العنوان هنا
مقالات 28 ديسمبر ، 2016

انتخاب ترامب: دلالات ونتائج

الكلمات المفتاحية

ميشيل كيلو

كاتب ومحلّل سياسيّ ومترجم سوري. شغل منصب رئيس مركز حرّيات الدّفاع عن حرّية الرّأي والتّعبير، إضافة إلى نشاطه في لجان إحياء المجتمع المدنيّ، وكان أحد المشاركين في صياغة إعلان دمشق. ترجم كيلو العديد من كتب الفكر السّياسيّ إلى العربيّة منها كتاب الإمبرياليّة وإعادة الإنتاج وكتاب الدّار الكبيرة، ولغة السّياسة والوعي الاجتماعيّ. إضافة إلى كونه صاحب تجربة نضاليّة كبيرة في الدّفاع عن الحرّيات العامّة والسّياسيّة في سورية أدّت إلى اعتقاله مرّتين. وهو عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.

لفهم نجاح ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية، لا بد من استحضار بعض مقدماتها والتعريج على بعض نتائجها.


في المقدمات

لا شك في أنّ انتخابات أي دولة عظمى تتخذ دومًا طابعًا تفاعليًا مع البيئة الدولية السائدة. يصح هذا القول بصورة خاصة على انتخابات رئيس أميركا الذي يعدّ ضربًا من رئيس عالمي، ويمارس في أحيان كثيرة دور رئيس كهذا، بخاصة خلال الأزمات التي  تتقاطع عندها مصالح دولية متعددة الأطراف ومتناقضة، سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم عسكرية؛ فانتخاب الرئيس الأميركي يمكن عدّه محصلةً للأوضاع الدولية، أو انعكاسًا دوليًا على أوضاع أميركا بوصفها مديرةً لشؤون العالم، عظيمة القدرات عمومًا والصلاحيات في أغلب الأحيان، لذلك من الصعب النظر إلى انتخابه كما يُنظر إلى انتخاب رئيسَي روسيا والصين، على الرغم ممّا بين الدولتين من فروق لمصلحة الأخيرة؛ فانتخاب باراك أوباما تأثّر إلى حدٍ بعيد بضرورة تركيز علاقات واشنطن مع العالم الإسلامي وتكثيفها، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وفشل محاولات الانفراد بقيادة العالم في عهد الرئيسين بوش الأب والابن، وبعد نجاح أميركا في رئاسة كلينتون في إمساك مفاصل آسيوية وأفريقية إستراتيجية كانت واشنطن ضعيفةً فيها أو غائبةً عنها. وحين تبيّن بعد ذلك فشل سياسة الانفراد بالعالم وبرز التوجس من مواجهة العالم الإسلامي بالقوة، بخاصة بعد غزو أفغانستان والعراق وما تعرّض له الجيش الأميركي من خسائر فادحة في البلدين، غدا أوباما خيارًا مطلوبًا، بخاصة عندما بلور سياسةً تقوم على دفع تناقضات المسلمين وخلافاتهم إلى حدودها القصوى، وتفجير حروبٍ ومعارك بينهم تُشحن بصور مستمرة متجددة بأعظم قدر من العنف وتمارس فيها إبادات متبادلة تحوّل واشنطن من طرف في حربٍ يستحيل كسبها، ولا أحد يعرف متى تنتهي وما هو حجم خسائرها البشرية والمالية، إلى جهة تحكيمية تضبط وتيرتها وتسعر نارها وتفيد منها.

 خلاصة القول إنّ العالم يشارك في انتخاب الرئيس الأميركي، في ما يشبه تدخين المدخن السلبي الذي يشارك المدخنين الإيجابيين في الضرر الناجم عن سجائرهم، دون أن يكون هو نفسه مدخنًا أو يشتري السجائر. فما هي الأوضاع الخارجية والداخلية التي تمّ فيها انتخاب ترامب؟


على الصعيد الخارجي

اتسمت الأوضاع الخارجية، أي الدولية، بما يلي:  

