العنوان هنا
تقييم حالة 10 أكتوبر ، 2021

انتخابات العراق المبكرة 2021: بماذا تتميز عن سابقاتها؟

عقيل عباس

باحث مستقل. عمل سابقًا أستاذًا في الجامعة الأميركية في العراق. له العديد من الكتب والدراسات والأوراق البحثية المنشورة في عدد من الدوريات العالمية والعربية المحكّمة، آخرها فصل "التشيع العراقي بين المعرفة الطهرانية والوطنية العراقية"، في: كتاب الشيعة العرب: المواطنة والهوية، تحرير حيدر سعيد، والصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (2019)؛ "الإسلام السياسي الشيعي في العراق والديمقراطية التوافقية: إشكاليات الخطاب وتحديات التنوع"، سياسات عربية، عدد 29 (تشرين الثاني/ نوفمبر 2017)؛ “Deconstructing Despotic Legacies in the Arab Spring,” in: Larbi Sadiki (ed.), Routledge Handbook of the Arab Spring: Rethinking Democratization (London: Routledge, 2014).

في وقت يمضي العراق نحو سادس انتخابات له بعد تغيير النظام السابق في 2003، تبدو هذه الانتخابات شديدة الأهمية، ربما أهم من كل الانتخابات الخمس السابقة؛ بسبب الأجوبة التي يمكن أن توفرها لحزمة أسئلة مهمة تتعلق بمستقبل النظام السياسي الحالي وعلاقة الجمهور به، سواء قطيعةً أو تواصلًا معه. ترتبط الإجابة عن هذه الأسئلة بحقيقتين أساسيتين، برزتا تدريجيًا بعد تجربة الانتخابات البرلمانية الأخيرة في 2018 والوقائع التي رشحت عنها.

الحقيقة الأولى هي أن البلد يقف على مفترق طرق سياسي خطير وحاسم، يتعلق بموقف المجتمع من النظام السياسي الحالي. في كل الانتخابات السابقة، ذهب الجمهور إلى صناديق الاقتراع، على أساس قدر لا بأس به من الاستثمار الشعبي في النظام السياسي "الديمقراطي" الذي تشكّل بعد 2003. وهو استثمار بدأ كبيرًا في أول انتخابات في بداية عام 2005، وتراجع تدريجيًا على مدى الانتخابات التالية، لكنه تراجعٌ لم يصل إلى درجة التشكيك في أصل وجوده؛ إذ إن وجود شكل واضح ما من هذا الاستثمار هو الذي ضَمن للنظام السياسي الاستمرار وتجاوز بعض أهم العقبات التي واجهها، كما في تحديات الحرب الأهلية والإرهاب.

ما مصير هذا الاستثمار اليوم؟ أبقي منه شيء يمكن أن يصبح رافعة له، أم أنه تبخر تمامًا، بحيث لم يتبقَ لهذا النظام من قاعدة استناد غير البنى المؤسساتية وشبه المؤسساتية في الدولة وخارجها من قوات مسلحة وأجهزة أمن ومجاميع ميليشياوية وحزبية وجماعات شعبية محدودة منتفعة اقتصاديًا أو موالية أيديولوجيا؟ ستوفر الانتخابات جوابًا عن هذا السؤال؛ فالمشاركة فيها من عدمها هو إعلان لموقف شعبي إيجابيًا أو سلبيًا بخصوص قابلية هذا النظام السياسي على الحياة وجدوى الاستثمار فيه من عدمها.

