العنوان هنا
تقدير موقف 21 مارس ، 2014

القيادة الفلسطينية وموقفها من بعث ثورة دحلان المضادة

الكلمات المفتاحية

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

فجَّرت كلمة الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس التي هاجم فيها القيادي المفصول من حركة فتح ورئيس جهاز الأمن الوقائي في قطاع غزة سابقًا محمد دحلان، معركةً بين جناحين برزا للمرّة الأولى إعلاميًّا في حركة فتح مع انتخاب محمود عباس رئيسًا للسلطة الفلسطينيّة عام 2005.

 في الحادي عشر من شهر آذار / مارس الجاري بثَّت الفضائيّة الفلسطينيّة كلمة الرئيس عباس ضِمن أعمال الدورة الثالثة عشرة للمجلس الثوري لحركة فتح، بحضور جميع قيادات الصفّ الأوّل الفتحاوي. وتضمَّن خطاب عبّاس اتهاماتٍ خطِرةً موجهةً إلى دحلان؛ تبدأ بالخيانة والتورُّط في اغتيال ياسر عرفات، وتصل إلى القتل، والفساد، والاستقواء بجهات دوليّة وإقليميّة، ومحاولة تهديد وحدة حركة فتح.

وفي المقابل ردّ محمد دحلان على اتهامات عبّاس في مقابلة مطوّلة على قناة دريم 2 المصريّة (وهو أمرٌ لا يخلو من الدلالة)، واتَّهم الرئيس الفلسطيني بتقويض القضيَّة الفلسطينيّة وحركة فتح بديكتاتوريته، والتورّط في الفساد المالي والمؤسساتي، وقد جاءت مقابلة دحلان وسط محاولات حشدٍ، في الشارع، لأنصار حركة فتح الرسميّة من جهة، وأنصار حركة فتح - دحلان التي يتركَّز نفوذها بقطاع غزة في مواجهة حماس، وفي عددٍ من مخيّمات اللاجئين في الضفّة الغربيّة من جهة أخرى.

هذه الأزمة الداخليّة ليست هي الأزمة الأولى التي تواجهها حركة فتح منذ تولِّي محمود عباس رئاسة السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية؛ فلطالما زخرت الساحة الفلسطينيّة بالتناقضات بين أبناء الفصيلة الواحدة، إلا أنّ أهميتها تنبع من ارتباط أحد أطرافها - على الأقل - بشبكة علاقات إقليميّة ودوليّة واسعة منذ الخلاف الشهير بين "أبو عمّار" و"أبو مازن" في بداية الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية، ومحاولة دحلان الانقلاب على عرفات في العام الأخير من حصاره، وهي المحاولة التي أحبطها موسى عرفات، ودفع حياته ثمنًا لها، على يد القوى التي أحبط انقلابها، وذلك بعد اغتيال "أبو عمار".


عبّاس ودحلان: من التحالف إلى العداء

 تكاد بنية الفصائل الفلسطينيّة المختلفة تتطابق مع الجغرافية السياسيّة الفلسطينيّة المتشظية بفعل الاحتلال الإسرائيلي والتهجير؛ لذلك كان من الطبيعيّ أن تتباين الآراء والمواقف بين الفصائل الفلسطينيّة المختلفة، بل كان من الطبيعيّ، أيضًا، أن تمتدّ إلى داخل الفصيلة الواحدة. وكانت حركة فتح، بوصفها أكبر حاضنة سياسيّة لاتجاهاتٍ اجتماعيّة ومناطقيّة فلسطينية مختلفة، عرضةً لأزمات داخليّة متكررة منذ انطلاقتها.

لكنّ عوامل عديدةً أدَّت دورًا مهمًّا في الحفاظ على وحدة الحركة، من بينها الاستقلاليّة عن الأنظمة العربيّة، وتاريخها النضاليّ، إضافةً إلى تحقيق توازن نسبيٍّ في توزيع المصالح والوظائف داخلها. كما أنّ ياسر عرفات أدَّى دورًا مهمًّا في الحفاظ على تماسك الحركة، بالنظر إلى براعته في إدارة تناقضاتها، وإنشاء توازن دقيق بين مراكز القوى والشبكات المختلفة داخلها. وكان ذلك هو الذي أنقذها من أكبر انشقاقٍ تاريخيٍّ فيها، سنة 1983، بقيادة "أبو موسى"، و"أبو خالد العملة" الذي دعمه النظام السوريّ.