  • انهيار حثيث في النظام الدولي الذي عطّلته تناقضات روسيا وأميركا وخلافاتهما، وحالت دون تفعيل مؤسساته المكلفة بتطبيق مبادئ وقوانين تصون الأمن والسلام الدوليَين، وتحمي الشعوب عبر تطبيق قانون التدخل الإنساني من عدوان حكامها، بخاصة منهم الذين يرتكبون مجازر منظمة ضدها، كتلك التي يقوم بها النظام الأسدي ضد شعب سورية الأعزل الذي طالب ويطالب بحقوق تقرّها القوانين والمواثيق والعهود الدولية: كحقّه في الحرية واختيار نظامه سلميًا وبطرق مشروعة دون تدخلٍ خارجي أو إكراه داخلي. ومن يراقب الموقف الدولي يجد أنّ الحدث السوري احتل من 80 إلى 90 في المئة من اهتمام العالم طوال السنوات الست الماضية، دون أن تتمكن الشرعية الدولية ومؤسساتها المنضوية في منظمات الأمم المتحدة من اتخاذ قرار واحد قابل للتنفيذ أو تم تنفيذه فعلًا، بسبب مواقف روسيا والصين في مجلس الأمن المتناقضة مع مواقف الولايات المتحدة التي أحجمت وبقية الدول الغربية عن العمل الجاد لوقف الحرب التي شنّها النظام الأسدي ضد شعب سورية، وأبدت رغبةً واضحةً في إطالتها وتوسيعها وتسعير نيرانها، لتلتهم المزيد فالمزيد من الحطب الإسلامي والروسي، وتغدو قابلةً في أي وقتٍ لتغطية بقية بلدان العالم الإسلامي ومجتمعاته، الأمر الذي يوجب بدوره تعطيل الشرعية الدولية وتهميشها ووضعها جانبًا. باستمرارِ حرب النظام ضد "شعبــه" دون أيّ ردة فعل دولية حاسمة، حوّلتها الأسدية إلى سلسلة مجازر متلاحقة ما لبثت أن صارت يوميةً. وبدل إيقافها سارع كل طرف دولي إلى تحميلها بأهدافه، وهكذا، صارت تدريجيًا أداة واشنطن لتصفية حساباتها مع إيران ونظام الأسد التابع لها، وقدّمت ما هو مطلوب أميركيًا من فرص مفتوحة لترويض روسيا وإخضاعها. في المقابل، رأت فيها إيران البيئة المطلوبة لتثبيت النظام الأسدي، ولإحكام قبضتها على محور خططت لتطهيره من الكثافة السنية، يقع بين مزار شريف في أفغانستان والضاحية الجنوبية في لبنان، وخالت روسيا أنّها تستطيع إجبار الغرب على الاستجابة لمطالب يتعلق جزءٌ كبير منها باستعادة بعض ما كان قائمًا بينها وبين دوله من توازن خلال العهد السوفياتي، بما يتخطى تمامًا سورية ومشكلاتها، بطبيعة الحال.
  • انهيار العلاقات بين أميركا وروسيا، أو بين ما كان يُعرف بالغرب والشرق، سواء ما كان ينضبط منها للشرعية الدولية أو بالمصالح المتبادلة. وقد ترتبت على هذا التطور فوضى لا أحد يرغب في وقفها. والدليل على ذلك هو ندرة ما يقوم به الأميركيون والروس من جهدٍ لكبحها واكتفاؤهم باحتواء ما يمارسه الروس من ضغوط عليهم عبرها؛ في سورية بصورة خاصة، ومن خلال خطوات يقومون بها هنا أو هناك تتكفل واشنطن بإفشالها، مثلما أفشلوا محاولتهم إقامة نظام أمن إقليمي موازٍ للتحالف الدولي الذي كانت واشنطن قد أقامته من أجل الحرب ضد الإرهاب، وضمّت إليه مجموعةً كبيرةً من الدول العربية والأجنبية. لم تتوقف اللقاءات بين أوباما وزعماء الغرب الآخرين وبين بوتين. لكن نتائجها ضاعفت التوتر بين دولهم، بل إنّ علاقاتهم وصلت إلى حدود القطيعة في الموضوع السوري. كثفت روسيا تدخّلها في الحرب السورية وأعطت أميركا فرصة إغراقها في صراعٍ لن يعود عليها بفائدة، ما دام القسم الدولي من مقاصده مرتبطًا بواشنطن التي قررت تجميد أوضاع موسكو الدولية ومصالحها عند نقطةٍ تكاد تكون صفرية، في علاقاتها مع بلدان الغرب المتقدمة التي أخذت تعدّها، بعد ما فعلته في أوكرانيا، جهةً غير جديرة بالشراكة، وشرعت تعاملها كما كانت تعامل السوفيات، وتقصيها عن الحياة الدولية كما كانت تقصيهم، وتوتر قادتها وتخرجهم عن طورهم، لأسباب منها أنّ تقدّم روسيا وخروجها من أوضاع صعبة اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا يتوقف على انضوائها في سياقات اقتصادية غربية تتيح لها تطورًا ثابتًا مستمرًا أو تحجب عنها فرص اللحاق بالعالم. دخلت روسيا إلى سورية كي تخرج من احتجاز دولي خانق، فغرقت في احتجاز سوري استنزافي، ليست في حاجة إليه، لأنه يلتهم جزءًا كبيرًا من احتياطياتها النقدية التي تتناقص في ظل التراجع الانهياري لأسعار النفط والمواد الأولية. وهي موردها الرئيس الذي أعادها إلى تبعية شبه استعمارية للسوق الدولية، يمثّل التخلص منها والتخفيف من مفاعيلها الجزء الرئيس من مشكلاتها مع الغرب والتي قامت بدور مهمّ في دفعها إلى التورط في صراع سوري أرادت له أن يسهم في إخراجها من بؤس حالها، فلم يسهم سوى في زيادة أوضاعها بؤسًا وتأزمًا.

