العنوان هنا
تقدير موقف 03 يوليو ، 2012

بعد فوز الاشتراكيين، هل تتغير "سياسة فرنسا العربيّة"؟

الكلمات المفتاحية

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

أصبح الزعيم الاشتراكي فرانسوا هولاند رئيسًا للجمهورية الفرنسية يوم 6 أيار / مايو 2012. واكتمل انتصار اليسار الفرنسي بسيطرته على البرلمان في الانتخابات التي جرى دورها الثاني يوم 17 حزيران / يونيو (314 مقعدًا من أصل 577). وأصبح بإمكان الحكومة الجديدة أن تقرر سياساتها وتضع قوانينها من دون أن تكون للمعارضة قوة للتأثير، باستثناء في حال طرح تنقيح للدستور. فكيف ستتأثر السياسة الخارجيّة الفرنسيّة بهذا التغيير المهم، خاصة في ما يتصل بعلاقات فرنسا بالعالم العربيّ والشرق الأوسط عامة؟

للإجابة عن هذا السؤال، سنحاول أولا أن نحدّد بعض معالم هذه السياسة في العهود السابقة منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، لمعرفة ما يميّز كل عهد. ومن ثمّ، نستقصي احتمالات التغيير والثبات في عهد فرانسوا هولاند.


الثّقل البيروقراطي

فرنسا بلد ديمقراطي عريق، ذو جهاز بيروقراطي ثقيل، ومؤسسات لا تتغير فيها وتيرة العمل ولا جوهره ولا أهدافه بتغير الحكومات ورجال الحكم. وقد تخرج التظاهرات كل يوم في الشوارع الفرنسيّة ضد الحكومة، ولكن ذلك لا يسقطها، ولا يهزها إذا كانت تملك أغلبية برلمانيّة. وهذا هو وضع الحكومة الاشتراكية اليوم.

أما سياسة فرنسا الخارجيّة، فقلّما تتأثر بما يحدث في الداخل أو في الخارج. ونادرا ما يجري تعديلها، سواء من حيث الأهداف أو الوسائل أو البرامج. ولكن ما يحدث هو أنّها تقع تحت تأثير الميول السياسيّة لرئيس الجمهورية، الذي قد يطبعها أو يترك عليها آثاره الخاصة، وكانت تلك هي الحال مع ديغول، ومن جاؤوا بعده من اليمين، وصولا إلى فرانسوا ميتران، أول رئيس اشتراكي للجمهورية، والأب الروحيّ -بلا شك- لجيل الاشتراكيين الحالي، ومن بينهم فرانسوا هولاند.

من مزايا الثقل البيروقراطي في الإدارة الفرنسيّة أنّ مختلف السياسات تأخذ قسطها من التفكير والتخطيط، فلا خبط عشواء، ولا ارتجال للقرارات. وحين تنفّذ القوانين والإجراءات، فإنّ الإدارة لا تتراجع، مهما حدث. والمثال الحيّ على ذلك، ما يتعلق بمشكلة "الحجاب" في المدارس الفرنسيّة، إذ لا يزال المنع ساريًا على الرغم من الاحتجاجات والتظاهرات والمسيرات. فالقانون هو القانون، لا شيء يغيره سوى قانون آخر. أي أنّ المسلمين الفرنسيين -مثلا- يحتاجون من أجل إلغاء منع الحجاب إلى تشكيل قوة ضاغطة في البرلمان بإمكانها تغيير أو تنقيح القوانين التي لا تناسبهم. ولا توجد طريقة أخرى.

وهناك تأثير سلبيّ للثقل البيروقراطي في مجال السياسة الخارجيّة، إذ يجعلها غير قادرة على التجاوب بالسرعة المطلوبة مع ما يطرأ من أحداث وتطورات في بلدان لفرنسا علاقات مهمة بها. وهذا ما يفسر الورطة التي وقعت فيها الدبلوماسية الفرنسيّة عندما تتالت الأحداث التي قادت إلى سقوط زين العابدين بن علي وحسني مبارك.

لقد كان أحد التأثيرات الجانبيّة لثورتي تونس ومصر، والذي لم يحظ بالتحليل كثيرا في العالم العربيّ، أنّهما همّشتا الدبلوماسية الفرنسيّة. ولعل عددًا كبيرا من الفرنسيّين اشترك مع التونسيّين والمصريّين في الشعور بخيبة أمل تجاه موقف فرنسا الرّسمي من الثورة في تونس ومصر. فقد بدت فرنسا متخلفة عن الأحداث وغير قادرة على التّفاعل السريع معها، وهو الشيء الذي جعل دبلوماسيين وصحفيين وباحثين فرنسيّين يتحدثون عن "أفول الدبلوماسية الفرنسيّة"، ويصفونها بــ"الضحية"، منتقدين الرئيس ساركوزي ووزيرته للخارجية -آنذاك- ميشال أليو ماريو، إذ إنّ "السياسة الخارجيّة يضع خطوطها الكبرى قصر الإليزيه وتطبقها وزارة الخارجيّة"[1]. وبحسب دستور الجمهورية الخامسة، فإنّ "المهام المناطة بعهدة رئيس الدولة [...] تعدّ الأكثر ترجيحا وحسما بالنسبة إلى سياسة فرنسا الخارجيّة"[2].

وقد حاولت إدارة ساركوزي تدارك ذلك الخطأ بتعيين وزير خارجية جديد وبدبلوماسية فاعلة في حالتي ليبيا وسورية.