ولكن بعد توقيع اتفاقيّة أوسلو، وتأسيس السلطة الفلسطينيّة سنة 1994 وتحوّل حركة فتح إلى ما يشبه الحزب الحاكم، دعت أصوات من داخل الحركة إلى التخلّص من "نهج التفرُّد والشخصنة" في إدارة السلطة، والتحوُّل إلى المؤسساتيّة ومحاربة الفساد. وكان المقصود، في ذلك الوقت، احتكار ياسر عرفات المفاصل المختلفة للسلطة.

وسرعان ما أخذت هذه الأصوات تتبلور بوصفها تيّارًا تزعّمه محمود عبّاس، أحد المؤسِّسين، وعدد من قيادات الجيل الثاني، أبرزهم محمد دحلان؛ وذلك بعد تفاقم الخلاف مع عرفات بسبب دعمه الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية، وعدم "مثابرته" في مسيرة الحل السياسي. واستمرَّ الخلاف مع اجتياح إسرائيل عدَّة مدن فلسطينيّة، وحصار ياسر عرفات في مقرّ إقامته، بتغطية سياسيّة من إدارة جورج بوش الابن أعطت، في كانون الثاني / يناير 2002، "الضوء الأخضر" للتخلص نهائيًّا من عرفات.

وعلى الرغم من أنَّ تيّار عباس- دحلان استطاع عبر الاستقواء بالسياسة الأميركيّة إجبار عرفات على استحداث منصبٍ لرئاسة الوزراء ذي صلاحيات كاملة، تدخُل ضِمنه الأجهزة الأمنية، فإنّ عرفات عاد وفرَّغ هذا المنصب من مضمونه، بعد قراره إلحاق الأجهزة الأمنيّة بمؤسسة الرئاسة؛ ما أدَّى إلى استقالة "أبو مازن" من منصب رئاسة الوزراء. والمفارقة أنّ هذا السبب بالتحديد هو ما فجَّر الأزمة مع حركة حماس التي فازت بالانتخابات التشريعيّة عام 2006، فما فعله عرفات مع "أبو مازن"، فعله "أبو مازن" مع الحكومة الجديدة برئاسة إسماعيل هنية؛ إذ سحب مسؤولية الأجهزة الأمنيّة من رئاسة الحكومة وألحقها بمؤسسة الرئاسة.

حاول عبّاس بعد انتخابه رئيسًا أن يطبّق برنامجه الذي كان قد رفعه شعارًا، والذي يقضي بإعادة مأسسة السلطة الفلسطينيّة، وعلى الرغم من اعتراض أوساط من حركة فتح على التنافس مع حماس في الانتخابات التشريعيّة؛ بسبب الفوضى الداخلية التي عانتها الحركة إبَّان انتفاضة الأقصى، فإنّه غامر بالذهاب ظنًّا منه أنَّ ذلك سوف يؤدِّي إلى احتواء حركة حماس في السلطة الفلسطينيّة تحت قيادة فتح. ولكنَّ فوز حماس في الانتخابات فتحَ مسارًا آخر من الصراع العنيف، وانتهى إلى انقسام جغرافيٍّ - سياسيٍّ.

في مثل هذه الأوضاع نشأ التحالف مع دحلان، بصفته مموّلًا لعدد كبير من الميليشيات المسلّحة ومسؤولًا عنها، وصاحب علاقات أمنيّة ومالية واسعة بأجهزة الاستخبارات في إسرائيل، وبأنظمةٍ عربيّةٍ (اشتهر بعلاقته بسيف الإسلام القذّافي، ومصادقته رجل الأعمال المصريّ نجيب ساويرس)، وبعصابات تهريب الأسلحة والمخدّرات. فخلال صراعه مع عرفات قدَّم دحلان- لأهدافٍ خاصَّة به - دعمًا لعباس، وإن على نحوٍ محدود[1]؛ وذلك حين قاد بنفسه تظاهرات في قطاع غزّة تندِّد بسياسات عرفات. كما أنّ محمود عبّاس احتاج إلى التحالف مع دحلان ليستقرَّ حكمُه في المرحلة الأولى من تقلّده منصب الرئاسة، وسط فوضى شديدة في تنظيم حركة فتح. ثمَّ إنه احتاج إليه أيضًا، هو وغيره، في الصراع مع حركة حماس بعد فوزها في الانتخابات التشريعية، وبعد تنامي نفوذها السياسيّ والعسكريّ.

