العنوان هنا
تقدير موقف 15 يونيو ، 2012

انتخابات المؤتمر الوطني في ليبيا: بين تجاذبات النّخب والديناميّة المجتمعيّة

الكلمات المفتاحية

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

مقدّمة

بعد أقلّ من سنةٍ على اندلاع الثّورة الليبيّة في 17 شباط / فبراير 2011، وإصدار الإعلان الدّستوري المؤقّت في آب / أغسطس 2011 الذي حدّد ملامح المرحلة الانتقالية في ليبيا، وفي­­­ أعقاب إعلان التحرير مع سقوط آخر معاقل سلطة القذّافي في تشرين الأوّل / أكتوبر؛ بدأت ليبيا تؤسِّس لتحوّلها الدّيمقراطي من خلال الالتزام بالأسس التي وردت في الإعلان الدستوري. وهي أسسٌ تنبني على عدّ انتخابات المؤتمر الوطني العامّ (بمنزلة الجمعيّة التأسيسية)؛ أساسَ التحوّل إلى بناء الدّولة. ففي البداية، حُدِّد موعد الانتخابات للمؤتمر الوطني في 19 حزيران / يونيو 2012، ثمّ جرى تأجيلها بعد ذلك إلى تاريخ 7 تمّوز / يوليو لإعطاء مهلةٍ للمرشَّحين حتّى يُحضِّروا لحملتهم الانتخابيّة.

في الوقت نفسه، قامت بعض المدن الليبيّة بمبادراتٍ مستقلّةٍ لانتخاب مجالس محليّة مكان تلك المجالس التي انبثقت بعد قيام الثّورة لإدارة الشّأن المحلّي، وإعادة ترتيب الأوضاع في تلك المدن. وقد عدّها  الكثيرون مفتقِرةً إلى الشّرعية؛ نظرًا إلى أنّ وجودها لم يكن على أساسٍ ديمقراطي، ولم يجر اختيار أعضائها من خلال انتخاباتٍ محلّية. وكانت أولى المبادرات في كلٍّ من زوارة ومصراتة في شباط / فبراير، وامتدّت إلى مدن أخرى، وكان آخرها وأهمّها انتخابات المجلس المحلّي في مدينة بنغازي في 19أيار / مايو 2012.

وفي الوقت الذي يواجه فيه الليبيّون -الذين حسموا الصّراع مع النظام السّابق- استحقاقاتِ التحوّل الدّيمقراطي؛ نراهم -خلافًا لتجربتَي مصر وتونس- يتصدّون لمهمّة صعبة ودقيقة، وهي مسألة بناء الدولة ومؤسّساتها، ومعالجة مشكلة الفراغ السّياسي والبنيويّ والتشريعيّ الذي ساهم فيه النظام السّابق.

يجري المساران الانتخابيّان باستقلال الواحد منهما عن الآخر. فقد قام المجلس الوطني الانتقالي (الذي تأسّس مباشرةً بعد الثورة في 27/ 2/ 2011)، بإعداد انتخاباتٍ وطنيةٍ لمؤتمرٍ وطنيٍّ عامٍّ؛ وذلك بموجب صلاحيّاته الدستوريّة المنصوص عليها في الإعلان الدستوري (3/8/2011)، وبالاعتماد على خطّة طريق زمنيّة تضمّنها هذا الإعلان. في حين أنّ انتخابات المجالس المحليّة قد حصلت خارج هذا الإعلان، وانطلقت من مبادرات محليّة لا مركزيّة خاصّة بكلّ مدينة. وليست المجالس المحليّة طارئةً على الوضع الليبي؛ بل إنّها كانت جزءًا عضويًّا من التنظيم أثناء الثورة. وقد شكّلت القاعدة التي أعطت الشرعيّة للمجلس الوطني الانتقالي؛ الذي يعرّف نفسه في الإعلان الدستوري بأنّه يتكوّن من ممثِّلين عن المجالس المحليّة، إضافةً إلى أشخاصٍ آخرين (عددهم 10) يحدّدهم المجلس. غير أنّه لم تكن إبّان الثورة مجالس منتخبة، بل كانت مشكّلة ذاتيًّا -إن لم يكن عشوائيًّا- من المناطق التي كانت تتحرّر. وبناءً على ذلك، فقد كانت صفتها التّمثيلية المؤسّسية المحدّدة بانتخاباتٍ تنافسيّةٍ وصندوق اقتراعٍ ضعيفةً. لكنّ المجالس المحليّة التي تتشّكل،  هي مبادرات مستقلّة، ولا يغطّيها سقفٌ قانوني؛ وذلك على الرّغم من أنّها تطرح مشروعيّةً ما، وتعبّر عن ديناميّةٍ مجتمعيّةٍ.

ومنذ أن بدأ انهيار نظام القذّافي في المنطقة الشرقيّة من الحدود المصريّة شرقًا إلى أجدابيا غربًا، وتوالى انتشار شرارة الثّورة في مناطقَ مختلفة من وسط البلاد وغربها؛ أخذ عددٌ كبير من الكيانات السياسيّة  يبرز على الساحة السياسيّة في ليبيا خارج نطاق أيِّ تشريعٍ ينظّمها. وتجلّى ذلك في تشكيل تيّاراتٍ سياسيّة عديدة، اتّخذت مسمّيات مختلفة كالتجمّع، والتّحالف. وقد نأت في البدايات الأولى لتشكّلها عن استخدام كلمة "حزب"، وربّما كان ذلك انعكاسًا لغياب الثقافة الحزبيّة في ليبيا. فقد عُدَّ تجريم الحزبيّة من أبرز المبادئ التي ارتكزت عليها فترة حكم القذّافي، والتي تبلورت في شعاراتٍ واضحة؛ على غرار "من تحزّب خان"، و"الحزبيّة إجهاضٌ للدّيمقراطيّة". وقد يكون ذلك أيضًا امتدادًا لحالة الفراغ الحزبي الذي عانت منه ليبيا منذ تأسيسها عام 1951؛ إذ قام النظام الملكي -بعد إعلان الاستقلال في 24 كانون الأوّل / ديسمبر 1951، بإلغاء معظم الأحزاب الوطنيّة والتيّارات التي تشكّلت خلال حقبة الأربعينيّات من القرن الماضي. ويمكن القول إنّ القاسم المشترك بين النّظامين في ليبيا الملكيّة وليبيا بعد عام 1969؛ هو اتّفاقهما في مسألة إلغاء الأحزاب كمكوِّنٍ من مكوِّنات النظام السّياسي. وذلك على الرّغم من وجود تيّارات سياسيّة عديدة انبثقت، واستمرّ العمل الحزبي إمّا بشكلٍ سرّي أو في المهجر.