السبب الثاني مرتبط بالسبب الأول، ويتعلق بوجود خيار آخر، خارج النظام السياسي، وإن كان خيارًا غامضًا وملتبسًا، لكنّ إغراءَه الحالي يبدو حاضرًا بقوة لدى شرائح واسعة من الجمهور. إنه خيار الشارع، واحتمالات استخدامه الاحتجاجي لإطاحة النظام السياسي. وُلد هذا الخيار حديثًا مع حركة الاحتجاج التشرينية في 2019 التي منحت المجتمع قدرًا كبيرًا من الوضوح، بخصوص فهم العيوب البنيوية الكبيرة في النظام السياسي. وركزت أيضًا غضب المجتمع على منظومة الأحزاب التقليدية التي صاغت هذا النظام السياسي، وهيمنت عليه، عبر استغلال هذه العيوب وتعميقها وتحويلها إلى واقع حال مؤسساتي، على الجمهور أن يقبل به ويتطبع عليه. ومنحت أيضًا حركةُ الاحتجاج المجتمعَ، أو على الأقل شرائح كبيرة منه، حسًا عاليًا بالتحدي لهذا النظام للوقوف ضده، إما إصلاحًا له عبر أدواته الداخلية من خلال الضغط الاحتجاجي، أو إطاحته من خارجه عبر فعل ثوري آتٍ. تطور هذا الخيار الأخير سريعًا في إطار إحساس الكثيرين في الجمهور الاحتجاجي بفشل الخيار الإصلاحي الأول أو لاواقعيته، وذلك في إطار الخيبة الاحتجاجية العامة من حكومة السيد مصطفى الكاظمي. فبعد انكشاف عجز هذه الحكومة عن إجراء إصلاحات ضرورية وعدت بها هي نفسها، وطالبت بها قوى الاحتجاج، تمهيدًا لإجراء انتخابات مبكرة حرة وذات صدقية، تجدد النظام السياسي وتسمح بمواصلة حركة الإصلاحات في إطار حكومة إصلاحية مقبلة، شعرت معظم القوى الاحتجاجية باليأس من إمكانية مثل هذا الإصلاح في ظل تمترس القوى الحزبية والميليشياوية التقليدية في مفاصل الدولة، ورفضها الإصلاح، وإفشالها حتى للخطوات الخجولة منه، فضلًا عن استهدافها الناشطين في الاحتجاج ومطاردتهم، وضعف الحكومة في مواجهة هذه القوى.

من هنا انتقلت معظم القوى الاحتجاجية إلى موقف مقاطعة الانتخابات، والدعوة، التي ما تزال غير واضحة المعالم، لاستخدام الشارع لإطاحة النظام السياسي. مع ذلك، يعوز موقف القوى الاحتجاجية عمومًا الكثير من الوضوح، بخصوص كيفية تنفيذ هذا الخيار الآخر عمليًا على الأرض. على الأغلب، ستساهم الانتخابات في حسم موقف قوى الاحتجاج بشأن كيفية التعامل مع هذا الخيار، إما تبنّيًا وتطويرًا له أو تخلّيًا عنه، وخصوصًا مع وجود أقلية من قوى الاحتجاج ستشارك في الانتخابات، وعبر تجربتها هذه ستحسم هي أيضًا خياراتها المستقبلية بخصوص كيفية تعاملها مع النظام السياسي.

ستوفر هذه الانتخابات عددًا من لحظات الوضوح لجهات مختلفة، وحتى متنافرة ومتصارعة. وبمقدار تعلق الأمر بنزاهة الانتخابات، وحجم المشاركة الشعبية فيها وخيارات الجمهور الانتخابية، وتعامل القوى السياسية التقليدية المهيمنة مع نتائج التصويت، ستوفر كامل العملية الانتخابية لحظة وضوح مهمة لقوى الاحتجاج وجمهوره المقاطع بخصوص خطواتها المستقبلية، ونوعية العلاقة التي تريدها مع النظام السياسي. كما أنها ستوفر للأحزاب التقليدية المهيمنة على النظام السياسي لحظة الوضوح الخاصة بها، والمتعلقة بمستقبل علاقتها بالجمهور، ومقدار استعدادها لمواصلة سلوكها الاستئثاري والنفعي الحالي أو تغييره لكسب الجمهور أو تهدئة غضبه على الأقل. في آخر المطاف، لا يمكن تجاهل الطابع التكييفي الذي يفرضه أي نظام انتخابي تداولي على سلوك الحركات السياسية الساعية للوصول إلى منظومة السلطة أو البقاء فيها، مهما تكن هذه الحركات غير ديمقراطية أو رهينة لمفاهيم جوهرانية ثابتة لمعنى الصواب والخطأ. وأخيرًا، سيتوفر المجتمع الدولي على لحظة وضوحه الخاصة به أيضًا، عبر هذه الانتخابات، لجهة تبنيه النظام السياسي الحالي وسعيه لتحسينه من خلال أدواته الداخلية. إلى حد الآن، لا يزال المجتمع الدولي داعمًا قويًا للنظام السياسي الراهن، لكن هذا الدعم مشروط بإجراء انتخابات نزيهة وإمضاء إصلاحات بنيوية ضرورية.

