقابل، نجد في صفّ المؤيدين للضربة قوى ليبرالية ويسارية ويمينية؛ لدواعٍ وأسباب مختلفة.


"صفقة" في الوقت المستقطع

بموازاة الاستعدادات للضربة، نشطت الجهود الدبلوماسية لتجنب الخيار العسكري؛ فإيران - وهي لاعب أساسي في الأزمة - لم تكن بحكم حجم مصالحها في سورية ودورها في الصراع الدائر فيها في موقعٍ يسمح لها بتمرير ضربة ضدّ حليفها. وبالمقابل، لم تكن القيادة الإيرانية الجديدة راغبة في دخول مواجهة مبكرة تقضي على فرص انفتاحها على الغرب وبخاصة مع الولايات المتحدة. وقد بدا أنّ إيران سلمت بالضربة، وبدأت الإعداد لامتصاصها والحفاظ على ما هو قائم في إيران والعراق ولبنان. فبادرت بالتعاون مع حلفائها في المنطقة لعرض مخارجَ تُجنّب النظام السوري الضربة؛ فجاءت مبادرة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ذات النقاط الثماني في 4 أيلول/ سبتمبر 2013، وهي تدعو إلى وقفٍ فوري للقتال، وانتظار نتائج تحقيق فريق المراقبين الدوليين في استخدام الكيماوي، وإلزام النظام والمعارضة موعدًا محددًا لإجراء مفاوضات، وتشكيل حكومة مؤقتة تُجري انتخابات بإشرافٍ عربي وأممي، يعقبها تداول سلمي على السلطة[3].

ولم تجد مبادرة المالكي صدًى واسعًا على الصعيد الدولي الذي كان يركّز على معاقبة النظام على استخدام السلاح الكيماوي فحسب، ما جعل الأنظار تتجه نحو كواليس قمة العشرين في انتظار مفاوضات اللحظة الأخيرة، فتمخضت المساعي الدبلوماسية التي قادها عددٌ من الدول - وعلى رأسها ألمانيا خلال القمة - عن عقد لقاءٍ قصير بين أوباما وبوتين على هامش القمة[4]. ويبدو أنّ القيادة الروسية كانت قد اقتنعت بجدية الأميركيين في تنفيذ تهديدهم، وبأنّ تَجنُّب وقوع الضربة يتطلب تقديم "تنازلات" مهمة في موضوع السلاح الكيماوي، إمّا لإيجاد مخرجٍ لأوباما، أو ربما لإضعاف موقفه أمام الكونغرس والرأي العام المعارض للضربة العسكرية من خلال مبادرات تسحب منه ما تعتبره "الذريعة" المباشرة للقيام بالضربة؛ وهي حيازة السلاح الكيماوي وإمكانات استخدامه[5].

بدا من الواضح أنّ روسيا ومن ورائها ألمانيا - التي كانت تُجري اتصالات مع دولٍ أوروبية ومع إيران - تحضران لـ "صفقة" قبل عودة الكونغرس من إجازته في 9 أيلول/ سبتمبر، ومن ثمّ،  قبل كلمة أوباما للشعب الأميركي في اليوم التالي.

وبالفعل، فقبيل ساعات من مناقشة الكونغرس الضربة العسكرية، أعلنت روسيا عن "مبادرة" تنصّ على وضع السلاح الكيماوي السوري تحت الإشراف الدولي، وعلى تدميره لاحقًا بعد انضمام سورية إلى معاهدة حظر الأسلحة الكيماوية. وبصورةٍ فورية، أعلن وزير الخارجية السوري وليد المعلم من موسكو عن "ترحيب القيادة السورية بالمقترح الروسي حرصًا منها على أمن مواطنيها وبلادها".

لقد جاءت المبادرة الروسية لتحقّق أهداف الإدارة الأميركية من "الضربة العقابية"، وبذلك عزّزت قوّة الجناح المتحفِّظ عن الضربة أصلًا في داخل الحكومة الأميركية، كما أنها أخلّت بتماسك المؤيدين للضربة في الولايات المتحدة، وبخاصة اللوبي الإسرائيلي المتحمّس فقط لتدمير المخزون الكيماوي السوري بوصفه أحد أهمّ أهداف الأمن الإسرائيلي في الوقت الذي يفضّل فيه الحفاظ على النظام ضعيفًا لأنّ البديل منه إمّا الفوضى أو ما هو أسوأ لإسرائيل. وهو - بالمناسبة - موقف تشترك فيه دول أخرى مثل الأردن على سبيل المثال.