  • تلاشي الطابع السلمي من السياسات الدولية وبروز طابع عنفي اعتمد لغة السلاح في التعامل المباشر مع الأطراف الأضعف (جورجيا، وأوكرانيا، والقرم، وسورية)، وغير المباشر مع الأطراف القوية، بحيث اعتمدت سياسات حافة الهاوية بكلّ ما تضمره من خطورة على العلاقات الدولية وأمن العالم وسلامه (مثل الخط الأحمر الذي وضعته لأميركا تجاه عسكر الأسد ومرتزقته). ولا شك في أنّ العودة إلى سياسة الحشود العسكرية بوصفها وسيلةً من وسائل تسوية العلاقات بين الأمم تعدّ أمرًا لا بد من التوقف عنده في سياق فهم الواقع الدولي وما بلغه من تأزم ويحمله من مخاطر، وأدّى إليه من نظرةٍ هيمنَت لدى أوساط أميركية عديدة ترى في التحدي العسكري الروسي والانكفاء الأميركي بداية نهاية "العظمة الأميركية" التي بنى ترامب معركته الانتخابية على غيابها عن سياسات أوباما، وضرورة استعادتها من خلال إقصاء منافسته هيلاري كلينتون عن الرئاسة، بحجة أنّ عهدها لن يكون غير ولاية ثالثة لأوباما الفاشل والمعادي لأميركا. هذا الميل إلى شحن الأجواء الدولية بالعنف وحلّ النزاعات بالقوة العسكرية أملته رؤيةٌ تبنّاها بوتين تقول إنّ الاتحاد السوفياتي انهار بسبب التفوق الغربي عليه في جميع المجالات، عدا العسكري منها الذي اتسم بالتوازن، وقيام واشنطن في عهد الرئيس ريغان بتفعيل عناصر التفوق لتجميد التوازن العسكري ثم كسره بإسقاط النظام الروسي. واليوم، يُعدّ التوازن العسكري هو الأمر الوحيد المتاح من جديد لروسيا التي تراجعت كثيرًا في سائر المجالات الأخرى. ولتحسين مواقعها في مواجهة الغرب والعالم، غدا استخدام هذا التوازن وسيلةً إستراتيجيةً قررت روسيا استعمالها، على الرغم من أنّ ما ستؤول إليه كان جليًا؛ أعني شحن علاقات روسيا الدولية ومع واشنطن بتحدياتٍ مسلحة يحمل الرد عليها إمكانية نشوب عدد غير محدود من  الصراعات والحروب، أوّلها الحرب على سورية التي سرعان ما تحوّلت ثورتها بفعل التدخلات الخارجية وافتقارها إلى قيادة ثورية إلى صراع بين العرب وإيران، وإيران وتركيا، وروسيا وأميركا. وصار من الصعب ضبطه في ظل تعطيل الشرعية الدولية ومؤسساتها وانهيارها، وتلاشي الطابع السلمي للعلاقات الدولية، والاختلال الشديد في التوازن الدولي الناجم عن تحكّم الولايات المتحدة في مفاصل الاقتصاد والتقنية والانتشار الإستراتيجي العسكري والسياسي في العالم، وتعاظم قدرتها على تخفيض قدرة روسيا على الاندماج في العالم الحديث، والإفادة من ثرواتها الطبيعية، والمحافظة على أسعارها في السوق الدولية، والتفلّت من قانون تناقض حدي التبادل، بحيث يواصل دخلها انخفاضه على الرغم من زيادة ما تصدره من ثرواتها وسلعها إلى الخارج. وهو القانون الذي أدّى سابقًا إلى نهب العالم الثالث وإفقاره، ويؤدي اليوم إلى وضعٍ مماثل في روسيا. لذلك، تعتقد القيادة الروسية أنّها لا تمتلك أي سبيل للتفلّت منه غير التحول بقوتها العسكرية إلى دولة تضع نفسها وتعمل خارج أيّ قانون أو نظام أو شرعية، وإلا لما غزت سورية دون قرار دولي، وهي التي عطّلت جميع القرارات الدولية، وحالت بالفيتو دون وقف حرب نظامها ضد شعبـ "ـه"، بحجة عدم إجازة التدخّل في شؤون دولة مستقلة، حتى بمساعدة منظمات الشرعية الدولية، لأنّ ذلك قد يخدم مقاصد دول بعينها، مثلما حدث في ليبيا.