السياسة الخارجيّة والمترشحون للرئاسة

من الدّارج، ومنذ عهد الجنرال ديغول مؤسس الجمهورية الخامسة، أنّ السياسة الخارجيّة "مجال محجوز" domaine réservé لرئيس الدولة، بحسب السلطات التي يخولها له الدستور. ويسعى كل مرشح للرئاسة في الانتخابات إلى إبراز تميّزه وصدقيته كقائد مقتدر للسياسة الخارجيّة، وهو ما من شأنه إقصاء الأيديولوجية من هذا الميدان[3]. وهو ما يعطي وزنًا خاصا للسياسة الخارجيّة في البرنامج الانتخابيّ لأي مرشح ولخياراته وعلاقاته وإشعاعه الدوليّ. فليست السياسة الخارجيّة مسألةً نافلة، بل هي في صميم النقاش السياسيّ من البداية، خلال الحملة الانتخابية وبعدها. لذلك، نجد المرشحين حريصين على إبراز ما يتمتعون به من علاقات مع زعماء العالم ومدى الدعم السياسي الخارجي الذي يحظون به[4]، وهو التكتيك الذي استعمله كل من فازوا برئاسة فرنسا ومنافسوهم من دون استثناء[5]. إضافة إلى ذلك، نجد المرشحين يستخدمون شبكات التضامن الدوليّة لصالحهم. فقد حاول - مثلا - كل من فرانسوا ميتران (في 1974 و1980) وليونيل جوسبان (في 1995) استغلال انتمائهما - عبر الحزب - إلى الأمميّة الاشتراكية لدعم نفوذهما في الداخل[6].

من المهم التّذكير بأنّ "سياسة فرنسا العربيّة" كما تسمى، تميّزت بسمعة جيدة عربيًّا في عهد الجنرال ديغول -البعيد تماما عن اليسار وعقائده- منذ حزيران / يونيو 1967، حين أعلنت فرنسا حظر بيع أسلحتها إلى سبع دول في المنطقة، بما فيها إسرائيل[7]. ففي اليوم الذي أعقب العدوان الإسرائيليّ، "أعلن رئيس الحكومة الفرنسية جورج بومبيدو، أمام المجموعة البرلمانيّة الديغولية أنّ سلامًا دائمًا في الشرق الأوسط لا يمكن أن يقوم على نصرٍ عسكريّ مؤقت. وأعلن الجنرال ديغول في مجلس الوزراء الفرنسيّ إدانة فرنسا لإسرائيل لأنّها كانت البادئة بالقتال"[8].


الديغولية واستقلالية القرار الفرنسيّ

كانت فرنسا حليفا رئيسّا لإسرائيل من ناحية التسليح، وساعدتها في بناء الفرن النوويّ، والقنبلة النووية، ولكن الوضع تغير بعد عام 1967، فبقدر ما كانت الولايات المتحدة مورّطة في مساندة عمياء لإسرائيل، حاولت فرنسا التّحكم في علاقاتها مع إسرائيل والعرب على نحو أكثر عقلانيّة. وقد كان وراء هذا الموقف ديغول نفسه الذي كانت رؤيته للعلاقات الدوليّة مؤسسة على البحث عن عظمة فرنسا واستقلالية قرارها. وباستثناء نيكولا ساركوزي الذي عاد بفرنسا إلى صفوف حلف شمال الأطلسي ودعَم سياسات جورج ولكر بوش، لم يجرؤ أيّ رئيس فرنسيّ -من اليمين أو اليسار- على تغيير هذا النهج والمساس باستقلالية السياسة الخارجية الفرنسيّة.

وقد اتهمت إسرائيل الجنرال ديغول بمعاداة الساميّة لأنه صرّح في مؤتمر صحفيّ بعد حرب 1967 أنّ إسرائيل "دولة توسعيّة تسعى إلى مضاعفة عدد سكانها عن طريق هجرة اليهود إليها. وطالب بجلاء القوات الإسرائيليّة عن الأراضي العربية المحتلة [...]"[9]. وقد أعاد ديغول التأكيد على رأيه هذا حتى في مراسلاته مع بن غوريون[10].

وبعد استقالة ديغول في عام 1969، واصل الرئيس جورج بومبيدو السياسة نفسها تجاه الصراع العربيّ - الإسرائيليّ. واستمر الحظر الفرنسيّ على بيع الأسلحة لإسرائيل، فيما زوّدت باريس ليبيا بطائرات مقاتلة ودبابات في كانون الأول / ديسمبر 1969. وكرر بومبيدو كلام ديغول حين تحدث أمام الكونغرس الأميركي في 25/2/1970، مؤكدًا أنّ إسرائيل هي المعتدية في حرب 1967 "لأنها قدّرت أنها مهددة في وجودها، فبدأت بحرب وقائيّة حقّقت لها نصرًا لا ينكر على الأرض"[11].

وبعد حرب أكتوبر 1973، نتذكر كيف أعلن وزير الخارجية الفرنسيّ الديغولي، ميشيل جوبير: "هل محاولة المرء العودة إلى بيته تعدّ عدوانا مدبرا؟"[12]، وبذلك اعترف للعرب بمشروعية حربٍ قاموا بها من أجل تحرير أراضيهم من الاحتلال.


بداية الحوار العربيّ- الأوروبيّ

أما في عهد جيسكار ديستان الذي خلف بومبيدو بداية من عام 1974، فقد اتّجهت السياسة الخارجية الفرنسيّة إلى تنسيقٍ أكبر مع الولايات المتحدة. ولا شك في أنّ حظر النفط كان له تأثير، لا سيما وأنّ فرنسا كانت تستورد نحو 85% من نفطها من العرب. وهو ما استغلته الدعاية الصهيونيّة في أوروبا وفي فرنسا تحديدا لتسميم الرأي العام وتأليبه ضد العرب. ومن قرارات جيسكار ديستان الخطيرة، رفع الحظر عن مبيعات السلاح الفرنسيّ لدول الشرق الأوسط بداية من عام 1974، وسعى في الوقت نفسه إلى تعميق العلاقات مع البلدان الخليجية لضمان التّزود بالنفط[13]. على الرغم من محاولة جيسكار التمايز عن ديغول في موقفه من الصراع العربيّ الإسرائيليّ، فقد اعترف بشرعية حق الشعب الفلسطينيّ، وسمح لمنظمة التحرير بفتح مكتب إعلاميّ رسمي في باريس بداية من 31 تشرين الأول / أكتوبر 1975[14].