ما يزيد من قيمة لحظات الوضوح المختلفة هذه هي الدقة المفترضة في التصويت المقبل، في حال إجراء انتخابات نزيهة، سواء بمشاركة عالية أو منخفضة. والسبب في هذه الدقة هو القانون الانتخابي الجديد الذي يركز على التصويت الفردي على أساس المناطق، ويتحقق الفوز فيه عبر حصول المرشح على أعلى الأصوات. وعلى خلاف القانون الانتخابي السابق، الذي كان يكافئ الأحزاب المتنفذة ويعاقب الأحزاب الصغيرة، عبر اشتراطه عتبة انتخابية واعتماده صيغة رياضية مشوهة في حساب الأصوات لصالح الأحزاب الكبيرة، ستساعد هذه الانتخابات، بسبب القانون الانتخابي الجديد والتحسينات الفنية في عملية إدارتها، في كشف الأحجام الانتخابية الحقيقية للأحزاب ومرشحيها. مع ذلك، حتى مع تراجع القدرة التقنية على التزوير في هذه الانتخابات، لا تزال الأحزاب المتنفذة قادرة على شراء الأصوات، وخصوصًا بين الفقراء والمحتاجين، وإن كان الشح المالي الذي تواجهه هذه الأحزاب يضعف إمكانياتها على القيام بهذا على نحو واسع، كما جرى في انتخابات سابقة.

سيحمل حجم المشاركة الشعبية في الانتخابات بعض الأجوبة عن الأسئلة الضمنية في الحقيقتين أعلاه. فهل من خلال مشاركة شعبية متواضعة، لا تتجاوز نسبة المشاركة الواطئة في انتخابات 2018 (بحدود 19 في المئة)، يمكن استنتاج أن المجتمع أعلن قطيعته مع النظام السياسي، ومن ثمّ رفضه المشاركة في تجديد شرعيته الانتخابية؟ تبدو مثل هذه المشاركة الواطئة جدًا مستبعدة حاليًا، وخصوصًا في ظل حث المرجعية الشيعية في النجف مؤخرًا الجمهور على ما اسمته "المشاركة الواعية والمسؤولة" في الانتخابات. الاحتمال الأكثر واقعية في هذا الصدد هو نسبة مشاركة متوسطة نسبيًا، بين 30 و40 في المئة، أي نسبة أعلى بوضوح من نسبة المشاركة في انتخابات 2018 وأدنى، بوضوح أيضًا، من نسبة المشاركة العالية في انتخابات 2014 التي بلغت نحو 60 في المئة من الذين يحق لهم الاقتراع. إن الوصول إلى نسبة التصويت المتوسطة هذه يُعدّ في حدّ ذاته إنجازًا لصالح استمرار شرعية النظام السياسي، لكن لن تكون لحظة الانتخابات هذه والشرعية الشعبية التي يمكن أن تمنحها أو تسلبها كافية لإنقاذ النظام السياسي من مأزق خطر، يمرّ به ويهدد أصل وجوده. فسلوك هذا النظام بعد الانتخابات هو الذي سيكون النقطة الفارقة والكاشفة عن مآلاته المستقبلية، ويوفر أجوبة ينتظرها المجتمعان المحلي العراقي والدولي.