  • السعي إلى استعادة مناطق نفوذ الاتحاد السوفياتي، والعمل لإحداث انقسام عالمي جديد وإن توجهت السياسات الكبرى بسببه نحو نزاعات عامة وشديدة تنتشر في كل مكان، بما أنّ توسّع أحدهما لا يمكن أن يتم إلّا على حساب الآخرين ومناطق نفوذهم. ولعل غزو الروس سورية، وقبله إشراف جنرالاتهم على تسليح الأسد وقيادتهم معاركه ووقوفهم إلى جانبه دوليًا، واتخاذ كلّ ما هو ضروري من خطى داخل سورية وخارجها لإنجاح حل سلاحي يجلب له نصرًا يسحق به شعبه، وبناء قواعد جوية وبحرية يسمونها متكاملةً في سورية، تحميها معاهدة مدتها تسعة وأربعون عامًا، يؤكد كل ذلك بما لا يحتمل اللبس تصميم موسكو على احتلال سورية والإبقاء على نظامها الراهن، في جميع الأوضاع والأحوال. يضاف إلى ذلك مشروع ضباط الكرملين حول إقامة نظام أمن إقليمي يضم دولًا عربيةً وأجنبيةً، مهمته شنّ الحرب على الإرهاب، ورفضهم الانضمام إلى التحالف الأميركي/ الدولي القائم الذي يخوض هذه الحرب. وعقب ذلك بُذلت مساعٍ أميركية ناجحة لإفشال مسعاهم. وفي النهاية أعلنوا أنّهم عازمون على استعادة مواقعهم في فيتنام وكوبا ومصر والجزائر وفنزويلا، وأقاموا اتصالات مع هذه الدول، وقرروا إجراء مناورات وتمارين عسكرية مع جيوشها. كما أنّهم انخرطوا في سباق تسلح جديد مع أميركا، يدعمون بواسطته إستراتيجية ستنصبّ من الآن فصاعدًا على أولوية الصراع، وليس على التفاهم والتكامل مع أميركا والغرب. والخطير في الأمر أنّ روسيا قررت إعادة رسم أولوياتها الداخلية في ضوء توجهها الخارجي هذا، وبفضل السلطة الرئاسية التي غدت من جديد روح النظام والموقع الوحيد المسيطر فيه، كبحت ما كانت قد بدأته من خطوات ديمقراطية سواء أكان بالنسبة إلى العلاقات بين السلطات أم بخصوص تداول السلطة وما تتطلبه من تبديل وتجديد في النخب. وزاد طينها بلةً ما تمارسه من شحن وتهييج أيديولوجي قومي يتمحور حول رموز تاريخية قامت بدور كبير في توسّع روسيا القيصرية في بلدان الشعوب المجاورة لها أولًا، ثم في العالم، مع ما أدّى إليه ذلك من حروب وعمليات اضطهاد وإبادة شملت بلدانًا بكاملها، نجد اليوم أسماء من قادوا عسكريًا على بوارج البحرية الروسية ومدمراتها، وفي أسماء وحدات جيشها الخاصة والصاروخية وقواعدها. في هذا السياق، لا بد من التذكير بخططٍ وضعها الأميركيون وأعلنوها بعد انهيار السوفيات، تتحدث عن توجيه ضربات نووية إلى موسكو في حال نجحت أيّ محاولة تبذلها لإعادة النظام الشيوعي أو الدولة الروسية الإمبراطورية. ترجم هذه الخطط زحفٌ حثيث لم يتوقف منذ انهار الاتحاد السوفياتي نحو البلدان المجاورة لروسيا، طوّقها بمنظومات سلاح هي الأكثر تطورًا في الترسانة الأميركية، ودفع حلف الأطلسي إلى مواقع لصيقة بحدودها، مع ما ألزم به بوتين وقيادته من أعباء وتكاليف باهظة، وأثاره من تحدٍ داخلي محتمل لنظامه الذي كان يحوّله