 وبصفةٍ عامّةٍ، فقد سمحت التّغييرات السياسيّة السريعة التي طرأت قبل سقوط نظام القذّافي وبعده، إضافةً إلى تأسيس الأحزاب السياسية وتنظيمات المجتمع المدني وكذلك صدور الإعلان الدستوري في أغسطس 2011؛ في خلق المناخ الملائم لعملية التحوّل الديمقراطي. وعلى الرّغم من التّجاذبات الجهويّة والحزبيّة، قامت عمليّة الإعداد للانتخابات العامّة على التوافق. وقد حقّقت الانتخابات المحليّة بعض النّجاح في ظروفٍ صعبة؛ إذ أنّ سلطة القانون لا تزال غائبة، في ظلّ وضعٍ تهيمن فيه مجموعات مسلّحة مختلفة على الشّارع الليبي. وحثّت الانتخابات المحليّة على تسريع الانتخابات العامّة وتسهيلها. فمع نهاية التّسجيل في منتصف شهر أيار / مايو، كان بإمكان مفوّضيّة الانتخابات أن تعلن بفخرٍ عن أنّ عدد المسجّلين، قد وصل إلى أكثر من نصف عدد السكّان. وقد تفاعلت هذه المعطيات والأحداث في السّاحة السياسية الليبية؛  لتعيد إنتاج خصوصية التجربة الليبية في أشكالٍ مختلفة من الانخراط الشعبي.


صدقيّة في الت
ّنفيذ: خريطة طريق للانتخابات العامّة

سارت التحضيرات لانتخابات المؤتمر الوطني العامّ؛ بحسب خطّة الطّريق الزّمنية التي وُضعت لها في الإعلان الدستوري. والهدف هو الوصول إلى دستورٍ دائمٍ لليبيا، يقع إقراره في المؤتمر الوطني المنتَخَب،  والتصديق عليه في استفتاء شعبي. ويُعتمد كأساسٍ لقانون انتخابي جديد في انتخابات عامّة تشريعيّة لاحقة[1]. لقد أقرّ المجلس في أواخر تشرين الثاني / نوفمبر تشكيل لجنة من أعضائه، حُدّدت لها مهمّة الإشراف على إعداد مسودة قانون الانتخابات، وإعداد مسودة قانون المفوضيّة، واقتراح تسمية أعضائها، وإعداد مقترح تقسيم الدوائر الانتخابية. 

ومع إقرار القانون الانتخابي النهائي (12/ 2/2012)، تحقّق اعتماد نظام انتخابيٍّ يجمع بين "نظام الأغلبية البسيط" (120 مقعدًا)، و"نظام التّمثيل النسبي" (80 مقعدًا)؛ وذلك على قاعدة دوائر انتخابيّة فرعيّة صغيرة، ممّا يؤكّد طابعه الغالب كـ "نظام الأغلبية البسيط". وكانت المسودة الأولى (التي ظهرت في أوائل العام) تعطي للتمثيل النّسبي نسبةً أكبر من المقاعد. 

يسمح النظام الانتخابي المعتَمَد، بتمثيلٍ أوسع للفئات اللّيبية المختلفة، وللمستقلّين أو للناشطين والفاعلين في دوائرهم. ويؤدّي إلى تنوّعٍ أكبر في التّمثيل للمناطق، ويحول دون الاحتكار السياسي لواقعٍ سياسيٍّ حزبيٍّ غير متمرّسٍ. لكنّه في مقابل ذلك، يقوّي ثقل المحليّات العائلية والعشائرية، ويعزّز اهتماماتٍ محليّة على حساب خطوط عمل وطنيّة. ويعيق التعدّدية السياسية لصالح التعددية الجهوية، وربّما حتّى القبلية؛ إذا جرى استغلالها من جانب المرشَّحين في النّواحي.

خصّص النظام الانتخابي في مسودته الأولى، نسبة 10% من مقاعد الجمعيّة التأسيسية للنّساء. ووقع التخلّي عنها في الصّيغة النهائية، لأسبابٍ عمليّة ربّما؛ بسبب تغيير النظام الانتخابي. وقضى القانون النّهائي، بأن تمثّل النّساء خمسين في المئة في لوائح مرشَّحي المجموعات السياسية؛ أي إلزام الأحزاب بترتيب لوائحها الانتخابيّة، على أساس التّناوب بين المرشَّحين ذكورًا وإناثًا، ممّا يؤكّد على الطبيعة المحافظة للتّرشيح الجهوي في الدّوائر. 

وفي سياق التّجاذبات النّخبوية؛ تضمّنت المسودات الأولى للقانون الانتخابي، حظر الترشّح للانتخابات في حالاتٍ محدَّدة، وبالخصوص حظر الترشّح على من يحمل جنسيّة ثانية غير الليبيّة. ويقتضي ذلك استبعاد فئة واسعة من الليبيين المهاجرين، أو الذين اضطرّوا إلى الهجرة لأسبابٍ سياسيّة. ويشمل الحظر كذلك من تعاونوا مع الحكم السابق، بشكلٍ أو بآخر، ضمن لائحة طويلة حدّدت طبيعة التعاون. ورأى المرصد الليبي للرقابة وحقوق الإنسان، هذه الاقتراحات مخالفةً لمبادئ ثورة 17 فبراير[2]. لكنّ النّسخة النهائية من القانون، حذفت هاتين المادّتين؛ مراعيةً بذلك حقوقًا أساسيّة للأفراد، طالما أنّهم لم يرتكبوا جرما  قانونيًّا [3]