في ضوء المعطيات الانتخابية الحالية، يبدو أن أحزاب النظام السياسي، بمجموعها، ستكون الفائز الأكبر بهذه الانتخابات لعدة أسباب، أهمها هو ضعف المنافسة الانتخابية لها من جانب قوى حزبية جديدة ومنظمة. فباستثناء قائمة حركة امتداد الانتخابية التي ولدت عبر حركة الاحتجاج، لا توجد تنظيمات حزبية احتجاجية يُعتدّ بها تخوض هذه الانتخابات. تتنافس قائمة حركة امتداد بنحو 38 مرشحًا في العاصمة ومحافظات في الوسط والجنوب. حتى في حالة فوز جميع مرشحيها، وهو أمر مستبعد، فإن تمثيلها البرلماني لن يشكّل أكثر من 12 في المئة من البرلمان المقبل. وإذا صح بعض التقديرات بأن ثلث عدد المرشحين لخوض الانتخابات، الذين يبلغ عددهم نحو 3500 مرشحًا، هم من المستقلين أو المؤيدين لحركة الاحتجاج، فلن يعني هذا بالضرورة تمثيلًا برلمانيًا قويًا للمستقلين؛ فمعظم هؤلاء المرشحين المستقلين[1] يشكون من قلة الموارد التي تجعل دعايتهم الانتخابية ضعيفة فضلًا عن التنافس فيما بينهم في المناطق ذاتها. بعكس ذلك، ستؤمّن الإمكاناتُ المالية الضخمة للأحزاب التقليدية، بكل الرشاوى الانتخابية التي تقدمها والماكنة الدعائية الكبيرة التي توظفها - وخصوصًا في ظل تجديد الكثير من الوجوه الانتخابية التي ترشحت عن هذه الأحزاب - التمثيلَ الأكبر في البرلمان[2].

ما الذي يعنيه بالضبط فوز الأحزاب التقليدية في هذه الانتخابات؟ هل سيُفسر هذا الفوز على أنه إعلان ثقة الشارع بها، ومن ثمّ مواصلة النهج السابق نفسه مع بعض التغييرات الطفيفة؟ سيكون مثل هذا التفكير شكلًا من الانتحار السياسي على المديَين المتوسط والبعيد، فحتى هذه الأحزاب رفعت في دعايتها الانتخابية شعارات إصلاحية، فضلًا عن الإقرار العام داخل الطبقة السياسية الحاكمة التي تتشكل من هذه الأحزاب أنه لا بد من القيام بإجراءات إصلاحية حقيقية للحفاظ على النظام السياسي. لكن ما نوعية الإجراءات الإصلاحية التي يمكن أن تقوم بها هذه الأحزاب في حال فوزها في الانتخابات؟ إن شروع هذه الأحزاب في إجراءات إصلاحية يعني قبولها بتقديم تنازلات لمجتمع غاضب، وسيتضح شكل هذه التنازلات المحتملة مبكرًا جدًا، في خلال عملية تشكيل الحكومة المقبلة. ويبدو من المؤكد منذ الآن أنه لن تستطيع أي قائمة انتخابية بمفردها أن تحصل على أغلبية تُمكنها من تشكيل الحكومة المقبلة لوحدها؛ وبالنتيجة فلا بد من تحالف برلماني بين قوائم حزبية مختلفة لتشكيل هذه الحكومة، كما حصل في كل الانتخابات البرلمانية الماضية. السؤال هنا هو: هل تعود الأحزاب إلى الطريقة القديمة ذاتها القائمة على المحاصصة في توزيع المناصب، وهي الطريقة التي تثير الكثير من الغضب الشعبي، وتساهم في تعميق أزمة الدولة في عجزها عن تأدية التزاماتها نحو مواطنيها؟ ليس سهلًا تصور أن أحزابًا زبائنية، كتلك المهيمنة في العراق، تعتاش على موارد الدولة، وتفتقد الثقة فيما بينها، وتحركها مصالحها الاقتصادية الفئوية، وليس رؤى سياسية وطنية، يمكنها أن تتخلى عن المحاصصة الحزبية في المناصب؛ لأن هذه المحاصصة توفر لها الموارد الاقتصادية والتأثير في صناعة القرارات وتنفيذها. لذلك سيستمر، على الأغلب، اعتماد هذه الآلية السياسية القديمة والمعطوبة في تشكيل الحكومة وفي إدارتها؛ وهكذا سيتواصل غياب وحدة القرار السياسي العراقي وتشتته بين فاعلين متنافسين يمثل كل واحد منهم إقطاعية سياسية - حزبية منفصلة عن سواها.