بسرعة إلى نظام سلطوي من طراز ستاليني أفرز ذات يوم الأسدية السورية وها هو يستعيد ملامحه الأصلية، ويتخلى عمّا كان المجتمع قد حصل عليه من "نتف" ديمقراطية؛ عبر تضييقه على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وعلى القضاء، وإطلاق يد الأجهزة السرية في الشعب عامةً ومعارضيه بصورة خاصة  الذين تعرضوا لعمليات اغتيال أردتهم أحيانًا قرب أسوار الكرملين أو صادرت أموالهم وأخرجتهم من روسيا، أو قضت تمامًا على جماعاتهم بواسطة جهات سرية يتقن تحريكها والتحكم فيها ضابط المخابرات السابق فلاديمير بوتين الذي سحق غروزني عاصمة الشيشان، وها هو يسحق سورية، مزرعته الجديدة بنواطيرها من آل الأسد.
  • استشراء أزمة في النظام الديمقراطي الليبرالي تبدو من خلال عجزه عن مواجهة أزمات هيكلية شرع يواجهها بصورة خاصة بعد سقوط بديله الاشتراكي وتلاشيه، وما يعيشه من تحولات بنيوية في مواجهة تبدلات اقتصادية واجتماعية وسياسية دولية الطابع، تتلازم مع تحولات في مراكز ثقل الاقتصاد العالمي، ومصاعب داخلية تشمل اندماج كل بلد من بلدانه من جهة، ومجموعاتها المشتركة كالاتحاد الأوروبي من جهة أخرى؛ بحيث يمتص تفاوت النمو قدرة البلدان القيادية على تطوير ذاتها وتقديم ما هو ضروري في الوقت نفسه لإقامة قدرٍ من التعادل في نمو المناطق المتخلفة يحفز تقدّمها، بينما تتقدم دول كانت طرفيةً حتى الأمس القريب لاحتلال مواقع مركزية في الاقتصاد العالمي. وتواجه أميركا مشكلات تتصل بالعلاقة بين القطاعات الاقتصادية التقليدية والحديثة، وبين اقتصادها الداخلي والجزء الذي تم تصديره إلى الخارج منه. في حين يواجه العالم حالًا من التشظي والتبعثر أعقبت فشل محاولة إقامة نظام دولي متمحور حول قطب أميركي وحيد، وبروز ظواهر الإسلام الجهادي وتفاقمها بوصفها ذات تأثير فاعل في السياسة والاقتصاد الدوليَين، وانفجار موجات الثورة الديمقراطية العالمية الثالثة في البلدان العربية وما أثارته من إرباك في مواقف القوى العظمى بخاصة منها أميركا، والتحول من إستراتيجية الأطلسي إلى الهادي الذي انخرطت إدارة أوباما فيه، بما يطرحه عليها وعلى العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية من مشكلات غير مسبوقة يصعب انفراد واشنطن وعواصم الغرب بحلّها، لما للصين (والهند) من ثقل ودور، وحق في المشاركة في إعادة صوغ العالم انطلاقًا من مصالحها ونظراتها المختلفة من جوانب عديدة عن نظرات الغرب وقيمه، ولا تتطابق في مجالات متعددة مع مصالحه، ويهدد دورها بوضع حدٍ لنمط النظام الدولي الذي فرضته المصالح الغربية عامةً والأميركية منها بخاصة على بقية العالم. وعلى هذا النمط التكيف من الآن فصاعدًا مع أوضاعٍ وقوى لم يعدّ نفسه للتعامل معها، أقلّه بوصفهم أندادًا وشركاء له لا مفر من تمتعهم بحقوق متساوية في كل شأن، سواء أكان كبيرًا أم صغيرًا.