كانت المهمّة الأصعب تتمثّل في تحديد الدّوائر الانتخابية التي جرى تقسيمها -في نهاية المطاف- بمراعاةٍ مهمّة للعوامل المحلّية والجهويّة، وللاعتبارات الأساسية المتعلّقة بالتمثيل السكّاني والتوزّع الجغرافي.  وقد أُدخِل عامل التّوزيع الجغرافي، ليزيد أو يقلّل من حصّة كلّ مقعد انتخابي، من أصل مائتين بالنسبة إلى عدد سكّانٍ يصل إلى 5.3 مليون نسمة (بحسب تعداد عام 2006)؛ بحيث يكون لكلّ 27.000 مواطن مقعد واحد. ثمّ أضيفت اعتبارات أخرى إلى السابقة. ويوضّح الأمين بالحاج -عضو لجنة الإعداد للانتخابات، والمشرف على تقسيم الدوائر الانتخابية- أنّه بعد تقسيم البلاد إلى ثلاث عشرة دائرة انتخابية رئيسة، كلٌّ منها ينقسم إلى عدد من الدوائر الفرعية؛ اضطّر إلى مراعاة الاعتبارات الجهوية، "في ظلّ الحرص على التوافق والإجماع الوطني، وما يتمّ طرحه في الشارع من ضرورة أن لا تهيمن أيٌّ من المناطق الثلاث على البقيّة داخل المؤتمر الوطني العامّ" [4]. وقُسِّمت المقاعد على المناطق الأربع على النّحو التالي: المنطقة الشرقيّة: 60 مقعدًا، والمنطقة الجنوبية: 31 مقعدًا، والمنطقة الوسطى: 9 مقاعد، والمنطقة الغربية: 100 مقعد. ويظهر من هذا التوزيع، أنّ المنطقة الغربيّة (وفيها العاصمة طرابلس) تحتّل نصف مقاعد المؤتمر. ويبدو أنّ إدخال تعديل على الإعلان الدستوري (12/ 3/2012)، على نحوٍ يجعل قرارات المؤتمر الوطني تُؤخذ بأغلبيّة الثّلثين؛ قد لا يكون بعيدًا عن هذه الحسابات الجهويّة [5].

لقد وقع في التقسيم المعتمد للدوائر، تهميش التّمثيل النسبي في دوائرَ فرعيّة، وفي معظم الأحيان في وحدة فرعية من كلّ دائرة انتخابية كبرى؛ ممّا يُظهر نظام التمثيل النسبي كتمرينٍ في النسبية أكثر من كونه  تفعيلا لها. ومن الواضح أنّ الاعتبارات المحليّة، قد روعيت أيضًا في الشكل الذي تظهر به الوحدات الانتخابية الفرعية (والتي تصل إلى 110 دائرة فرعيّة)، بأوزان مختلفة من منطقةٍ إلى أخرى[6].   

إنّ العلامة الفارقة في سجّلٍ منضبط بخطّة طريق زمنية، كانت التأخّر في إصدار قانونٍ للأحزاب. وحين صدر ذلك القانون، كانت قد تشكّلت على الأرض عشرات الأحزاب، المعروف منها وغير المعروف. ووقع إصداره بإلحاحٍ من مفوضيّة الانتخابات، لتسجيل الأحزاب وأخذ مواقعها في الخريطة الانتخابية. وصدر القانون رقم 29 لسنة 2012 بشأن تنظيم الأحزاب السياسية في 2 أيار / مايو 2012. وقبل ذلك، صدر قانون آخر، وهو قانون رقم 30 لسنة 2012، بشأن ضوابط الكيانات السياسية؛ وذلك في 24 نيسان / أبريل 2012. فقد حدّد القانون مفهوم الكيان السياسي، بأنّه عدد من الأفراد ينتظمون في شكل تجمّعٍ أو ائتلافٍ، ويرتبطون بفكرٍ سياسيٍّ بغرض المشاركة في انتخابات المؤتمر الوطني  العامّ. وقد تبدو الفترة الزمنية الفاصلة بين إقرار قانون الأحزاب (2/ 5/2012) والموعد المفترض للانتخابات (19/6 /2012)، كافيةً لتسجيل المرشّحين في اللوائح الحزبية؛ لكنّها غير كافية لحملة انتخابية فعليّة.

أثارت المسودة الأولى لقانون الأحزاب (منتصف شهر نيسان / أبريل) خلافاتٍ داخل المجلس وخارجه؛ خاصّةً بشأن مادّةٍ تحظر قيام الحزب على "أساسٍ قبليّ أو جهويّ أو عرقيّ أو لغويّ أو دينيّ"[7]. ورأى البعض أنّ هذا الحظر كان يهدف إلى وضع تقييدات على الاتّجاهات المتطرّفة، سواء كانت جهويّةً أو حزبيّة، ومنع ترشّح الأحزاب السلفية. لكنّه أثار في الوقت نفسه انتقاداتٍ من الذين رأوا أنّ زيادة كلمة "ديني"، لا تنطبق على مجتمعٍ معظمُ أفرادهِ يتّخذون من الإسلام وشريعته وثقافته مرجعيّةً على نحوٍ أو آخر. وبعد هذا الجدل، جاء إقرار القانون بحذف الجملة كلِّها، وليس كلمة فقط منها، واستبدالها بأخرى. وحُظر على الحزب إقامة تشكيلات عسكريّة أو المساعدة على إقامتها، أو استخدام العنف بكلّ أشكاله، أو التهديد به، أو التّحريض عليه، أو أن تتضمّن برامجه ونشراته ومطبوعاته ما يحرّض على العنف أو الكراهية أو الفتنة. كما مُنع تداول أو نشر أيّ فكر يخالف الشريعة الإسلامية أو يدعو للاستبداد السّياسي [8].

لقد عكس  التّعديل في الصيغة النهائية لقانون الأحزاب الحالةَ؛ فبعد أن كان يحظر إنشاء الحزب على أسسٍ دينيةٍ، بات يحظر تداول أيّ فكر "مخالفٍ" للشّريعة؛ مع ما يعنيه ذلك من حظرٍ جديدٍ هذه المرّة للعلمانية. والمحظوران كلاهما، نعني "تداول أو نشر أيّ فكر مخالف للشريعة الإسلامية أو يدعو للاستبداد السياسي"، مع ما يصاحبهما من احتمال تأويلاتٍ متعدِّدةٍ؛ يفرضان قيودًا على حريّة التّعبير.

لقد سجّل أكثر من مليونين و700 ألف (2.728.240) مواطن ليبيّ في الانتخابات، بحسب أرقام مفوضيّة الانتخابات؛ وذلك بعد أن مُدِّدت فترة التسجيل لغاية منتصف أيار / مايو 2012. ويعبِّر هذا الرقم الذي يزيد على نصف عدد السكّان، عن أنّ الأغلبية السّاحقة من الليبيين تقرّ بحكم صناديق الاقتراع؛ ممّا يضيف ثقلًا معنويًّا إلى الانتخابات. ويبلغ المرشَّحُون في هذا الاحتفال الانتخابي 2639 مرشّحًا. أمّا الرّقم القياسي، فتمثّل في عدد الكيانات السياسيّة المسجّلة، والذي تجاوز 370 كيانًا[9]. ومع انتهاء التسجيل، كانت مفوّضيّة الانتخابات لا تزال تتكلّم بحذرٍ عن موعد الانتخابات الذي حدّده المجلس الوطني الانتقالي في 19 حزيران / يونيو 2012. كما كانت  تطرح عوائق مرتبطة بعددٍ من القضايا، من بينها توزيع الموادّ الانتخابية في شتّى أنحاء البلاد، وتدريب مراقبي الانتخابات؛ الأمر الذي اضطرّها إلى تأجيل موعد الانتخابات إلى تاريخ 7 تموز / يوليو. وتُضاف إلى هذه الاعتبارات، مشاكلُ أخرى متعلّقة بالمواطنين المهجّرين أثناء الثّورة؛ كأهالي مدينة تاورغا،  وبعض أهالي المناطق الأخرى التي هُجِّرت نتيجة اتّهامها بموالاة القذّافي خلال فترة الثورة.