وفي عهده، اشتركت فرنسا مع أعضاء الجماعة الاقتصاديّة الأوروبية في إصدار بيان 29/6/1977، ودعوا فيه إلى "حل شامل للصراع العربيّ - الإسرائيليّ، وعدم القبول بحيازة الأرض بالقوة، وإنهاء الاحتلال الإسرائيليّ للأراضي العربيّة المحتلة منذ 1967، وإشراك جميع الأطراف في المفاوضات بما في ذلك الشعب الفلسطينيّ، والاعتراف بالحقوق المشروعة للفلسطينيّين، والتوصل إلى تسوية شاملة عادلة ودائمة بضمانات في نطاق الأمم المتحدة"[15].  

إجمالًا، وبين 1974 و1981، كانت الحملات الانتخابيّة للمرشحين للرئاسة في فرنسا لا تزال خاضعة للجدل الأيديولوجي بين اليمين واليسار بشأن موضوع العلاقات الدوليّة. ولكن، بداية من عام 1981، ومع احتلال السوفيات لأفغانستان ووصول رونالد ريغان إلى البيت الأبيض، حل محلّ التنافس بين النموذج السوفياتيّ والنموذج الأميركيّ تنافسٌ من نوع آخر بين نموذج الليبرالية الأنجلو سكسونيّة الذي دافع عنه -خاصة- الديغولي جاك شيراك، والنموذج الذي تبناه الاشتراكي فرانسوا ميتران. بالنسبة إلى ميتران، "حلّ محل التأكيد على فضائل الديمقراطية الاجتماعية الإسكندنافية، اهتمامٌ بالموجة المتعاطفة مع العالم الثالث، وهو اهتمام مبني على تصورٍ كينزي [نسبة إلى كينز Keynes] قوي للعلاقات شمال-جنوب يفنّد الرؤية الريغانية [نسبة إلى ريغان Reagan] للعلاقات الدوليّة (التي تتمثل خصوصا في إعادة التوكيد على فرض سيطرة القوى الغربية على جميع المناطق الساخنة في العالم)"[16].


الاشتراكيون والعرب

خضعت فرنسا بين 1981 و1995 لقيادة الاشتراكيين. وعلى الرغم من أنّ فرنسوا ميتران (ومعه اليسار الفرنسيّ بأسره) كان على خلاف شديد مع ديغول وبومبيدو وجيسكار ديستان بشأن كل شيء تقريبًا، إلا أنّه لم يغير كثيرا في ثوابت السياسة الفرنسيّة في العالم العربيّ[17] التي سعت الديغولية إلى ترسيخها بقوة كونها تترجم مصالح فرنسا الدائمة في المنطقة.

في بداياته السياسيّة، كان فرانسوا ميتران الذي شغل منذ 1946 مناصب في الحكومة الفرنسيّة معروفا بميله إلى إسرائيل، فقد "كانت له علاقات شخصيّة بشمعون بيريز وحتى بمناحيم بيغين"[18]. ولا غرابة في ذلك، فقد كانت فرنسا قبل  العدوان الثلاثي على مصروأثناءه، ترى في العمل العسكريّ المشترك مع إسرائيل ما قد يمكّنها من بسط سيطرتها على قناة السويس. كما أن دعم مصر عبد الناصر لجبهة التحرير الوطني في الحرب الجزائرية، جعل باريس تتحالف مع العدو الرئيس لمصر، فكانت النتيجة ازدهار العلاقات مع إسرائيل. وفي المقابل، توترت العلاقات الدبلوماسية الدول العربية كافة مع فرنسا (باستثناء لبنان) بين 1956 و1962.

وبداية من 1965، كان ميتران يرى في دعم العماليّين الإسرائيليّين وسيلة للتمايز عن موقف الحزب الشيوعي الفرنسيّ المتعاطف مع العرب والمؤيد لسياسة ديغول العربية. ولكن، في عام 1972، اكتشف الزعيم الاشتراكي الفرنسيّ بؤس مخيمات اللاجئين في غزة، خلال جولة قاده فيها رئيس بلديتها رشاد الشوا. وفي عام 1974، التقى بياسر عرفات في القاهرة، وصرّح بعد اللقاء قائلًا: "إنّ الحزب الاشتراكي يرى أنّ المشكلة الفلسطينيّة مشكلة سياسيّة وليست قضية لاجئين، وأنّ السلام الحقيقي يستدعي الاعتراف بحق الشعب الفلسطينيّ في الوجود"[19]. وبدأت مواقفه تتغير، وراح يبدي تعاطفًا مع الشعب الفلسطينيّ، إذ زار الضفة الغربيّة، وبدأ يتحدث عن دولة فلسطينيّة. ولم تأت سنة 1980 حتى وجّه دعوته للاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينيّة، وذلك قبل وصوله إلى قصر الإليزيه[20].

لم يكن ميتران عقائديًّا جامدًا إلى الحد الذي يجعله يتشبه بالاشتراكي ليون بلوم ويسير على خطاه في دعم ومساعدة الحركة الصهيونيّة على حساب العرب ومصالح فرنسا المرتبطة بهم. ولم يكن ميتران ليجهل أنّ الأوضاع تغيّرت تماما في سبعينيات القرن العشرين عما كانت عليه في الثلاثينيات (زمن الجبهة الشعبية)، أو الخمسينيات (زمن حرب السويس)، أو الستينيات، إذ دخل زعماء اشتراكيون فرنسيّون في صراع ومواجهة مع العرب[21].

وكما أسلفنا، بدأ الحزب الاشتراكي الفرنسيّ بقيادة ميتران مراجعة مواقفه تجاه العرب في السبعينيات آخذا في الابتعاد عن مواقف المساندة الاشتراكية اللامشروطة لإسرائيل. ولئن اعتمد الحزب في برنامجه السياسي المنشور عقب تأسيسه مبدأ "حق إسرائيل في الوجود"، فهو قد أضاف إلى ذلك اعترافا بـــ"حق [حقوق] كافة الأمم الأخرى في الشرق الأوسط (كدول ذات سيادة) بما في ذلك الأمة العربيّة الفلسطينيّة التي تختار ممثليها بحرية"[22]. وتضمّن "برنامج الحكم المشترك" الذي وقِّع  في عام 1972 بين الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي الفرنسيّ والراديكاليين اليساريّين، دعوة واضحة إلى "احترام الحقوق القومية للشعب العربيّ في فلسطين"[23].