وكان عباس، على الرغم من ذلك، مدركًا لخطورة تنامي نفوذ التيّار الدحلاني في حركة فتح، متوجِّسًا بفساده المالي وعلاقاته المشبوهة بإسرائيل، فاستغل أوضاع المواجهة مع حماس، وتراجع قوة دحلان مع فشله وهربه من غزة للتخلّص منه، بوصفه أكبر مركز قوّة يمكن أن يهدّد موقعه رئاسته لحركة فتح، وللسلطة الفلسطينيّة، وفي كلّ الأحوال لم يكن وجود شخصيّة تمتلك كلّ تلك العلاقات المشبوهة بأنظمة عربيّة، وأجهزة استخبارات إسرائيليّة وأميركيّة، إضافةً إلى شبكة علاقات مع مافيات عابرة للحدود، أمرًا مريحًا.

في حزيران / يونيو 2007 انتهت المواجهات بين ميليشيات دحلان وكتائب القسّام بسيطرة حماس على غزّة، وبإخضاع ميليشياته ونزع سلاحها؛ فَفَقَد دحلان أهميته على الأرض، وبعد ذلك عمد الرئيس الفلسطينيّ إلى إقصائه تدريجيًّا، إلى أن قرَّرت اللجنة المركزية لحركة فتح، في حزيران/ يونيو 2011، فصْل دحلان وإنهاء أيّ علاقة رسمية له بالحركة.

وقد صاحبت قرارَ طرد دحلان حملةٌ منظّمةٌ لقطْع التمويل عن القطاعات الفتحاويّة الموالية له في غزّة، في حين ترك عبّاس لحركة حماس استئصال من تبقى من أنصار دحلان في قطاع غزة وملاحقتهم، وتولّت أجهزة الأمن الفلسطينيّة اجتثاث أغلب منابره من مدن الضفّة الغربيّة ومطاردة أنصاره.

في هذه المرحلة أصبح دحلان مستعدًّا للتقاطع مع أيِّ معارضة ضدّ محمود عباس، فأجرى اتصالات غير مجدية حتى مع حركة حماس. ومع أنه كان يؤيِّد منح إسرائيل مزيدًا من التنازلات، فإنَّه صار مستعدًّا للمزايدة في الاعتراض على أوسلو. وبحسب جمهور المستمعين، أصبح مهزومًا منبوذًا في آن واحدٍ.

هكذا انتهت ظاهرة دحلان في فلسطين، وهو الذي تدرَّب على أيدي جهاز "MI6" طوال أشهر في لندن، ولكنّ إقامته في دبي، وعلاقاته بالإمارات العربية المتحدة، واندلاع الثورات العربيّة، كلّها عوامل سوف تفتح له فرصةً أخرى لإعادة تفعيل علاقاته الأمنيّة والاقتصاديّة على مستوىً جديد؛ وذلك من خلال ركوبه موجة الثورة المضادَّة.


من الدور الاستخباراتي الميليشياوي في السياسة الفلسطينية إلى الدور المضادّ للثورة

يمكن إدراج ظاهرة محمد دحلان من خلال فهم السياق المتصدّع للنظام الإقليمي العربي. فلقد سمح انهيار بعض الأنظمة العربيّة، أو انكفاء أجهزتها الاستخباراتيّة إلى الداخل (مصر وسوريّة وليبيا تحديدًا)، ببروز هامشٍ للمجموعات المنظمة والعابرة للحدود يُتيح لها أداء أدوارٍ يغلب عليها الطابع الربحيّ بوجهٍ عامّ، لكنّها قد تأخذ في العالم العربي أدوارًا سياسيّةً، وخصوصًا مع صعود حملة منظمة ترعاها دول متضررة من الثورات العربيّة، بقيادة السعوديّة والإمارات.