على الصعيد الداخلي

تزامنت هذه التطورات والانعطافات الجديدة والحادة على الصعيد الخارجي مع معضلات داخلية واجهتها النظم الغربية عمومًا. تجلّت هذه التطورات في عجز القوى الحاكمة عن بلورة حلول عملية ومقبولة شعبيًا لمشكلات مجتمع متقدم تباطأ تطوره وتفاقمت مآزقه، ولم يمتلك بعد المعارف والقدرات الضرورية لمواجهة ما أنتجه تقدّمه من معضلاتٍ أدت إلى تخبط ديمقراطيته الليبرالية الشكل والتنظيم أمام مسائل لا تستطيع الرد على ما تطرحه عليه من قضايا تنتشر فيها وتغطي أكثر فأكثر مجمل قطاعاتها المجتمعية ونشاطاتها. وفي المقابل لا تجد نخبها السياسية حلولًا لمشكلاتها؛ إما لأنّها غدت تقليديةً ومفوتةً، وإمّا لأنها تفتقر إلى تلك القدرات التجديدية التي كانت تبدعها بالأمس القريب طبقاتها المفكرة والمثقفة، وإمّا لأنّها لم تعد تدير ذلك الحوار المتشعب والثري الذي اخترق معظم القرنين التاسع عشر والعشرين، وتميز بصراع الفكرين البرجوازي والشيوعي في طور أوّل، ثم المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي في مرحلة تالية، وبما فرضه حوارهما الصراعي عليهما في مجالاته كافةً من تدافع فكري نظري وعملي وتحديات تطلبت ردودًا دفاعية عن الذات نقدية للآخر، تجددت بها أفكار انصبّت على تطور المجتمع وأنماط إعادة إنتاجه المتنوعة. توقّف الحوار مع الآخر. وأعقبه توقّفٌ شبه تام للحوار مع الذات، وتراجعٌ ملموس بلغ حد التلاشي للقوى الداخلية المطالبة ببديل للنظام. ومثّل دورها وحجمها تحديًا داخليًا دفع عددًا من القوى والجهات المضادة إلى منازلتها فكريًا وسياسيًا. كما حال العجز المتعاظم والفاضح بين النخب والأحزاب الديمقراطية الليبرالية دون إيجاد حلول لمشكلات مجتمعاتها الحديثة التي أنتجها تناقض المستوى الرفيع لتطورها التقني والفجوة الواسعة طبقيًا بين الفئات المرتفعة الدخل وتلك التي تعيش على مستواه الأدنى، وبين أهل البلد الأصليين، البيض في معظمهم والوافدين إليها من الملونين. وبينما طرح التناقض الأول أسئلةً حول اندماجها الداخلي، طرح التباين الثاني عليها مشكلات هوية كانت تعتقد أنّها تخطتها وصارت وراءها منذ زمن بعيد. لذلك لم يخطر ببالها يومًا أنّها ستكون مشكلاتٍ حقيقيةً فيها، وستنتقل إليها من العالم المستعمر والمتأخر. وحين وجدت نفسها حيالها تركت حلّها للتطور الطبيعي، أو واجهتها بوصفها مشكلات عالم متخلف ولا بد أن تحلّ بصفتها هذه، مشكلات برانية بالنسبة إليها، بينما كان مجتمعها يتخذ منها مواقف تراوح بين الرفض والعداء، والقبول بها بوصفها جزءًا من عالمٍ آخر انتقل إليها، أضمر موقفها منه جوانب عنصرية يحكمها اللون والمنشأ والعرق. برزت هذه الجوانب لدى قطاعات متعاظمة من البيض، تراجع لدى كثيرين من أفرادها ما كانوا يتبنونه من قيمٍ إنسانية وتشاركية صاحبت إيمانهم السابق بالقيم الاشتراكية وفقدوا قسمًا كبيرًا منها بعد سقوط التجربة السوفياتية التي عدّت أول الأمر معادلةً لها، ثم رفضت برفضها وسقطت بسقوطها.