وقد سعى ميتران إلى طمأنة العرب من خلال تعيين وزراء معروفين بتعاطفهم مع القضايا العربيّة وقضايا العالم الثالث عامة، مثل ميشيل جوبير، وكلود شيسون، وميشيل روكار، وجون بيير شفينمان، إضافة إلى الوزراء الشيوعيين. وحملت تصريحات الأمين العام الجديد للحزب الاشتراكي ليونيل جوسبان رسائل التطمين ذاتها.

ومن الملاحظ أن ميتران دشّن عهده بزيارة المملكة السعودية في 26 أيلول / سبتمبر 1981، بعد زيارة قام بها الملك خالد في 13 حزيران /  يونيو 1981 إلى الإليزيه. وقد سعى ميتران أيضًا إلى تقوية العلاقات مع مجلس التعاون الخليجيّ وصولا إلى الاتفاقية التي وقعها المجلس مع الجماعة الأوروبية سنة 1988. وعلى الرغم من أنّ العلاقات لم تتطور بين المجموعتين على النحو المأمول في النصف الأول من عقد التسعينيات، فقد أقيمت العديد من المؤتمرات وورشات العمل بخصوص قضايا الطاقة والبيئة والصناعة والتدريب الإداريّ والتعليم الجامعيّ والقطاع الخاص، وغيرها من مجالات التعاون. بيد أنّ هذا لم يخفِ بعض التوتر بين الطرفين بسبب إثارة مسائل حقوق الإنسان في دول الخليج.

ولا بد من القول إنّ السياسة الفرنسيّة تجاه العرب جاءت بداية من عهد ميتران في سياق يتسم بالتحول في الموقف الأوروبيّ عامة من الصراع العربيّ- الإسرائيليّ، وهو الموقف الذي تكوّن نتيجة للحوار العربيّ- الأوروبيّ الذي عقد اجتماعه الأول في القاهرة سنة 1975، وتُوِّج بإصدار الجماعة الأوروبيّة بيان البندقية في 13 حزيران / يونيو 1980 الذي يسجل تطورا في مواقف الدول الأوروبيّة إزاء الصراع في الشرق الأوسط. ولكن أوروبا لم تنجح مع ذلك في الوساطة، وكانت فرنسا نفسها مقتنعة بأنّ أيّ مبادرة لا توافق عليها جميع الأطراف سوف تفشل.

ويرى بعض الباحثين أنّ سياسة ميتران تجاه المغرب العربيّ كانت براغماتية، وأنّه كان على العموم "متحررا من اتجاهات وميول الحزب الاشتراكي واليسار الفرنسيّ"[24] الذي بفضله أتى إلى الحكم على أساس تطبيق "البرنامج المشترك". والحقيقة أنّ ميتران خالف الرؤساء ديغول وبومبيدو وجيسكار ديستان من حيث أنّه أراد أن يُخضع سياسة فرنسا المتوسطيّة لمشروعه المعلن منذ 1975، حين دعا رؤساء الأحزاب الاشتراكية في إسبانيا والبرتغال وإيطاليا واليونان لوضع إطار مشترك للتعاون بينهم وبين جميع الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط.

كان ميتران يحاول أن يجعل سياسة فرنسا في هذه المنطقة متوازنة. فلأنه كانت تربطه علاقة جيدة بالراحل الملك الحسن الثاني، لم يؤيد استقلال الصحراء الغربيّة. وفي الوقت نفسه، حافظ على علاقة حسنة بالشاذلي بن جديد حتى استقالة -أو بالأحرى إقالة- الرئيس الجزائريّ في سنة 1992. وقد لوحظ أنّ ميتران "لم يتصل بأيّ مسؤول جزائريّ"[25] بين 1993 و1995. ولم تكن علاقته بالحبيب بورقيبة أو بخلفه زين العابدين بن علي من النوع الذي يمكن وصفه بـ"العلاقة الوطيدة"، ولم يستطع أحد إقناعه بأنّ فكرة اتحاد المغرب العربيّ -التي بدأت تتبلور في تلك الفترة- جادة، ولعله لم يكن مخطئا في ذلك. ومع ليبيا، كانت علاقات فرنسا متوترة في عهده، خاصة بسبب دخولهما كطرفين متضادين في الصراع التشاديّ.

ولم يكن نيكولا ساركوزي هو أول من فكّر في تجمعٍ لبلدان البحر المتوسط، وإنما ميتران هو من أطلق مرات عدة فكرة كان قد عبر عنها منذ سنوات، إذ دعا سنة 1983 في مراكش إلى عقد مؤتمر للدول المطلة على الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط، أي دول "المغرب الثلاث ودول أوروبا الجنوبيّة الأعضاء في الجماعة الاقتصادية الأوروبية"[26]، لبحث قضايا الأمن والتعاون الاقتصاديّ. ولكن الجزائر عارضت المقترح، ورأت أنّ حل مشكلة الصحراء الغربيّة له الأولوية. ولم يعقد أول منتدى متوسطيّ Forum Méditerranéen إلا في سنة 1988 في مرسيليا.

ولا ننسى أنّ فرنسا اشتركت خلال هذه الفترة في حرب الخليج (1991) إلى جانب الائتلاف الدوليّ بقيادة الولايات المتحدة الأميركيّة.

بيد أنّ هذا كله لا يعني أنّ سياسة فرنسا تجاه إسرائيل قد تغيرت جذريًا أو أنّ العلاقات بها قد أصيبت بالعطل في هذا العهد. فقد زار ميتران إسرائيل في آذار / مارس 1982[27]، وهو ما أحدث ردود فعلٍ سلبيّة في العالم العربيّ. وكانت فرنسا تصر على أنّ إسرائيل جزء من حوض البحر المتوسط على نحو يفرض على العرب نوعا من التطبيع.