لا تتعدى الظاهرة الدحلانيّة هذا السياق، وإنّ ما يغذِّيها، ويغذِّي غيرها أيضًا، فراغ القوّة الذي نشأ عن انشغال الدول بصراعاتها الداخلية، وعندئذٍ تصبح هذه العصابات مفيدةً بالنسبة إلى مراكز قوى الأنظمة التي تجد في الديمقراطيّة تهديدًا لها، فتقوم بخدماتٍ وأدوار تهدف، أساسًا، إلى إحداث الفوضى في المجتمعات العربيّة، ونزع الاستقرار؛ ما يخلق مناخاتٍ معاديةً لفكرة الثورات العربيّة والديمقراطيّة، ولذلك ليس غريبًا أن تكون لهذه التشكيلات علاقات واسعة تتعدَّى أجهزة الاستخبارات العربيّة والأجنبيّة الراعية لها. بل إنَّها تصل، أيضًا، إلى تمويل شبكة من المنظمات غير الحكومية، والأحزاب، والجماعات الرسميّة وغير الرسميّة، ورجال الأعمال، ووسائل الإعلام الحكوميّة والخاصّة، وفق "منطق" واحد هو "المال يستطيع أن يفعل أيَّ شيء".

وفي هذا السياق تمكّن محمد دحلان برعاية إماراتيّة من توسيع شبكة علاقاته، لتشمل جماعاتٍ سلفيّةً (في قطاع غزّة، وسيناء)، كان لها دور أساسي في نشوء النزاع في شبه جزيرة سيناء، وفي استهداف الجيش المصريّ. وتعمل هذه الجماعات أيضًا على توريط قطاع غزّة في معارك مع إسرائيل؛ من خلال ما يُعرف باسم "الصواريخ المموّلة"، التي لا تندرج تحت إستراتيجيّة المقاومة، بل تهدف – على عكس ذلك - إلى إرباك المقاومة، وتوريطها في معارك ليست جاهزةً لها.

وبرفعه شعار معاداة جماعة الإخوان المسلمين التي تكنّ لها دول عربيّة مثل الإمارات والسعوديّة عداءً شديدًا، استطاع دحلان الإشراف على تنظيم علاقات إماراتية برجال أعمال مصريين، ووسائل إعلامٍ مصريّة خاصةً، ورؤساء تحرير صحفٍ مصريّة؛ وذلك من خلال الاستخبارات المصريّة. واستندت هذه العلاقات إلى وكالات الدعاية التي تشكّل غطاءً لضخّ أموال النفط، وعمدت إلى استغلال التناقضات الداخليّة بين الإسلاميين والعلمانيين (وهي تناقضات طبيعيّة كان من الممكن استيعابها عبْر العمليّة الديمقراطيّة)؛ من أجل دفع المتخاصمين إلى المواجهة، بإمطار المجال الإعلامي بعدد كثير من الإشاعات. وقد ساهمت هذه المساعي - إضافةً إلى عوامل أخرى - في تجهيز المناخ لانقلاب عسكري، وهو ما حدث في 3 تموز/ يوليو 2013.

عزَّز نجاح الانقلاب العسكريّ وما رافقه، موجة الكراهية تجاه الإسلاميين بوجهٍ عامٍّ، وتجاه الإخوان المسلمين بوجهٍ خاصٍّ؛ وذلك من موقع "الدحلانيّة" ونفوذها. وقد ظهر محمد دحلان في لقائه على قناة دريم 2 المصريّة مصوّرًا نفسه بطلَ الإطاحة بالإخوان المسلمين، ومن يطَّلع على تفاصيل حراك أصحاب رؤوس الأموال في مصر - بمن فيهم ضبّاط كبار من الجيش المصريّ - يدرك مدى انكباب رجال الأعمال على نسْج علاقات اقتصاديّة بشركات إماراتيّة.