خلاصة ما سبق، هو أنّ التّحضير للانتخابات العامّة في ليبيا، قد أظهر حرصًا واضحًا على التوافق؛ وذلك نزولًا عند الاعتبارات المحلّية والعشائريّة والجهويّة، وحذرًا من التجاذبات الحزبيّة. وكان موضوع توزيع المقاعد الانتخابيّة ومراعاتها للمحلّية، قد أثار انتقادات متعدّدة؛ في حين كانت الحملة الانتخابية ضعيفةً بالنسبة إلى انتخاباتٍ بهذه الأهمّية، نتيجة التلكّؤ في التحضير لها، وتأخير قانون الأحزاب. وقد عكس هذا الوضع إلى حدٍّ كبيرٍ طبيعة تشكيل المجلس الوطني المؤقّت وحكومته القائمة على المحاصصة المناطقيّة، كما عبّر عن واقع التناقضات بين النّخب الليبية؛ وذلك بحسب مواقعها المختلفة من مركز صنع القرار ومن النّظام السابق، وتجاذباتها الجهويّة واختلافها الأيديولوجي. ولم تأت هذه التحضيرات للانتخابات العامّة، بمعزلٍ عن تفاعلها مع الديناميّة المجتمعيّة ومبادراتها. ومن أهمّها المبادرات لانتخابات المجالس المحلّية التي حثّت على الالتزام بموعد انتخابات المؤتمر الوطني العامّ وشجّعت عليه. وكان للمؤثِّرات الإقليميّة والدوليّة دورُها -أيضًا- في صياغة المشهد العامّ، وفي التأكيد على المضيّ قدمًا في تحقيق استحقاق أوّل انتخابات عامّة في البلاد.


جدل الجهويّ
ة والحزبيّة

تتجاذب السّاحةَ السياسيّة الليبيّة وجهاتُ نظرٍ مختلفة تبرز التّمايز في التّوجهات الأيديولوجيّة للأحزاب السياسيّة والتي تتجمّع في ثلاثة خطوط عامّة، إسلاميّة وليبراليّة ووطنيّة ديمقراطيّة، كما تظهر تجاذبات جهويّة مهمّة. وقد صيغت -خلال الإعداد للانتخابات العامّة- أنظمة توفيقيّة لاستيعاب هذا التّباين بما يسمح لليبيا بالتقدّم خطوةً نحو استحقاق التحوّل الديمقراطي، من خلال انتخابات المؤتمر الوطنيّ العامّ. لكنّ المحاذير لا تزال مهمّة في بلد صغير سكانيًّا ومترامي الأطراف مساحةً، يجاوره بلَدان (مصر وتونس) يعيشان سيرورة تحوّل ديمقراطي ذات أصداء سياسيّة مؤثّرة في الوضع اللّيبيّ الذي يملك خصوصيّات المختلفة. وفي بلد عرف درجةً من التّدخل الدوليّ في الطريق إلى إسقاط النّظام السابق، مع وجود مصالحَ دوليّة مهمّة - بسبب عامل النفط -، تُطرح مخاوف بشأن المستقبل أيضًا.

على الرغم من تأخّر إصدار قانون الأحزاب فقد نشأت أحزاب عديدة (تعدادها بالمئات بحسب سِجلّ مفوضيّة الانتخابات) لا تخضع لأي ّقانون منظّم لها. إنّ ضعف الممارسة الحزبيّة في ليبيا بسبب نظام الحكم الاستبداديّ السّابق، لم يمنع -حينها- بروز تشكيلات وأحزاب سياسيّة، ولو أنّ معظمها كان يضطرّ للعمل في الخارج، أو يتعرّض في الداخل لصور قهر مختلفة. ولذلك، توفّرَت سمات رئيسة لإمكانيّة تشكّل أحزاب ذات صدقيّة تساعد على المضيّ في التحوّل بدل إعاقته، وستكون متأثّرة بطبيعة ولادتها الجديدة في خضمّ أحداثٍ ثوريّة رفعت الديمقراطية والحرّية إلى المقام الأوّل في أهدافها. لكنّ الشّعب الليبيّ أظهر -من جهةٍ أخرى- درجةً من الوعي والمسؤوليّة والمشاركة في العملية الثوريّة بتلقائيّة، وهو ما يُتيح لطيْفٍ واسع من المستقلّين والناشطين الاجتماعيّين والحقوقيّين إمكانية أخذ دور توفيقيّ في عملية تحوّل صعبة، وضمن التباينات المهمّة الموجودة.

وتبدو الحساسيات الجهويّة التي تظهر في ليبيا مسألةً لا يمكن القفز فوقها، فتجاهلها قد يشجّع على بروز اتّجاهاتٍ أكثر تشدّدًا. وقد عرفت ليبيا منذ شهر تمّوز / يوليو 2011 بوادرَ طرح مشروع الفيدرالية الذي تراجع عنه أصحابه لاعتباراتٍ تتعلّق بتحرير كامل ليبيا، ووحدتها. وعاد الجدل بشأن هذه المسألة مرّةً أخرى بعد الإعلان عن تأسيس مجلس برقة في 6 آذار / مارس 2012، إذ أكّد أنصاره من سياسيّين ووجهاء من شرق ليبيا تمسّكهم بإعلان منطقة برقة "إقليمًا فيدراليًّا"، وطالبوا بـتطبيق النّظام السياسيّ الذي يقرّره دستور عام 1951، إضافةً إلى تدوير الرئاسات الثلاث (رئاسة البرلمان، ورئاسة الحكومة، ورئاسة الدولة) بين الأقاليم الثّلاثة (طرابلس، وبرقة، وفزّان) برعاية البرلمان المنتخب ديمقراطيًّا مراعاةً للعدالة بين الأقاليم. وتطرح هذه التوجّهات محاذير تتعلّق بالوحدة الوطنيّة الليبيّة.