يُعتبر الإصلاح الاقتصادي إحدى الأولويات التي يكثر الحديث عنها في الأوساط السياسية والحزبية، حتى وإن كان تناول هذا الإصلاح عمومي الطابع ويقترب من الخطابية. لكن الحقيقة الصعبة التي لا تستطيع حتى الأحزاب المتحاصصة في الحكم الهروب منها هي أنه لم يعد في وسع القطاع العام استيعاب المزيد من موظفي البطالة المقنعة. فمع دخول نحو 800 ألف عراقي سنويًا لسوق العمل، تحتاج الدولة الشروع في إصلاحات اقتصادية جادة تحرر القطاع الخاص وتنشطه وتسمح بالدخول السهل للاستثمار الأجنبي. يتمثل أهم الإجراءات بهذا الخصوص في التخفيف من عبء البيروقراطية الخانقة، وإبعاد الساسة وأحزابهم عن النشاط الاقتصادي، وتفكيك المكاتب الاقتصادية لهذه الأحزاب التي تبتز المستثمرين وتخيفهم وتعيق نشاطهم الاقتصادي، إذا رفضوا التعاون مع هذه الأحزاب. بخلاف هذا، ستواجه الأحزاب الرافضة لإصلاحات اقتصادية جادة قنبلة موقوتة، يزداد حجمها سنويًا بدخول مئات الآلاف من الشباب إلى سوق عمل خالٍ من الفرص. يمكن ارتفاع أسعار النفط الحالي أن يؤجل مواجهة هذه المشكلة المركبة لبعض الوقت، لكن ليس لأربع سنوات مقبلة. وما يزيد هذه المشكلة تعقيدًا هو غياب الإرادة السياسية لدى هذه الأحزاب للمضي في طريق الإصلاحات الاقتصادية؛ لأن هذا سيضرب أحد أهم مصادر تمويلها المالي المتأتي من ابتزاز المستثمرين وفساد العقود، واشتراط هذه الأحزاب حصصًا معينة لها في العقود والصفقات الاقتصادية.

في ظل صعوبة أو عجز هذه الأحزاب عن تنفيذ إصلاحات سياسية أو اقتصادية جادة، ما نوعية "التنازلات" الإصلاحية التي يمكن أن تقدمها للمجتمع إذًا؟ يبدو أن بعض الإصلاحات الجادة ممكنة في الجانب الأمني، لجهة ضبط السلاح الميليشياوي تحديدًا. هنا، في الإمكان التعامل مع موضوع "الحشد" الذي سبب صداعًا للدولة ولقوى سياسية في الحكم؛ نظرًا إلى تحديه شبه المستمر للدولة، وتقديم ارتباطاته الولائية والخارجية على وظيفته الوطنية. فضلًا عن ذلك، فإن استهداف فصائل في الحشد الناشطين في حركة الاحتجاج، وبث هذه الفصائل حسًا بالرعب الأمني في المجتمع يعيد للذاكرة شيئًا من الرعب الأمني الذي كان سائدًا في عهد نظام صدام حسين، ومحاولات الحشد التمدد اقتصاديًا وسياسيًا وإعلاميًا؛ وهو ما أضاف لاعبًا جديدًا وقويًا، يتشح "بالقداسة" لحلبة المتنافسين والمتصارعين على كعكة السلطة وقراراتها، عوامل ساهمت كلها في صناعة رأي عام شعبي وسياسي معادٍ للحشد، سينعكس ربما في الانتخابات عبر تراجع الحظوظ الانتخابية للكتلة البرلمانية الراعية للحشد والمدافعة عنه، كتلة الفتح.

