مقدمة
اندلعت في نهاية حزيران/ يونيو 2023، موجة احتجاجات عنيفة في ضواحي المدن الفرنسية الكبرى، بعد مقتل الفتى ناهل المرزوقي، البالغ من العمر 17 عامًا والمولود في فرنسا من أصل جزائري، على يد عنصر من الشرطة السيّارة الفرنسية كان يحاول منعه من الاستمرار بقيادة سيارة مستأجرة في ضاحية "نانتير"؛ لأنه لا يحمل شهادة سوق تخوّله القيادة. وقد انتشرت الاحتجاجات في غالبية الضواحي التي تتميّز بمستوى اقتصادي متدنٍ وخدمات عامة محدودة ومؤسسات تعليمية ضعيفة، ويقطنها عدد كبير من العائلات ذات الأصول المهاجرة من شمال أفريقيا وجنوب الصحراء. وتمخّضت عن هذه الاحتجاجات أعمال عنف، حيث اشتبك فتيان هذه الضواحي القُصّر وشبابها مع رجال الشرطة وقوات الدرك، وأضرم بعض المحتجين النار بالمؤسسات العامة والمدارس والمكتبات العامة ومقرّات البلديات وسواها من مراكز لأجهزة تُقدّم الخدمات المحدودة الموجودة في الضواحي، مثل باصات النقل العام. كما استهدف المحتجون أيضًا مقرّات الشرطة بأدوات حارقة وخطرة تستخدم عادة في الألعاب النارية، ويمكن شراؤها بسهولة عن طريق الإنترنت. وشهدت الاحتجاجات أيضًا عمليات سطو على محتويات محلات تجارية منوعة، وأُضرمت النار في بعضها. وقد استمرت الاحتجاجات والمواجهات أكثر من أسبوع؛ ما أدّى إلى تعزيز الوجود الأمني في المناطق الحساسة، وتفعيل عمل القضاء المستعجل، الذي أصدر أحكامًا صارمة بمن جرى اعتقالهم من المحتجين المتلبسين، خصوصًا من سرق منهم المخازن وحرق المؤسسات الخدمية.
لا يُعدّ إطلاق النار من أجهزة الأمن نتيجة عدم الامتثال لأوامر التوقف أمرًا غير مألوف في فرنسا، فقد جرى تسجيل أكثر من 21 حالة قتل بعد إطلاق الشرطة النار منذ بداية عام 2023 في أثر رفض سائقين التوقف. لكن الحادثة الأخيرة أثارت ردات فعل واسعة لأنها صُورت ونُقلت عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وغالبًا ما مرّت الحوادث السابقة مرور الكرام، على الرغم من فتح تحقيقات بملابساتها، إذ تؤكد الشرطة في تقاريرها أن عناصرها يتعرّضون للهجوم في نقاط التفتيش الروتينية عند محاولاتهم تطبيق القانون، وبخاصة تجاه السائقين المخالفين؛ ما يدفعهم إلى استخدام الرصاص الحيّ دفاعًا عن النفس. لقد أدى الشريط المصور الذي انتشر لهذه الواقعة هذه المرة إلى إثارة موجة من الغضب الشعبي في الضواحي المهمّشة والفقيرة. يتنامى الشعور في هذه الضواحي لدى الشبان بالتمييز الذي يتعرضون له، ليس على مستوى التعليم والتشغيل والحياة الثقافية والرياضية فحسب، بل أيضًا على مستوى تعامل أجهزة الدولة ومؤسساتها، خصوصًا الشرطة، معهم.
عاد الجدل في الدوائر السياسية والإعلامية وبين النخب الثقافية، بعد موجة الاحتجاجات الأخيرة، حول السياقات الأوسع للحادث؛ أي قضايا الهجرة والاندماج والتمييز وانعدام الفرص والنقص في الخدمات، وصولًا إلى مسألتي الهوية والانتماء. وهذه قضايا ما فتئت فرنسا تستعيدها دوريًا، بوصفها مؤشرًا على فشل بنيوي في السياسات العامة، وفي الإدارة المجتمعية والتربوية والأمنية.