الحسابات الجديدة واحتمالات التسوية

أعادت "صفقة الكيماوي" خلط الأوراق على كلّ المستويات في الأزمة السوريّة، فقد تراجع احتمال الضربة العسكرية الأميركية بعد أن كان شبه مؤكد. وظهر ذلك جليًّا في خطاب الرئيس أوباما للشعب الأميركي يوم الثلاثاء 10 أيلول/ سبتمبر. فعلى الرغم من أنّ أوباما أبقى الضربة خيارًا قائمًا، ومناشدته الشعب الأميركي وأعضاء الكونغرس تفويضه القيام بذلك، فإنّه أعلن أنّ الأولوية هي للخيار الدبلوماسي، ولذلك طلب تأجيل التصويت في الكونغرس. وبناءً عليه، فإنّ تطورات الملفّ السوري والحراك الدولي بشأنه تقع في المدى المنظور ضمن ثلاثة احتمالات رئيسة:

أولًا: تسوية تقتصر على قضية الكيماوي: يمكن لأوباما أن يروّج أمام الرأي العام الأميركي والكونغرس أنّ المبادرة الروسية تمثّل "انتصارًا" شخصيًّا له ولإدارته، وبخاصة في ضوء اتهامه بالضعف والتردد؛ فخيار اللجوء إلى القوة والتهديد بالتدخل العسكريّ أثبت "نجاعته"، وأجبر روسيا والنظام السوريّ على التراجع خطوة إلى الوراء. وقد تُشكِّل هذه الخطوة "المخرج" الذي ينشده أوباما لتجنّب العمل العسكري الذي يضعه وحزبه في مواجهة مع الرأي العام، فضلًا عن أنه يتعارض مع إستراتيجية الانكفاء التي اتّبعها في حملاته الانتخابية، وكذلك منذ تولّيه السلطة. فانطلاقًا من ذلك، قد تبادر روسيا إلى تسريع تنفيذ هذه "الصفقة" بما يعيد الأزمة السوريّة إلى مرحلة ما قبل مجزرة الكيماوي، وليستمر الصراع قائمًا في انتظار أن تنضج ظروف ملائمة داخليًّا وخارجيًّا لبلوغ "تسوية". وإنّ تركيز الولايات المتحدة على مسألة السلاح الكيماوي، وتجاهلها الكامل للمأساة السورية في جوانبها الأخرى أكثر من عامين، يجعل هذا الخيار "الأكثر رجحانًا". وقد تُرجم هذا الخيار عمليًّا في الاتفاق الذي جرى بين كيري ولافروف في جنيف 14 أيلول/ سبتمبر، والذي نصّ على إطارٍ لتدمير المخزون الكيماوي السوري بحلول منتصف عام 2014.

ثانيًا: تسوية كبرى يشكل فيها الكيماوي مدخلًا لإطار شامل للحلّ: قد تفتح مسألة استخدام السلاح الكيماوي - وقد جرى استثماره في لعبة المقايضات بين الغرب وروسيا حول الملفّ السوري - الباب لترتيباتٍ أوسع؛ وقد تمنع تعقيدات الصراع داخل سورية من أن تقتصر "الصفقة" على موضوع الكيماوي فحسب. كما أنّ الضغوط التي تمارَس على الإدارة الأميركية من بعض الدول العربية والإقليمية والأوروبية - فرنسا مثلًا - والمتحمسة لمعاقبة النظام السوري، تصبّ في مصلحة عدم اقتصار الصفقة على السلاح الكيماوي. وربما يشكّل ذلك فرصة لتسريع الحل السياسي وفق اتفاق "جنيف 1"، وتشكيل حكومة مؤقتة كاملة الصلاحيات مكوّنة من النظام والمعارضة، بحيث تكون خطوة أولى على طريق الانتقال السياسي في سورية. ولكن، ثمة صعوبات عدة تعترض هذا الاتجاه؛ أبرزها عدم جاهزية طرفي الصراع، وبخاصة النظام للدخول في عمليّة سياسيّة؛ فقد وافق النظام على "الصفقة" على أنها ثمن لبقائه كما هو في معادلة الصراع داخليًّا، وإعادة تأهيله طرفًا " شرعيًّا" معترفًا به دوليًّا. لذلك، من غير المتوقع أن يذهب النظام إلى عملية سياسيّة وهو يشعر بالضعف أو تحت التهديد كما هي الحال الآن. ويمكن استذكار كيف أنّ النظام وحلفاءه سعوا منذ نيسان/ أبريل 2013 إلى قلب موازين القوى العسكرية على الأرض لتجنّب الذهاب إلى مؤتمر "جنيف 2" من منطلق ضعف.