الديغولية الجديدة والاتجاه المعاكس

في عام 1995، وصل جاك شيراك إلى قصر الإليزيه، فأراد إعطاء دفعة جديدة للسياسة الديغولية، مع ما يعنيه ذلك من استقلالية قرار، خاصة إزاء الولايات المتحدة. واتضح هذا في موقف شيراك من عدة مسائل، إذ "عدّ [...] الحوار الخيار الوحيد، وعارض عقوبات الأمم المتحدة ضد إيران"[28]، وهو اختلاف أساسيّ مع ساركوزي الذي خلفه، والتصق بالأميركيّين ملوحا بالعصا تارة وبالجزرة تارة أخرى. وكان شيراك داعمًا لفكرة ضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبيّ، إذا نظرنا إلى ما صرح به يوم 15 كانون الأول / ديسمبر 2004 في مقابلة تلفزيونيّة بأنّه "سيكون من الخطأ رفض تركيا بالنظر إلى كل الجهد الذي بذله الأتراك حتى نقبلهم"[29]. واتجه ساركوزي بعده اتجاهًا مغايرًا، من خلال توكيده في تصريحات متكررة وعلنيّة أنّه يعارض منح تركيا العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبيّ بسبب الاختلاف الثقافيّ بين بلدان الاتحاد الأوروبيّ (ذات التراث المسيحيّ) وتركيا (ذات التراث الإسلاميّ)، على الرغم من أنّه لا يعارض منحها وضعًا قانونيًّا خاصا لا يُشعرها بالإقصاء التام. ووصل الخلاف مع تركيا إلى الحد الذي أثار حفيظة الأتراك، خاصة عندما جرى تحريك المسألة الأرمنيّة في البرلمان[30]. وفيما ثارت الحكومة الإسرائيليّة ضد استقلالية شيراك ورفضه الانصياع "للتعليمات" لدى زيارته إلى القدس، رأينا ساركوزي يصرّح في تشرين الأول / أكتوبر 2007 أنّ "إسرائيل معجزة القرن العشرين"[31]. وكان ساركوزي هو أيضا من أعاد فرنسا إلى صفوف الحلف الأطلسي بعد أن غادره ديغول منذ ستينيات القرن الماضي. لقد كان ساركوزي في الواقع أكثر الرؤساء الفرنسيّين صراحة في "نزعته الأميركيّة" وفي تعاطفه الشخصيّ مع الصهيونيّة.


توقعات بشأن سياسة هولاند الخارجية: الحزب أم الدولة؟

سيستوحي هولاند خطوط سياسته الخارجيّة من مصدرين نرجِّح أن يكون لهما تأثير مهم عليه؛ الأول هو فرنسوا ميتران (أيقونة الاشتراكيين الفرنسيّين) وعهده، لأن "الميترانية" مثّلت فعلا أكبر تحوّل عرفته الجمهورية الخامسة، ولا تزال سماته وآثاره واضحة إلى الآن؛ والثاني هو الحزب الاشتراكي نفسه. وإذا كانت شخصية ميتران القوية لا تزال في خلفية المشهد الاشتراكي برمته، فإن هولاند مطالبٌ أيضًا بأن يكون رئيسًا متميزا في عصر اختلفت أوضاعه. وستكون هذه التركة ثقلًا إضافيًا عليه، إذ سيحاول ترك انطباعٍ بأنّ زعامته من أقوى الزعامات في أوروبا، وأكثرها تأثيرًا في تاريخ فرنسا الحديث. وقد ينجح في ذلك أو يخفق، بحسب إنجازاته. أما مدى تأثره بأفكار الحزب الذي رفعه إلى السلطة، فهي مسألة تقتضي بعض التوضيح.

ينبغي دائما التفريق بين مواقف الحزب الاشتراكي ومواقف الدولة الفرنسيّة، فوجود اليسار في الحكم لا يعني بالضرورة التطابق التام بين مواقف الحزب كجهاز يزعم أنّه يمثل أفكارًا وقيمًا معينة يؤمن بها منتسبوه، ومواقف الحكومة التي يفترض أن تعبّر عن مصالح الدولة الدائمة والمتجددة وليس عن مصالح حزبيّة أو عقائديّة. لكن، لا أحد ينفي وجود علاقة بين الحزب ورجال الحكم. وهذا ما يهم اليمين واليسار بأيّ حال. وللحزب هنا دورٌ حافز وداعم، وهو الدور الذي بيَّنه فرانسوا هولاند نفسه عندما كان أمينًا عامًا للحزب في عهد حكومة جوسبان الاشتراكية، إذ قال إنّ "العلاقة بين الحزب الاشتراكي والحكومة تقوم على الدعم النقدي البنّاء"[32]، بمعنى محاولة جلب الحكومة إلى مواقع أكثر ميلًا لليسار.

 ولكن السياسة الخارجيّة لا يمكن أن تقوم على المواقف والتصريحات المبدئية فحسب، إنما تخضع أيضًا لشروط موضوعيّة تشمل -من بين ما تشمل- المبادلات التجاريّة والثقافيّة والعلاقات الاقتصاديّة والماليّة، وما يتبع ذلك من اتفاقيات تعاون وفرص استثمار. وتوجه هذه السياسة عدة عناصر، منها التّزود بالنفط والطاقة، والبحث عن عقود تجهيز، وعقود مبيعات أسلحة، وتصدير أو استيراد رساميل، وصيغ أخرى من التعاون. والملاحظ أنّ الحكومات تتغير، لكن هذه المحددات للسياسة الخارجية قلما تتدخل فيها المسائل العقائدية (اليمين واليسار) لتغيّر المعطيات أو تؤثر سلبا في الجهد المبذول. فقد ظلّت البلدان الخليجيّة -مثلا- تحظى باهتمام كبير لدى حكومات اليمين واليسار على السواء. ويوجد في فرنسا اتجاه نحو إبرام عقود مباشرة مع الدول المنتجة للطاقة، كثيرا ما انتقده حلفاؤها في أوروبا وأميركا. وقد رأينا كيف تسبّب هذا الأسلوب -الذي ضمن لفرنسا عقودا مهمة في العراق- في غضب أميركا في عهد بوش. ولا يتوقع أن يتغير هذا الاتجاه كثيرا في عهد فرانسوا هولاند، على الرغم من انتقاداته اللّاذعة لسياسة سلفه الخارجيّة[33]. فمن الواضح أنّ الاشتراكيين وإن كانوا مصرّين دائما على إيلاء عناية لفكرة التضامن الدوليّ مع شعوب العالم الثالث وحركات المعارضة الديمقراطية واليساريّة أو العَلمانيّة منها بوجه خاص[34]، فإنّ ذلك لن يمنعهم من تحسين التعاون مع الأنظمة المحافظة التي لفرنسا مصالح معها لا يمكن تعطيلها من دون تعطيل العجلة الاقتصاديّة. وقد يكون ذلك أيضا لأن مفهوم الاشتراكية نفسه في أوروبا تغيّر[35]، وكان على الأحزاب الاشتراكية أن تواكب ذلك التغيير أو تقوده[36]. وخلاصة القول إنّ علاقتهم تظل جيدةً مع الأنظمة المحافظة في إطار المصالح الاقتصاديّة والسياسيّة.