تبقى التساؤلات موجودة في شأن النّجاح أو الفشل، وهي تطرح سجالات مهمّة في المرحلة الانتقاليّة، والتي ستكون مرحلةً ممتدّة حتّى بعد الانتخابات العامّة. فالتحدّيات الجهويّة الجسيمة والتباينات بين الأحزاب وبين النّخب قد تفرض واقعًا قائمًا على الأرض. ففي حين تعدّ الانتخابات العامّة لمؤتمر وطنيّ تأسيسيّ الخطوة الأهمّ على طريق إقامة مؤسّسات شرعيّة، تبرز مبادرات أخرى -كانتخابات المجالس المحليّة- لتؤسّس واقعًا جديدًا على الأرض، وتفتح جدلًا بشأن المركزيّة والديمقراطيّة المحلّية وعن مشكلة التّمثيل. 


جدل المركزي
ّة والديمقراطيّة المحليّة

أدّى الفراغ الدستوريّ في ظلّ النّظام السابق وتفتيت الأدوات المؤسسيّة الفاعلة في المجتمع إلى تعهّد المجلس الوطنيّ الانتقاليّ مهمّات تتعدّى نطاق مهامّه الانتقاليّة. وجاء الإعلان الدستوريّ في آب / أغسطس 2011 في هيئة دستورٍ مصغّر ومؤقّت، يحدّد بعض المبادئ الحقوقيّة ويمنح المجلس الانتقاليّ صلاحيات تشريعيّة ونصّبه أعلى سلطة في البلاد، من دون أن يكون له مقوّمات سلطة فعليّة، وعلى قاعدة تمثيليّة غير قوّية. فإضافةً إلى إصدار قوانين متعلّقة بالانتخابات المقبلة، خوّل المجلس نفسه إصدار قوانين أخرى أيضًا، منها على سبيل المثال قانون 10/5/2012 الذي يندرج في إطار تنظيم الحملة الانتخابيّة، ويفرض قيودًا على حرية التعبير بسبب ما يثيره من غموض والتباس قانونيّ وتأويلات مختلفة[10].

في المقابل، يعدّ المجتمع السياسيّ لليبيا ما بعد الثورة مجتمعًا ديناميكيًّا متحرّكًا، ليس فقط على مستوى تفاعل النّخبة في مشروع تأسيس الدولة الجديدة، بل أيضًا في ديناميّة المجتمع نفسه التي تتجاذبها -في غياب ضوابط مؤسساتيّة- ميول مختلفة. إنّ الاتّجاه الذي لا تزال تنتصر له ليبيا اليوم هو الميل لمأسسة الديمقراطية، سواء كان ذلك في الانتخابات العامّة أم المبادرات المحلّية، وهو ما يثير تساؤلات بشأن الكيفيّة التي ستُدار بها ليبيا في المرحلة الانتقاليّة في واقع مركزيّة ضعيفة التّمثيل، إضافةً إلى مسألة إدارة المناطق المؤجّلة. سيقدّم نجاح انتخابات المؤتمر الوطنيّ المقبلة فرصة لتوفير الشرعيّة التي لم تتوفّر لمجلسٍ انتقاليّ وحكومة أُلِّفت بطريقة المحاصصة بين المناطق وليس على أساس الخبرات.


انتخابات
المجالس المحليّة دعوة "للشّرعنة"

بما أنّ انتخابات المجالس المحليّة في ليبيا لم تدرج ضمن خطّة طريق الإعلان الدستوريّ، ولم تأت بدعوة من المجلس الوطنيّ الانتقاليّ، فقد طُرحت كمبادرات تسعى إلى تغيير الوضع الانتقاليّ القائم. وجاءت تجسيدًا لحراك المجتمع السياسيّ والمدنيّ في ليبيا تحت شعار "تصحيح المسار" انطلاقًا من أنّ إصلاح المجلس الانتقالي يأتي من إصلاح المجالس المحلّية، وأنّ من يحكم البلاد في المرحلة الانتقاليّة لابدّ أن يحظى بثقة هذه المجالس القاعديّة[11]، وتصبح هذه الانتخابات بذلك دعوة إلى "شرعنة" المجلس الانتقاليّ[12]، أي منحه بُعدًا تمثيليًّا انتخابيًّا من جهة، وتكوين أشكالٍ منتخبة للإدارة المحليّة، من جهةٍ أخرى.

ويظهر ممّا تعكسه الآراء على صفحات الصّحف الليبيّة أنّ الانتخابات المحلّية تعبّر عن توق القاعدة الشعبيّة للديمقراطية بعد الثورة، وللتدبير المحلّي والتنظيم، بعد عقودٍ من الفوضى الممنهجة، كما تبرز سعيًا إلى تخطّي الآثار السلبيّة للحرب. ويتخوّف البعض من أن تؤدّي انتخابات المؤتمر العام وحلّ المجلس الانتقاليّ إلى ديمومة مجالس غير منتخبة، ولفترة طويلة قد يحتاج إليها الاتّفاق على دستور جديد ثمّ الاستفتاء عليه. ويظهر أيضًا أنّ المؤيّدين للانتخابات المحلّية يسعون لتكريس علاقات منظّمة ومقنّنة بين المجلس الوطنيّ الانتقاليّ والمجالس المحلّية، والتي اتّسمت بعدم التّنظيم، بما أنّ الإعلان الدستوريّ المؤقّت سيظلّ ساري المفعول خلال فترة إعداد دستور جديد للبلد. وظهرت أيضًا في الأجواء الانتخابيّة المحليّة -في مدينة بنغازي- شكاوى عن فساد وعدم شفافيّة في حالة مجلس مدينةٍ معيّن ذاتيًّا في مرحلة مبكرة من الانتفاضة. وطُرحت مشكلة الثّقة بأن يتولّى مجلس محليّ غير منتخب الإشراف على الانتخابات[13].

بدأت نتائج "شرعنة" تمثيل المجلس الوطنيّ الانتقاليّ تبرز بعد الانتخابات المحليّة الأخيرة في بنغازي (أيار / مايو)، إذ أعلن أعضاءُ المجلس الستّة الممثّلون لمدينة بنغازي استقالتهم، ليحلّ محلّهم 11 عضوًا منتخبًا[14]. في حينها، لم تكن هناك استجابة عمليّة من جانب المجلس الوطنيّ. فقد احتفظ أعضاؤه بعضويّتهم على الرغم من إجراء انتخابات في بعض المدن لاستبدالهم. وكانت المطالبة باستبدال الأعضاء الممثّلين بأعضاء جدد قد بدأت من مصراتة في شباط / فبراير 2012، إلا أنّ "الموقف الذي اتّخذه المجلس الانتقاليّ المؤقّت هو الاستناد للمادّة (22) من الإعلان الدستوريّ والتي تقضي بأنّ إسقاط عضويّة المجلس الوطنيّ الانتقاليّ لا تكون إلّا بناءً على موافقة أغلبيّة ثلثي أعضائه"[15].