سيكون من مصلحة الفاعلين السياسيين والحزبيين في السلطة البدء بالضبط المؤسساتي لهذا المنافس القوي والشرس والمكروه شعبيًا. إن ما يسهل الإقدام على خطوة الضبط المؤسساتي هذه هو الإعلان مؤخرًا عن الفصل النهائي لحشد العتبات التابع للمرجعية في النجف عن مؤسسة الحشد الشعبي التي تهيمن عليها الفصائل المسلحة المتحالف مع إيران، ويُعرف باسم "الحشد الولائي". يحرم هذا الفصل الحشد الولائي من غطاء ديني مهمٍّ، تمثله فتوى السيد علي السيستاني في عام 2014 بالتطوع في المؤسسة العسكرية لقتال تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"؛ وهي الفتوى التي تُقدّم على أساس أنها الأصل الديني لتشكيل الحشد مؤسساتيًا. سيحتاج الإقدام على خطوة ضبط الحشد إلى توافق اللاعبين الشيعة الأساسيين عليها، ودعم مرجعي لها من النجف. حينها، حتى الاعتراض الإيراني المحتمل لن يستطيع إيقاف عملية الضبط هذه، وخصوصًا في ظل المصاعب المتزايدة التي تواجهها إيران نفسها في لجم المنافسات البينية المرهقة داخل الحشد الولائي، وفي توحيد أدائه وخطابه خلف سياساتها. لكن في آخر المطاف، عقلانية خطوة الضبط المؤسساتي للحشد وإمكانية تنفيذها على الأرض شيء وحصولها في الواقع شيء آخر؛ فطالما أجلت وعطلت المساومات والصفقات الآنية الطابع، التي تقتضيها مصالح بعض اللاعبين السياسيين، خطواتٍ صحيحة تستفيد منها حتى الأحزاب السياسية النافذة. والطابع الآني والمصلحي المباشر والضيق للسياسة في العراق يمكنه أن ينتصر بسهولة مرة أخرى على الحاجة إلى الإصلاح البنيوي والمصالح الوطنية.

ثمة متغير جديد ستفرزه في الغالب هذه الانتخابات في سلوك الكثير من البرلمانيين المنتخبين، وخصوصًا أولئك الذين يدخلون البرلمان للمرة الأولى. يتصل هذا المتغير بطبيعة القانون الانتخابي الجديد، الذي يربط أغلبية أعضاء البرلمان بجمهور مناطقهم الانتخابية المحلية الذي صوت لهم. فبعكس القانون السابق الذي كان يُمكِّن المرشح من الفوز بمقعد برلماني بالاستفادة من أصوات القائمة الانتخابية التي ينتمي إليها، حتى لو كانت الأصوات التي حصل عليها هو شخصيًا قليلة ولا تمثل الرأي الغالب في المنطقة التي يمثلها في البرلمان، يحرر القانون الجديد العضو البرلماني من هيمنة القائمة الانتخابية أو رئيسها عليه ليربطه بالحاجات المباشرة لجمهوره المحلي. واقعيًا ينبغي أن يُترجم هذا الأمر بظهور برلمانيين يقدّمون مصالح جمهورهم المحلية على مصالح أحزابهم أو قوائمهم الانتخابية؛ لأن إعادة انتخابهم مرتبطة برضا هذا الجمهور المحلي ودعمه لهم. يُنتج مثل هذا الوضع، بمرور الزمن، ديناميات جديدة وإيجابية في العمل البرلماني لصالح الرقابة والتشريعات التي لها مردودات محلية، بعيدًا عن العصبوية الحزبية والتحالفات الفوقية البعيدة عن مصالح الجمهور المحلي. تساهم مثل هذه الديناميات في ترسيخ الواقعية السياسية والمساءلة المحلية للبرلمانيين، وإضعاف الحوافز للدخول في صفقات الفساد والطائفية. مثل هذا التحول في السلوك البرلماني مهمٌّ لصناعة تجربة برلمانية تمثيلية فعلًا، معبرة بصفة عامة عن مطامح جمهور الناخبين، ومتصلة بوقائعه الحياتية.