باحتجاز الديمقراطية الليبرالية وعجزها عن مواجهة ما يطرحه المجتمع المتقدم عليها من معضلات، بخاصة منها معضلة الهوية التي اقتحمتها وطرحت عليها تحدياتٍ سياسيةً من نمط مفعم بالمذهبية والتعصب الحضاري، وبالسقوط التام لبديلها الاشتراكي/ الشيوعي، انفتحت تجربتها على تطور واجهت خلاله التناقض بين ما كان لها من قيم إنسانية وواقع التنوع الإثني والطبقي والثقافي/ الديني الذي توضع داخله، وسبق لها أن واجهته. ولكن خارجها؛ في البلدان المستعمرة، حيث حلّته بأساليب الاستعمار القهرية ووسائله التي يصعب عليها تطبيقها داخلها بتلك الصور والأشكال القمعية التي اعتمدها خلال ماضيها الاستعماري، ولجأت عوض ذلك إلى العمل لإبقائها تجمعاتٍ طرفيةً داخل مجتمعها الخاص المتكور على ذاته، وبرانية بالنسبة إليه إلى الحد الذي تبدو معه وكأنّها لا تنتمي إليه ومهمشة بسبب لونها وثقافتها وأنماط سلوكها وعيشها وتفكيرها وأديانها ومعتقداتها. في موقف كهذا، يقوّض الطابع الديمقراطي البرجوازي لنظام فقد قيمه وأقدم على التعامل مع قسم من مواطنيه بطرق جعلته خارجيًا وشبه استعماري، لا عجب أن تبرز فيه نزعات عنصرية ردًا على تحدي الهوية، ويذهب تطوره المحتجز اشتراكيًا ويساريًا إلى خيار غالب النزعات اليمينية التي يرجح فيها الطابع العنصري ويخترق جميع أحزابها، بما في ذلك الشيوعية منها، ويُحدث انزياحًا خطيرًا في مواقف المدرسة الليبرالية بصورة خاصة، ويتحدى في الوقت نفسه ديمقراطيتها التي رفضت النازية قيمها باسم العرق، وشرعت ترفضها هي ذاتها اليوم باسم صدام الهويات والحضارات، بالاتكاء على قيم ما قبل ليبرالية، تهدد بإعادة النظر في كثير مما تم إنجازه منذ الثورة الفرنسية إلى اليوم، ليس على صعيد فرنسا وحدها، بل على الصعيد الدولي أيضًا. تزامن هذا التحول مع تهالك الأحزاب التي كانت قد ظهرت قبل عقودٍ عديدة خلال مطالع العصر البرجوازي/ الليبرالي وأواسطه، وعملت أدوات سياسية للطبقة الرأسمالية، قادت ثورتها ثم بناء نظامها الاقتصادي/ الاجتماعي، وهي تكاد تتلاشى في أيامنا، تاركةً مكانها فارغًا لبديل يميني ينمو داخلها ومن حولها، يطرح برنامجًا التقطه ترامب. ويقوم هذا البرنامج على إقصاء الآخر وإخراجه من المجال العام واحتوائه ضمن هوامش برانية بالنسبة إلى "المواطنين الأصليين"، تمثل معازل لا بد أن تكون مراقبةً بإحكام وخاضعةً لآليات إعادة إنتاج ونمط عيش يبقيها خارجية بالنسبة إلى المجتمع الأصلي، وفي أدنى سلّمه.