ولا نتوقع أن يهتم الرئيس الاشتراكي كثيرا بالجانب الأيديولوجي في تعامله مع الخليجيّين، على الرغم من أنّ ظروف "الربيع العربي" تدعو إلى اليقظة. ولكن هذا "الربيع" لم يغير إلى حد الآن الكثير أو القليل في السياسات الخليجيّة من ناحية. ومن ناحية أخرى، هناك تقليد عريق في "كيه دورسيه" (وزارة الخارجية الفرنسية) يتمثل في الحفاظ على العلاقات مع الدول المحافظة بغض النظر عن طبيعة النظام السياسيّ. ولا يمكن القول كذلك إنّ تقاليد "كي دورسيه" المهنيّة التي تعود إلى الكاردينال ريشليو (1585-1642) تتغير، حتى وإن أتى ساكن الإليزيه من يسار الحزب الاشتراكي.

وكمثال، نذكر أنّه في عام 1970 "كانت فرنسا تجلب وارداتها النفطية مناصفة من بلدان المغرب العربيّ ودول المشرق"[37]. ولم تمض سنوات حتى كانت السعودية والإمارات العربيّة وقطر والعراق تزود فرنسا بأكثر من ثلاثة أرباع احتياجاتها، مقابل 6.1% من ليبيا والجزائر[38]. وحين أتى الاشتراكيون إلى الحكم في عام 1981، لم يغيّروا شيئًا من هذا الواقع، بل دعموا ارتباطات فرنسا ببلدان الخليج، فكانت أول أسفار ميتران زيارةٌ قام بها إلى السعودية. وإذا كان النّفط أهم واردات فرنسا من العالم العربيّ، فإنّ الأسلحة هي أهم صادراتها إليه، بنسبة 60% تقريبا من إنتاجها[39]. وقد اهتمت فرنسا أيضا بإعادة امتصاص جزء من فائض عائدات النفط لدى البلدان العربيّة المصدرة، عن طريق تأسيس البنوك المشتركة أو جلب الممولين الخليجيّين إلى المساهمة في البنوك الفرنسيّة. واعتمدت هذه السياسة على ما يسمى بالعمليات الثلاثيّة المتمثلة في المعادلة التالية: تكنولوجيا فرنسية + رساميل نفطيّة + يد عاملة رخيصة من البلدان العربيّة غير النفطيّة. ولا نتوقع أن يغير فرانسوا هولاند هذه السياسة.

وفي هذا السياق، نجد السيد هوبير فيدرين[40]، يؤكد أنّ الرئيس فرانسوا هولاند سيحافظ على "الديغولو - ميترانية"، التي هي -في نظره- "ببساطة خط الجمهورية الخامسة". ويعرّفها بأنّها "الواقعية التي تطورت باطراد مع تطور العالم، مع بقائها مؤسسةً على فكرة أنّ فرنسا ينبغي أن يكون لها سياستها الخارجيّة المتميزة"[41]. والنقطة الأساسية هنا تتعلق بوعد فرانسوا هولاند -المشمول في برنامجه الانتخابي- بدعم الاعتراف الدوليّ بدولة فلسطينيّة مستقلة[42]، وهو ما اختلف به تماما عن نيكولا ساركوزي الذي لم يلتزم بشيء من هذا النوع. ويمكن القول -بناء على ذلك- إنّ فرنسا ترغب في أن يكون لها دور في الشرق الأوسط، ويهمها تفعيل الصوت الأوروبيّ الذي اختفى تقريبا منذ تجميد عملية السلام. ولكن ذلك منوط أيضا باستجابة الأطراف الأخرى، وفي مقدمتها إسرائيل التي تقودها حكومة تختلف أيديولوجيا مع تفكير الاشتراكيين الفرنسيّين، في الوقت الذي سيكون فيه التفاعل أكبر مع الديمقراطيين في أميركا إذا استمروا في الحكم. ونتصور أنّ فرانسوا هولاند سيواصل سياسة ميتران التي بيَّن خطوطها العريضة سنة 1982 في خطاب توقع فيه قيام دولة فلسطينيّة مستقلة[43].