هل يمكن أن يشهد البرلمان العراقي المقبل مثل هذه التجربة؟ ليس على نحو واضح وسريع! على الأغلب سنشهد بدايات لتجربة من هذا النوع، ستحتاج زمنًا طويلًا نسبيًا، يُقدّر بدورتين برلمانيتين على الأقل، قبل أن تنضج هذه التجربة وتكتمل وتبرز جوانبها الإيجابية. لكن هل يكفي هذا النضج المستقبلي لإنقاذ السياسة في البلد ولو على نحو تدريجي؟ الجواب، على الأكثر، لا؛ فهذا السؤال يحيلنا إلى معنى سلطة البرلمان في ظل نظام سياسي مشوّه، بمجمله، من خلال المحاصصة السياسية والزبائنية الاقتصادية. فحتى لو برز برلمان ناضج من خلال الانتخابات المقبلة - وهو احتمال بعيد - فلن يستطيع هذا البرلمان وحده أن يقوم بإصلاحات جدية ومهمة في ظل تشرذم السلطة في البلد، وخصوصًا تمترس الأحزاب المهيمنة في السلطة التنفيذية وبقية مؤسسات الدولة وتقسيمها إلى إقطاعات حزبية، تخضع عمليًا لسيطرة زعماء الأحزاب، وليس للحكومة أو رئيسها. لأجل أن تعمل أنظمة الحكم البرلمانية، كالنظام العراقي، على نحو فعّال، فإنها تحتاج وجود تنسيق عال وشراكة فاعلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. لكنّ المشكلة في العراق بنيوية بهذا الصدد، وتتلخص في أن كل واحدة من هاتين السلطتين عاجزة عن العمل مجموعةً متماسكةً مؤسساتيًا ومنتظمة هرميًا، تُمثل إرادةً واحدة ومُلزمة، تنتجها الآليات القانونية لتلك السلطة. بل هي، في إطار كل سلطة، عبارة عن مجاميع متنافسة، متصارعة أحيانًا ومتفقه أحيانًا أخرى، تفتقد إرادة نهائية موحدة تجد طريقها للتنفيذ المؤسساتي على نحو دائم ومنتظم.

في ضوء الاحتمالات المتدنية لحصول تغيرات إيجابية مهمة في البلد، بخصوص إدارة السياسة وسلوك القوى الحزبية المهيمنة على السلطة على المدى المنظور، لن تستطيع الانتخابات البرلمانية أن تقدم للمجتمع ما يمكن أن ينزع أو يخفف الغضب الشعبي المتراكم فيه. فمعيار النجاح بهذا الصدد يتعلق بأشياء ملموسة وواضحة، تتصل بملفَين أساسيَين هما تحسين واقع الخدمات المتردي، وتوفير فرص اقتصادية. ويتطلب النجاح في هذين الملفَين إصلاحًا سياسيًا، يقود إلى مكافحة حقيقية للفساد، وتفكيك لمنظومة المحاصصة. لا يبدو أن مثل هذا الإصلاح في الأفق، رغم كثرة الوعود الخطابية به. يترك هذا العجز البنيوي عن الإصلاح الباب مفتوحًا أمام قوى الاحتجاج كي تستلم زمام المبادرة. وفي ظل تراكم عوامل الغضب الشعبي وكثرة محركاته، فإن انفجارًا احتجاجيًا مقبلًا سيحتاج شرارة واحدة و"مناسبة" توقيتًا ومزاجًا كي يكون البلد بإزاء مشهد مختلف تمامًا، لن يكون في وسع الساسة السيطرة عليه أو احتواؤه بسهولة، خصوصًا في ظل التصاعد المتوقع للحماسة بين قوى الاحتجاج للمضي نحو الإطاحة بالنظام السياسي كله عبر الشارع.


[1] من الصعوبة الجزم بصحة هذه التقديرات أو غيرها، صعودًا أو نزولًا، لأن الكثير من الأحزاب التقليدية لجأت إلى استخدام "مرشحين مستقلين"؛ لأجل خداع الجمهور الناقم على الأحزاب التقليدية، أو لضرب خصوم انتخابيين في مناطق معينة من خلال تشتيت الأصوات ومنع فوز هؤلاء الخصوم.

[2] بعض هذه الأحزاب، كالتيار الصدري، لها جمهور عقائدي مؤمن يصوت لها في كل الأحوال، حتى مع حصول بعض التراجع في نسبة المصوتين من هذا الجمهور العقائدي.