وبالنسبة إلى الموضوع الفلسطينيّ، فإنه ما كان لعودة نفوذ محمد دحلان، واستفادته من التناقضات بين الدول العربيّة، أن تمثّلَا أيَّ مشكلة لقيادة حركة فتح التي استفادت أصلًا من عزل الرئيس المصريّ محمد مرسي. ولكنَّ استثمار دحلان لهذا النفوذ للضغط على "أبو مازن" عبر النظام المصريّ الجديد لضمان عودته شريكًا في المؤسسة الفلسطينيّة، أثارت غضب الرئيس الفلسطينيّ، كما أثارت اضافة إلى ذلك محاولاته استغلال قطاعات فتحاويّة ناقمة على التهميش الرسميّ في قطاع غزة، حساسية حركة فتح التي تَعُدُّ استقلاليتها عن الأنظمة، واستقلالية قرارها، من الخطوط الحمراء التي لا يمكن المساس بها. وممَّا زاد محمود عباس غضبًا، ضغْط قيادة الإمارات عليه ضغطًا مباشرًا لفرْض دحلان نائبًا له.

من ثمَّة تفجّرت من جديد أزمة كان من المفترض أنّها طُوِيَت منذ ثلاث سنين، والأخطر من ذلك أنَّ دحلان يعود هذه المرة كـ "رأس حربة" لقوى الثورة المضادة؛ أي إنّ عودته تأتي في سياق مشروعٍ إقليميٍّ يهدف إلى إعادة ترتيب المنطقة.


حركة فتح والقضية الفلسطينية

تستعدّ حركة فتح لخوض معركة جديدة تحافظ فيها على وحدتها، وعلى استقلاليّة قرارها، وعلى بنيتها المؤسساتيّة، وهو ما حرص عليه الرئيس الفلسطينيّ في اجتماع المجلس الثوريّ الأخير؛ ذلك أنّ الكاميرات استعرضت أغلب قيادات الصفِّ الأوّل الفتحاوي، وهو ما يُوجِّه رسالةً واضحةً رافضةً للضغوط الإقليميّة الجارية رفضًا قطعيًّا؛ فالقيادة الفلسطينيّة تُدرك جيّدًا أنّ السماح للقوى الإقليميّة بالتدّخل في صوْغ شكْل المؤسسة الفلسطينيّة يعني، عاجلًا أو آجلًا، إعادة صوْغ المشروع الوطني الفلسطينيّ نفسه. هذا هو درْس ياسر عرفات الثمين.

وعليه، فإنّ القيادة الفلسطينيّة، في أثناء سعيها لترتيب جولة المفاوضات الحالية مع الجانب الإسرائيليّ، تنتظر مزيدًا من الضغوط، على أنّ مصدر الضغوط هذه المرّة هو محور الثورة المُضادّة الذي يُعِدُّ نفسه حاليًّا لإعادة رسم النظام الإقليمي العربيّ؛ لذلك ستخوض القيادة الفلسطينيّة، في المدى القريب أو البعيد، معركةً متعددة الجبهات.

إنَّ فراغ القوة الذي يعانيه النظام الإقليمي العربي اليوم، مهدَّد باختراقات أخرى تفرز عدّة ظواهر، ليست "الدحلانيّة" أولها ولا آخرها؛ وهي "ظواهر استخباراتية تخومية" تُعَدُّ الوجه الآخر للإرهاب في المناطق المتاخمة، وهو الأمر الذي يهدِّد القضيّة الفلسطينيّة من جهة أنَّها قضيّة عادلة تتطلب تضافرًا في الجهد بين الفلسطينيين وسائر العرب. من أجل ذلك تكون الطريقة الصحيحة في مواجهة التحديات الجديدة متمثّلةً بتحقيق المصالحة الوطنيّة الفلسطينيّة، وبلورة موقفٍ فلسطينيٍّ موحَّد تقف خلفه كلّ مكوّنات الشعب الفلسطينيّ في الداخل والخارج.


[1] ذلك أنّ دحلان، ومعه آخرون، كان يتعاون مباشرةً مع إسرائيل، ومع دول عربيّة للضغط على عرفات في كامب ديفيد سنة 2000، وأمّا محمود عبّاس فقد كان مؤيدًا لموقف عرفات الرافض للتوقيع على اتفاقيّة تفرّط في الحقوق الفلسطينيّة.