ثالثًا: فشل الصفقة: قد يساهم تضارب مصالح القوى الدوليّة والإقليمية وتقلّب موازين الربح والخسارة في فشل هذه الصفقة، أو على الأقلّ صعوبة تنفيذها في المدى المنظور. الأمر الذي قد يعيد المشهد الدولي إلى ما قبل الإعلان عن المبادرة الروسية؛ بمعنى أن تستمرّ الإدارة الأميركيّة في سعيها للحصول على تفويض الكونغرس، من خلال حشد دور جماعات الضغط الرئيسة المتحمّسة للضربة وتفعيلها، ومن خلال التأكيد على المصالح الوطنية والهيبة والصدقية الأميركية. إلا أنّ ما يضعف هذا الاحتمال هو صعوبة التكهن بنتيجة تصويت الكونغرس الأميركي في ضوء التباينات والانقسامات الموجودة داخله، والمعارضة الواسعة من قبل الرأي العام. كما أنه من المستبعد أن يقوم أوباما بتوجيه ضربة للنظام السوري إذا رفض الكونغرس تفويضه.

إنّ كلّ ما تقدَّم يجعل المبادرة الروسية تمثّل مخرج الحدّ الأدنى الذي تسعى له القوى الكبرى الرئيسة المهتمة بالصراع بعد التصعيد الكبير الذي أعقب استخدام النظام السوري السلاح الكيماوي ضدّ شعبه. واللافت أنّ قوى المعسكريْن (حلفاء النظام وخصومه) تعاونت بشدة للتوصل إلى الاتفاق للحيلولة دون وقوع الضربة العسكرية الأميركية. فهل يمثل هذا التعاون نموذجًا يمكن أن يتكرر في إطار تسوية أشمل تؤدي إلى إنهاء المأساة السورية، وتساهم في وضع حدٍّ لنظامٍ دمّر مدنَ سورية وارتكب في حقّ شعبها جرائم إبادة، وجرائم ضدّ الإنسانية؟ أم هل أنّ إدارة الأزمة ومنع انتشارها سيستمرّان نهجًا في التعامل مع الموضوع؟ من الواضح أنّ الشعب السوري مضطرّ لمواصلة الاعتماد على نفسه في هذه المرحلة، وللارتقاء بدرجة التضامن الداخلي وبأداء قواه السياسية والمقاتلة.

 


 

[1] في شهادته أمام الكونغرس في 19 آب/ أغسطس 2013، قال رئيس هيئة الأركان المشتركة مارتن ديمبسي: "إنّ التحرك تجاه الملف السوري يجب أن يحصل لحماية مصالح حلفائنا (تركيا، والأردن، وإسرائيل) فحسب". انظر:

"General Says Syrian Rebels Aren't Ready to Take Power," New York Times, 21/8/2013: http://www.nytimes.com/2013/08/22/world/middleeast/general-says-syrian-rebels-arent-ready-to-take-power.html?_r=0

[2] Ibid.

[3] "المالكي يطرح مبادرة لحل الأزمة السورية: وقف القتال والحوار ورفض أي عمل عسكري"، صحيفة الحياة، 5/9/2013، انظر:

http://alhayat.com/Details/548508

[4] أدّت ألمانيا دورًا في تخفيف التوتر بين الرئيسين أوباما وبوتين إثر إلغاء البيت الأبيض اجتماعًا ثنائيًا بين الرئيسين كان قد تقرر مسبقًا على هامش قمة العشرين؛ نتيجة اتهام بوتين الإدارة الأميركية بالكذب في قضية السلاح الكيماوي قبل أيّام قليلة من انعقاد القمة.

[5] خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده وزير الخارجية الأميركي جون كيري في لندن في 9 أيلول/ سبتمبر 2013، سأله أحد الصحفيين عن إمكانية تجنّب الضربة في حال تخلّص سورية من السلاح الكيماوي، فكانت إجابته بالموافقة، إذا ما حصل ذلك خلال أسبوع.