الانتخابات
المحليّة والانتخابات الوطنيّة

شكّلت الانتخابات المحليّة عاملًا مساهمًا في تسريع الانتخابات الوطنيّة، وكذا في تعزيز الثّقة بها. بعد زوارة، جاءت انتخابات مصراتة، وهي ثالث المدن الليبيّة من حيث عدد السكّان، والتي جرت في 17 شباط / فبراير 2012 في ذكرى السّنة الأولى لبداية الثورة، كانطلاقة فعليّة لحفز مبادرات إجراء انتخابات في بعض المدن الأخرى، من بينها تاجوراء (في ضواحي طرابلس)، وصولًا إلى بنغازي في19 أيار / مايو. كما كان لها مساهمة في الإسراع في سير الإعداد للانتخابات العامّة، التي لم ير أهالي مصراتة أثرًا لها بعد[16]. وبعد انتخابات مصراتة، أعربت سويسرا -وهي ضمن مجموعة المتعاونين الدوليّين مع بعثة الأمم المتّحدة للإشراف على الانتخابات- عن استعدادها لمساعدة ليبيا في التحضير لانتخابات المؤتمر الوطنيّ[17].

منحت نسبة المشاركة الجّيدة في مصراتة (58%) وفي بنغازي خاصّة (64%)، والعدد الكبير للمرشّحين، صدقيّة لهذه المبادرات[18]. واعتقد المراقبون أنّ الإقبال على انتخابات مجلس بنغازي حفّز الكثير ممّن كانوا يودّون مقاطعة انتخابات المؤتمر الوطنيّ على التّسجيل، وأنّ انتخابات بنغازي ستعطي دفعًا جديدًا لانخراط عددٍ متزايد من المدن والمناطق في مبادرات انتخابيّة محلّية شبيهة[19].

هذه الانتخابات غير العاديّة، والتي بادرت إليها لجان انتخابية مستقلّة وأشرفت عليها، وشهدت حضور مراقبين من مجموعات المجتمع المدنيّ وجمعيات حقوقيّة وصحافيّين أجانب (حالة مصراتة)، لم تحكمها قوانين أو قواعد انتخابيّة وطنيّة. وقد طرحت مخاوف من عدم منح الحقوق اللازمة للجميع أو من أن تتحوّل إلى ساحة لتصفية حسابات سابقة، خاصّةً بسبب ما ظهر أحيانًا من لوائحَ بأسماء عديدة يحظر عليها الترشّح للانتخابات. وكان على الذين وُضعت أسماؤهم في لوائح المحظورين (في بنغازي) أن يسعَوا جاهدين -فرادى- لتبرئة أنفسهم. هذا، في حين أنّ القانون الانتخابيّ قد حلّ هذه الإشكالية بالنسبة إلى الانتخابات العامّة بإسقاطه المحظورات والتعامل بطريقة سليمة مع الأفراد من خلاله.

جعل هذا الافتقار إلى قانون انتخابيّ موحّد للمجالس المحليّة كلّ مبادرة انتخابية تجربةً خاصّة، فكان نمط تنظيمها متروكًا للأوضاع المحليّة. وبغياب إطارٍ تشريعيّ -أو حتّى تنظيميّ- يضع أُسسًا عامّة لها، ترى الناشطة الحقوقيّة عزّة كامل المقهور أنّ "إجراءات الانتخابات -بما فيها تشكيل اللجان- جاءت متباينة من حيث العضويّة أو العدد"، فـ "اللّجنة العليا لانتخابات بنغازي على سبيل المثال تتكوّن في غالبيّتها من قضاة في حين أنّ لجنة انتخابات مصراتة مشكّلة من المجتمع المدني وشخصيّات مستقلّة، [...] كما أنّ المجلس المنتخب في تاجوراء هو مجلس شورى وهو من اختار المجلس المحلّي..."[20].

عكست نتائج الانتخابات الديناميّة المجتمعيّة الخاصّة بكلّ منطقة، وفي المدن الكبرى -كمصراتة وبنغازي-، فاز عدد من المستقلّين، وناشطون في المجال الاجتماعيّ، أو أصحاب الكفاءات، أو الذين كان لهم دور خلال حرب التحرير، إضافةً إلى عددٍ من الأسماء المعروفة بتوجّهها الإسلاميّ (خاصّةً في بنغازي حيث فازوا بنصف المقاعد). ولم تعكس هذه الانتخابات التمثيل التقليديّ، إذ لم يكن للعنصر الجهويّ والعشائريّ دور، إلا أنّها أظهرت -في ظلّ الأجواء غير المستقرّة القائمة- ضعفًا كبيرًا للتمثيل النسائيّ. فلم يفز أيّ وجه نسائيّ في مصراتة على الرغم من ترشّح ثلاث نساء، وعلى الرغم أيضًا من أنّ المشاركة النسائيّة مثّلت ما نسبته 38% من مجموع من أدلَوا بأصواتهم. وفي بنغازي فازت امرأة واحدة فقط، وهي الأستاذة الجامعيّة نجاة الكيخيا، على الرغم من المشاركة النسائيّة الكبيرة، إذ حصلت على 7784 صوتًا في دائرتها الانتخابيّة، وتقدّمت على بقية المترشّحين في مدينة بنغازي. ولا يعكس هذا الأمر واقع الحال، إذ تشهد الدينامية المجتمعيّة مشاركةً نسائيّة مهمّة في المنابر والجمعيّات على اختلافها.

لا شكّ في أنّ الانتخابات المحليّة كانت تمرينًا جيّدًا وغير مسبوق على الديمقراطية، وأكّدت مشروعيّتها من خلال نسبة المشاركة العالية فيها، وتعدّد المدن التي جرت فيها الانتخابات. ويمكن التساؤل ما إذا كانت الفسحة الصغيرة التي سمح بها النّظام السابق في تنظيم انتخابات اللّجان الشعبيّة خلال فترة حكمه، قد ساهمت بطريقةٍ غير مباشرة في نجاح شرائحَ مجتمعيّة محليّة في تنظيم انتخابات المجالس المحلّية بعد الثورة. لقد جرت هذه الانتخابات جميعها من خلال عملٍ تطوّعي دؤوب لعددٍ كبير من المواطنين.