ونرجِّح أيضا أن تراجع فرنسا في عهد هولاند علاقاتها بالدول الإفريقيّة، بما فيها مصر والسودان والمغرب العربيّ، وهذا أيضا ما تحدث عنه الرئيس الاشتراكي في حملته الانتخابية. ومن المتوقع بذلك -في زمن "الربيع العربي"- أن ينأى هولاند بفرنسا عن الخيارات الملتصقة بما سماه ساركوزي "مركزية القيم اليهوديّة-المسيحيّة" التي وصفها بأنّها "سياسة الحضارة"[44]، وأن يعيد التأكيد في المقابل على القيم الجمهوريّة العَلمانيّة والوسطيّة المتنورة والتقدميّة المتسامحة في تعامله مع البلدان التي وقعت فيها ثورات أتت بإسلاميّين إلى الحكم. وليس هناك ما يؤكد أنّ "فرنسا غيرت مركز اهتمامها من أفريقيا ما تحت الصحراء إلى القرن الإفريقيّ والخليج الفارسيّ [العربيّ]"[45]، كما يرى البعض. ولا يمكن أن يعدّ إغلاق قاعدة عسكريّة فرنسيّة في السنغال وفتح أخرى في أبو ظبي دليلا على مثل هذا التحول. فلا تزال أفريقيا تحت الصحراء تنال اهتمام الدبلوماسية الفرنسيّة التي تعدها مركزًا تقليديًا لنفوذ فرنسا السياسيّ وإشعاعها الثقافيّ، وهو ما لا يمنع فرنسا طبعا من الاهتمام ببلدان ومناطق أخرى كانت إلى حد الآن معقلا للّغة الإنجليزية، مثل ليبيا والعراق ودول الخليج (مجلس التعاون). وإحدى وسائل الدبلوماسية الفرنسيّة التي تحظى بتفضيل خاص لدى الاشتراكيين -كما لوحظ- "التعاون مع العالم الثالث الذي يغطّي تقديم المساعدة والخبرة الفنية"[46]. وهذا أيضا ما يتوقع أن يدعمه الرئيس هولاند. وهو بالقطع يتضمّن مساعداتٍ إلى دول أفريقية فقيرة وليس إلى دولٍ بتروليّة غنية.

ومن المرجّح كذلك أن يعيد هولاند النّظر في العلاقة مع تركيا التي أفسدها ساركوزي. أما بالنسبة إلى إيران، فالوضع أكثر دقة يصعب التنبؤ بشأنه، ولكن الاشتراكيين لن يكونوا من دعاة استعمال القوة كسلفهم ساركوزي. وقد لوحظ وصول الزعيم الاشتراكي ميشيل روكار إلى طهران بعيد انتخاب هولاند، في زيارة حاول الإيرانيون استغلالها[47] إعلاميًّا بوصفها "انفتاحا" أو فاتحةً لعهد جديد معهم، فيما أدانها اليمين الفرنسيّ[48]، في وقت فتح فيه نقاش عما إذا كان روكار مفوضًا من هولاند أم لا. والواقع أنّ الموقف الفرنسيّ قد لا ينأى كثيرا عن موقف الحلفاء الغربيّين- خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا - الذين يصرّون على الضغط على إيران لجعلها تتجاوب مع مطالبهم.

وإجمالًا، لا نتوقع تغييرات مهمّة في المدى القريب والمتوسط، إلا في ما يهمّ أسلوب العمل ربما. فللاشتراكيين ميولهم، وهم لا يخفونها. ومهما كان الجهاز البيروقراطي ثقيلا، فهم سيحاولون جعله يتلاءم مع ما يريدون. ذلك أنّ للسياسة أحيانا مقتضياتها، وليست الدبلوماسية سوى خادمة لها.


 

[1] انظر: "صوت فرنسا اختفى من العالم"، وهي مقالة نشرتها "مجموعة مارلي" التي تضم عددا من الدبلوماسيين الفرنسيين في جريدة "لوموند" يوم 22 فبراير/شباط 2011، انتقدت فيها بشدة سياسة ساركوزي التي "احتقرت" الدبلوماسيين، و"جعلت فرنسا تابعة للولايات المتحدة"، وأفقدتها صوتها في العالم.

 http://www.lemonde.fr/idees/article/2011/02/22/on-ne-s-improvise-pas-diplomate_1483517_3232.html

[2] انظر عن هذا الموضوع:

Isabelle Le Breton-Falezan, "Dimensions internationals des campagnes présidentielles sous la Vème république," Annuaire français de relations internationales, Vol. 2 (2001):

http://www.diplomatie.gouv.fr/fr/IMG/pdf/FD001363.pdf

[3] المصدر نفسه.

[4] من الملاحظ أنّ الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق ساندا حملة جيسكار ديستان ضد منافسه فرانسوا ميتران، كل لأسبابه الخاصة. للمزيد عن هذا الموضوع، انظر: Isabelle Le Breton-Falezan, Op.Cit..

[5] المصدر نفسه.

[6] المصدر نفسه.

[7] الدول السبع هي: إسرائيل ومصر وسورية والأردن والعراق والسعودية والكويت. انظر: بوقنطار الحسان، السياسة الخارجية الفرنسية إزاء الوطن العربي منذ عام 1967 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1987)، ص 45.

[8] علي محافظة، فرنسا والوحدة العربية 1945-2000 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2008)، ص 270.

[9] المصدر نفسه، ص 271.

[10] علي محافظة، مصدر سبق ذكره، ص 272-273.

[11] المصدر نفسه، ص: 275.

[12] المصدر نفسه، ص: 279.

[13] بوقنطار الحسان، مصدر سبق ذكره، ص 64.

[14] المصدر نفسه.

[15] علي محافظة، مصدر سبق ذكره، ص 284.

[16] ما يميز هذا الاتجاه لدى ميتران هو "التعاطف مع القوى التقدميّة في الجنوب"، على حد تعبير الباحثة إيزابيل لوبروتون فالزان التي تضيف قائلة: "إن هذه النزعة الأممية الجديدة كانت توحي إذًا بـ'طريق ثالثة‘، مع ميل لمناهضة السوفيات يوصف بأنّه أقل فضاضة مما كان عليه في الولايات المتحدة". للمزيد عن هذا الموضوع، انظر:

Isabelle Le Breton-Falezan, Op.Cit.

[17] كانت هناك شكوك كثيرة حول ميل ميتران إلى إسرائيل وتفضيلها على العرب. ولكن لا واشنطن ولا موسكو دعمتا حملته، كما تقول فالزان، Isabelle Le Breton-Falezan, Op.Cit.

[18] Jean-Pierre Filiu, "Mitterrand et la Palestine », Institut François Mitterrand, La Lettre No 15 (24 avril 2006).

[19] Le Nouvel Observateur, 25-11-1974.

[20] المصدر نفسه.