لا تزال المشروعيّة الانتخابيّة في حاجةٍ إلى أُطرٍ تشريعيّة أو تنظيميّة تضع أسسًا لهذه المجالس، فليس لها تفويضٌ واضح، ولا يُعرف مدى النّفوذ الذي ستتمتّع به والسلطات المحلّية التي سوف تمارسها، وما إذا كانت ستتولّى مسؤوليات في التّدبير المحليّ، لكنّها تعدّ البداية على هذه الطريق، انطلاقًا من أنّ التّدبير المحليّ لا يمكن أن يُترك إلى أجلٍ قد يطول (إلى غاية الانتهاء من العمليّة الدستوريّة) لوصاية مركزيّة أو للفوضى. إنّ الانتخابات المحلّية هي صمّام أمانٍ في مواجهة ما يُتوّقع من فوضى، وترى الناشطة هناء القلال أنّها "أفضل طريق لسدّ الباب في وجه كلّ من يتوقّع الأسوأ لليبيا"[21]. وقد فرضت الانتخابات المحليّة واقعًا أمام المجلس الوطنيّ الانتقاليّ، أو المؤتمر الوطنيّ العامّ الذي من المفترض أن يستبدله بعد انتخابات تمّوز / يوليو، لا يمكن القفز فوقه.

جرت انتخابات المجالس المحلّية في ثاني وثالث مدن ليبيا إضافةً إلى مناطقَ أخرى، ولكنها لم تصل إلى العاصمة الليبية طرابلس، باستثناء إجراء انتخابات مختلفة النمط في إحدى ضواحيها (تاجوراء). وربما لهذه الحقيقة عدّة تفسيرات، منها أنّ القدرة على التحكّم في المركز هي أقوى منها في الأطراف، أو أنّ المبادرات الانتخابيّة تؤكّد على قوّة الانتماءات الجهويّة. ومهما يكن، فإنّ هذه الحالة تخلق ديناميّةَ حركة سياسية في الجهات الطرفيّة مختلفة عن المركز، وهو ما تحذّر منه الحقوقيّة عزّة المقهور التي ترى أنّ "مقاومة الديمقراطيّة تأجيج للجهويّة على حساب اللّحمة الوطنيّة"، بما قد تطرحه من مواجهة بين سلطاتٍ منتخبة وسلطة غير منتخبة[22].

لقد دلّت انتخابات المجالس المحليّة على حيويّة المجتمع السياسيّ الليبيّ ما بعد الثورة، وأنّه لا تزال الديمقراطية ومعارضة الوصاية والتسلّط -في إطار هذه الدينامية- الاتّجاه المهيمن في الحراك القاعديّ. وتأتي هذه الانتخابات لتسدّ فراغًا سياسيًّا تعاني منه ليبيا، هذا الفراغ سيستمرّ في مرحلةٍ انتقاليّة جديدة تناقش مستقبل ليبيا الدستوريّ. وهي تُطرح -في إطار هذا النقاش- فعلًا واقعيًّا على الأرض من أجل تعزيز الخيار الديمقراطيّ في وضعٍ يبدو فيه أنّ هذا الخيار ليس مشتركًا بين الجميع وعلى المستوى نفسه. وأظهر الإعداد للانتخابات العامّة -حتّى الآن- اتّجاهات متناقضة في الواقع السياسيّ اللّيبيّ. وكانت الاتّجاهات العامّة التوافقيّة هي الغالبة مع مؤشّرٍ على ضعف أكبر للثقافة الديمقراطيّة السياسيّة بحسب ما أظهرت ذلك مسودات القوانين وكذا التراجع عنها. إنّ غلبة النّزعة الوطنيّة للتّوافق قد تساعد في التّأسيس -وبطريقتها الخاصّة- لثقافة ديمقراطيّة جديدة في حال وضعت على أسس تمثيليّة أقوى.

لهذا، فإنّ إحدى أبرز المسائل التي تواجه المرحلة الانتقاليّة -إضافةً إلى الفراغ المؤسسيّ والدستوريّ الذي عانت ليبيا منه طوال الأربع عقود الماضية- هو الثّقافة السياسيّة السّائدة وما تحتاج إليه من تغييرٍ في أنماط السلوك والقيم والتوجّهات لدى أفراد المجتمع الليبيّ، وما يتطلّبه ذلك من تعزيز أنماط سلوكيّة جديدة يكون أساسها قيم المواطنة، والتمثيليّة الديمقراطيّة، والحريّات السياسيّة، والحكم بالقانون، واحترام الدستور.

في انتظار الانتخابات العامّة للمؤتمر الوطنيّ، يُسجَّل لليبيا إجماع مواطنيها من مختلف فئاتهم على طريق إنجاز الخطوة الأولى في التأسيس لدولة ديمقراطية. يبرز ذلك في نسبة تسجيل عالية للمشاركة بالتصويت في الانتخابات العامّة، ويبرز أيضًا في انخراط القوى الفاعلة على الأرض -بما في ذلك القوى التي شاركت في حسم الصّراع عسكريًّا مع النّظام السابق- في هذه السّيرورة الدّيمقراطية. فاستقالة الرئيس السابق للمجلس العسكريّ لمدينة طرابلس عبد الحكيم بلحاج من منصبه وترشّحه لانتخابات المؤتمر الوطنيّ خطوة لها دلالات في هذا السّياق[23]. ولا شكّ في أهمّية دور انتخابات المجالس المحليّة في تحقيق هذا الإجماع، وفي تكوين النّواة الأولى لمأْسسة الديمقراطيّة في عملية الإعداد لبناء الدولة.

إلاّ أنّ التحدّيات لا تقف في الوضع اللّيبي عند تحقيق الوعد الانتخابيّ، فالمهمّة المقبلة لوضع اللّبنات الأولى لدولةٍ جديدة في ليبيا، ستكون صعبة وربّما طويلة. وهناك تخوّف من تطوّرات على الأرض في إطار الخلافات التي قد تنشأ خلال عمليّة البحث عن دستورٍ جديد للبلاد، وأهمّها التحدّيات الجهويّة والوضع الأمنيّ غير المستقرّ بوجود مجموعات مسلّحة مختلفة. ولهذا، فإنّ المرحلة الانتقاليّة الجديدة تحمل مهمّتين: وضع دستورٍ لليبيا، ووضع ليبيا على السكّة الانتقاليّة التي تشكّل صمّام أمان في وجه هذه التحدّيات.