[21] كان ليون بلوم أحد زعماء الاشتراكيين في فرنسا ثلاثينيات القرن العشرين حليفا لحاييم وايزمان. أما الزعيم الاشتراكي غي مولليه فقد كان رئيس الحكومة التي خاضت حرب السويس إلى جانب إسرائيل وبريطانيا. وبعد عدوان 1967، عبّرت شخصيات اشتراكية فرنسيّة عن تعاطفها مع إسرائيل، ونذكر هنا بالخصوص: غي موليه، وغاستون ديفير، وفرانسوا ميتران، ومنديس فرانس. انظر عن هذا الموضوع: بوقنطار الحسان، مصدر سبق ذكره، ص 74-75.

[22] المصدر نفسه، ص 77.

[23]  المصدر نفسه، ص 78.

[24] محافظة، مصدر سبق ذكره، ص 313.

[25] المصدر نفسه.

[26] المصدر نفسه.

[27] انظر: "الملف الفلسطيني للحزب الاشتراكي وزيارة ميتران لإسرائيل"، مجلة دراسات فلسطينية، عدد 4 (صيف 1982)، ص 167-177.  وأيضا: بوقنطار حسان، مصدر سبق ذكره، ص 85 -86.

[28] Tsilla Hershco, "Sarkozy's Policy in the Middle-East: A Break with the Past?", Insight Turkey , Vol. 11, No. 2 (2009), pp. 75-91.

[29] المصدر نفسه.

[30] كتبت العديد من التعليقات عن هذا الموضوع في الصحافة الفرنسية. انظر مثلا:

Laure Marchand, "Sarkozy prend la Turquie pour un punching-ball", Le Nouvel Observateur, 22-12-2011.

http://tempsreel.nouvelobs.com/monde/20111222.OBS7400/sarkozy-prend-la-turquie-pour-un-punching-ball.html

[31] المصدر نفسه.

[32] Robert Ladrech, "Europeanization and French social democracy", Journal of Southern Europe and the Balkans, Vol. 3, No. 1(2000).

[33] Interview With French Presidential Front-Runner François Hollande, By BRUCE CRUMLEY, TIME, April 13, 2012:

http://globalspin.blogs.time.com/2012/04/13/time-interviews-french-presidential-front-runner-francois-hollande/

[34] لقد بيّن دونالد ساسون في كتابه الذي أرخ فيه لمئة سنة من الاشتراكية كيف كان أصعب شيء بالنسبة إلى اليسار في فرنسا وفي أغلب بلدان أوروبا الغربية هو أن ينشئ سياسته الخارجيّة الخاصة. ومن الواضح أنّ هذا التردد والمراوحة بين أيديولوجية اليسار النضاليّة ومتطلبات مصالح الدولة، هو ما جعل فرانسوا ميتران ينصت في الوقت نفسه إلى ريجيس دبريه الذي ناضل مع جيفارا في بوليفيا، وجاك آتالي النخبوي المتحذلق. وقد وصفت سياساته بالماكيافيلية. وهو لم يرفض فكرة ديغول عن دور فرنسا في العالم، بل كرّسها تماما، في حين أنّه قضّى حياته مكافحا ضد ديغول. للمزيد عن الاشتراكيين الفرنسييّن، انظر:

Donald Sassoon, One Hundred Years of Socialism: The West European Left in the Twentieth Century (N.Y.: I.B.Tauris, 2010), 534-571.

[35] عن التغيرات في أوروبا وتطور الحزب الاشتراكي الفرنسيّ تبعا لذلك، يراجع مثلا:

.Robert Ladrech, Op.Cit

[36] لاحظ آلان تورين مثلا في 1985 أنّ "فرنسا انتخبت حكومة اشتراكية في الوقت الذي بدأ فيه عهد ما بعد الاشتراكية". المصدر السابق، ص 568.

[37] بوقنطار الحسان، مصدر سبق ذكره، ص 125.

[38] المصدر نفسه.

[39] المصدر نفسه، ص 129.

[40] شغل السيد هوبير فيدرين منصب مستشار الرئيس فرانسوا ميتران للشؤون الخارجيّة، وكان السكرتير العام للرئيس بين 1991 و1995، ثم عيِّن وزير خارجيّة في حكومة ليونيل جوسبين من 1997 إلى 2002. وهو من أفضل من يعرفون السياسة الخارجيّة الفرنسيّة.

[41] Hubert Vedrine :"François Hollande a beaucoup de cartes en main, libération, 10-05-2012:

http://www.hubertvedrine.net/index.php?id_article=581

[42] انظر وثيقة "الالتزامات الستون" لفرانسوا هولاند، وهي برنامج عمله المقترح، على موقعه على الإنترنت:

http://fh2012.francoishollande.fr/les-60-engagements-du-projet/

[43] على إثر لقائه في باريس مع محمود عباس في بدايات حزيران / يونيو 2012، أكد الرئيس فرانسوا هولاند على ضرورة إحياء عملية ال//سلام، وعلى تأييده الاعتراف بدولة فلسطينيّة عبر التفاوض. انظر: "فرانسوا هولاند يأمل في تسهيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية"، فرانس 24، 8/6/2012:

http://www.france24.com/ar/20120608

[44] انظر عن هذا الموضوع وخيارات ساركوزي وسياسته الخارجية مثلا:

Tsilla Hershco, Op. Cit., pp. 75-91

[45] Brinton Rowdybush, and Patrick Chamorel, "Aspirations and Reality: French Foreign Policy and the 2012 Elections", The Washington Quarterly, Winter 2012.

[46] المرجع نفسه.

[47] "Michel Rocard à Téhéran, émissaire de Hollande selon les journaux iraniens", Nouvelles d'Iran,16-05-2012:

 http://keyhani.blog.lemonde.fr/2012/05/16/rocard-a-teheran-lemissaire-dhollande-selon-les-journaux-iraniens/

[48] « L'UMP dénonce le "déplacement inopportun" de Rocard en Iran », Le Monde,13-05-2012:

http://www.lemonde.fr/proche-orient/article/2012/05/13/l-iran-deroule-le-tapis-rouge-pour-michel-rocard_1700511_3218.html