 

[1] يبدأ الجدول الزمني -بعد إعلان المجلس الانتقاليّ تحرير ليبيا- في تشرين الأول / أكتوبر 2011-  بإجراء لا تتجاوز مهلته 90 يوما، ويتمثّل في إصدار قانون خاصّ بانتخاب المؤتمر الوطنيّ، وتعيين المفوضيّة الوطنيّة العليا للانتخابات، والدعوة إلى انتخاب المؤتمر الوطنيّ العام. وذلك على أساس أن يقع  الانتخاب خلال 240 يومًا من إعلان التحرير. ويحلّ المجلس الوطني المؤقت في أوّل جلسة تعقد للمؤتمر الوطني العام، الذي سيكون بمنزلة جمعية تأسيسيّة تقوم بتأليف هيئة تأسيسيّة لصياغة مشروع الدستور الذي يُعرض على الاستفتاء بعد إقراره خلال 30 يوما، ويُعتمد كأساس لقانون انتخابيّ جديد تجري في ضوئه انتخابات عامّة تشريعيّة لاحقًا.

انظر: الإعلان الدستوري الموجود على موقع المفوضيّة العليا للانتخابات:

http://www.hnec.ly/modules/publisher/item.php?itemid=6

[2]  خالد المهير، "شرائح ليبية ممنوعة من انتخابات بنغازي"، الجزيرة. نت، 28/3/2012:

http://www.aljazeera.net/news/pages/7d465d63-bba8-4dd1-9949-a5c7bc706fef

[3]  انظر: القانون الانتخابيّ النهائيّ، والمسودّات السابقة في موقع: السّياسي الليبي، على الرابط:

http://lyrcc.wordpress.com/2012/01/02/news-354/

[4]  الأمين بالحاج، "حقيقة تقسيم الدوائر الانتخابية لانتخابات المؤتمر الوطني العام"، صحيفة ليبيا اليوم، 10/6/2012.

http://www.libya-alyoum.com/news/index.php?id=21&textid=9130

[5] أدخلت تعديلات على الإعلان الدستوري في 12/3/2012، وتتمثل في أن تُتّخذ جميع  قرارات المؤتمر الوطنيّ بأغلبية الثلثين، كما يجري استفتاء بموافقة  ثلثي المقترعين. انظر: "المجلس الوطني يقرّ تعديلات في الإعلان الدستوري"، موقع ثورة ليبيا، 13/3/ 2012.

http://www.thawralibya.net/index.php?option=com_content&view=article&id=4121:2012-03-14-02-30-32&catid=77:policy&Itemid=510

[6]  قانون الدوائر الانتخابيّة على صفحات مفوّضية الانتخابات:

http://www.hnec.ly/uploads/publisher/9_ntc_2012_14.pdf

[7] "مشروع قانون الأحزاب ...خلافات داخل المجلس وانتقادات واسعة خارجه"، موقع ليبيا اليوم، 30/4/2012.

http://www.libya-alyoum.com/news/index.php?id=21&textid=9537

[8]  انظر نصّ قانون الأحزاب النهائيّ:

http://lyrcc.files.wordpress.com/2012/05/libyan-party-law.pdf

[9]  انظر موقع المفوّضية الوطنيّة العليا للانتخابات:

http://www.hnec.ly/

[10]  يعدّ -بحسب القانون المذكور- غير قانونيّ أيّ عمل يمكن أن يضرّ ثورة 17 شباط / فبراير (من دون تحديد ما يعنيه ذلك)، كما يعاقب بالسّجن أيّ شخص يهين الإسلام أو هيبة الدّولة أو مؤسّساتها أو السّلطة القضائيّة، وكلّ شخصٍ يهين علنيًّا الشعب الليبي أو شعار ليبيا أو علمها.

George Grant, "Libya did not fight to have freedom of speech restricted", Libya Herald, 10/5/2012.

http://www.libyaherald.com/libya-did-not-fight-to-have-freedom-of-speech-restricted/

[11]  عبدالحفيظ العبدلي، "بعد انتخابات محليّة في مصراتة.. سويسرا تُسهم في المسار الديمقراطي في ليبيا"، سويس إنفو، 22/2/2012:

http://www.swissinfo.ch/ara/detail/content.html?cid=32160868.

[12]  انظر: عزة كامل المقهور، "مفاجأة التحوّل الديمقراطي في ليبيا: انتخابات المجالس المحلية (الدعوة إلى شرعنة المجلس الوطني الانتقالي)"، موقع ليبيا المستقبل، 24/5/2012:

http://www.libyaalmostakbal.net/news/clicked/22897.

[13]  تقول هناء الصديق القلال، التي اختيرت في بدايات الثورة لتكون عضوًا في المجلس المحلّي لبنغازي وتقلّدت حقيبة التعليم، وهي الآن ناشطة حقوق إنسان في بنغازي: "لقد تخلّصنا من القذافي، لكن ليس من النظام". وعبّرت عن مخاوفها من أن يقوم المجلس بالتلاعب بالانتخابات الوطنيّة.

انظر: هناء الصديق القلال، "انتخابات المجالس المحليّة هي دعم للوحدة الوطنيّة والديمقراطيّة"، صحيفة ليبيا اليوم، 24/5/2012:

http://www.libya-alyoum.com/news/index.php?id=21&textid=9953

[14]  شجّعت مواقف بنغازي على إعلان بعض أعضاء المجلس الوطنيّ الانتقاليّ الممثلين لمصراتة التخليّ عن مناصبهم لصالح المنتخبين الجدد.

George Grant, "Benghazi NTC members stand aside for new local council representatives", Libya Herald, 22/5/2012.

http://www.libyaherald.com/benghazi-ntc-members-stand-aside-for-new-local-council-representatives-jalil-calls-on-misrata-to-follow-suit/

[15]  عزة كامل المقهور، مصدر سبق ذكره.

[16]  بحسب تصريحات سليم بيت الله المرشّح لرئاسة المجلس المحليّ المنتخب في مصراتة، والذي قال: "الانتخابات لا نكاد نرى لها أثرًا في الميدان". (انظر: عبد الحفيظ العبدلي، مصدر سبق ذكره).

[17] المصدر السابق.

[18] تنافس 242 مرشّحًا في مصراتة على 28 مقعدًا، وفي بنغازي تنافس أكثر من 440 مرشّحًا على 44 مقعدًا في المجلس المحلي.

[19] خالد المهير، "حظوظ الفيدرالية بعد انتخابات بنغازي"، الجزيرة. نت، 22/5/2012.

http://www.aljazeera.net/news/pages/b99869f2-2cc7-4d83-88c5-b89a7f53bdf5

[20]عزة كامل المقهور، مصدر سبق ذكره.

[21] هناء الصديق القلال، مصدر سبق ذكره.

[22] عزة كامل المقهور، مصدر سبق ذكره.

[23] "بلحاج يخوض انتخابات ليبيا"، الجزيرة.نت، 16/5/2012.

 http://www.aljazeera.net/news/pages/845de01f-bbac-4165-bed1-183fcdfed218