بتلاشي القيم الإنسانية والليبرالية/ البرجوازية من هذا التوجه اليميني الذي يتصاعد في حياة أوروبا السياسية، على صعيد أحزابها بصورة خاصة، ويفضي إلى صعود يمين جديد عنصري ومعادٍ للديمقراطية وقيمها وللمساواة والعدالة والكرامة الإنسانية، يقاسم اليمين الإسلامي الإرهابي قيمه الرئيسة، نما هذا الميل في أميركا داخل جزء من "الاستبليشمنت"، هو الحزب الجمهوري الذي رشح ترامب نفسه لانتخابات الرئاسة باسمه، وفاز بأصوات مجتمع أصلي وعدَه بإدارة مشكلة الهوية وتفرعاتها من موقع يميني/ عنصري قريب من مواقع اليمين العنصري الأوروبي الذي يتفشى بسرعة في كل مكان بوصفه ردًا لاعقلانيًا وما قبل سياسي حديث على الإرهاب وأمواج اللاجئين. وفي فوزه إقرار بضرورة إعادة النظر في النموذج الديمقراطي/ البرجوازي وتعديله في ضوء قيم يمليها "صدام الهويات" الذي لا يدور اليوم بين داخل وخارج فحسب، بل انتقل إلى داخل مجتمعاته. وصار احتواؤه رهنًا بتجديد قيم ديمقراطية/ إنسانية، وهو تحدٍ يواجه اليوم المثقفين والأحزاب التاريخية، الاشتراكية والليبرالية، أو بقبول قيم اليمين الهوياتي/ العنصري الذي أوصل أحد منتسبيه إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة. ويمثل ذلك خطرًا غير مسبوق على الإنسانية، يفاقم مفاعيله ما سبق شرحه حول انهيار النظام الدولي وعلاقات الدول الكبرى ببعضها، والميل إلى استخدام القوة والسلاح لتسوية نزاعات دولية على قدرٍ كبير من التعقيد، تتمسك بها قوى جبارة وتدافع عنها. سيمسك  ترامب من الآن فصاعدًا بأعظمها، بما يحمله نهجه من احتمالات فائقة الخطورة، بالنسبة إلى الطرق التي سيستخدمها في الدفاع عن تفوّق بلاده الدولي في الخارج، واندماج مجتمعها في الداخل. وستعتمد تصنيفاتٍ ستضع في حال تطبيقها ملايين الأميركيين خارج النسيج الاجتماعي والسياسي الوطني، وستعاملهم بوصفهم استطالةً خارجية متوضعة داخل جسد البلاد الأصلي الذي يرفضها ويجب أن يتخلص منها، إذا أرادت استعادة عظمتها، مع التأكيد أنّ الاستعادة لن تتم بعد اليوم بالقيم التي صنعت واقعها الراهن ، بل ستتم بقيمٍ جديدة مناهضة لها تبطل طابعها الجمعي والتشاركي. هي قيم ما قبل مسيحية مناهضة للمساواة في المواطنة بوصفها إطارًا حقوقيًا/ قانونيًا جامعًا، ودمجية تقتصر على اليانكي وإقصائية تخرج غيرهم من المجال العام. لذلك يجب أن تتسم بقدرات تحشيدية تذكّر بالنازية والفاشية، وتفكيكية تذكّر بالاستعمار، تربط الإثنية البيضاء بقيم الأصالة والإبداع التي صنعت أميركا العظيمة. وتربط غيرها بقيم الكسل والتخلف والبلادة الفكرية والجسدية التي تقوّضها وتجعل من هؤلاء قطيعًا طفيليًا يجب التخلص منهم.


انعكاسات دولية محتملة

هذا الاحتجاز الدولي الخارجي القائم على إعادة اقتسام العالم عبر سياسات صراعية ومسلحة وحروب بالوكالة قد تتحول إلى حروب مباشرة، والذي أنتج قدرًا من التوتر في علاقات واشنطن والعواصم الغربية مع موسكو أغرى كثيرين بالحديث عن حرب باردة جديدة. كما أثار مخاوفهم من نشوب حرب عالمية قالت إحدى محطات التلفزيون إنّ رئيس الصين أعلم شعبه باحتمال نشوبها، وعبّر عن أمله في ألّا تستخدم الأسلحة النووية خلالها. في المقابل، وبسبب الاحتجاز الداخلي للنظام الديمقراطي/ الليبرالي وما يواجهه من مشكلات بنيوية لا حلول لديه لها، بما يملكه من خبرة تاريخية وعدة أيديولوجية وآليات سياسية وإدارية، يخشى جديًا أن يحلّ العالم المتقدم مشكلاته الداخلية بتصديرها في صورة أعمال عنف وإفقار إلى الخارج، أو إلى التخلص منها بالهروب إلى تدابير داخلية تعيد إنتاج مجتمعات أخذ تنوع مكوناتها يغدو عاملًا يحمل عناصر تفجير جدية في أوضاعها، يجنح تيار عنصري يميني متزايد النفوذ والقوة إلى معالجتها من خلال آليات حكم مغايرة أو معادية للديمقراطية ولميراثها السياسي والفكري. يتقارب مع هذا التيار جناح يميني تفرزه ذكريات جماعة ما قبل مجتمعية، ما قبل حديثة، والليبرالية المتعاظمة الإفلاس أيديولوجيًا وممارسةً. يبدو أنّ الرئاسة الأميركية ستنضم إليه في ظل دونالد ترامب الذي كسب انتخابات الرئاسة ببرنامج سبق أن عرض بعض مقوماته الفاشية وملامحه المعادية لقيم المساواة والعدالة الإنسانية المحمّلة بالأحكام المسبقة والإقصائية.

قبل الختام، من المهم الحديث عن النشوة التي شعر بها اليمين الأوروبي بعد نجاح ترامب في أميركا، وعبّر عنها قادته في كل مكان، بخاصة في فرنسا، حيث تحظى زعيمته مارين لوبين بنسبةٍ من أصوات الناخبين تكاد تعادل ما يحصل عليه مرشحَا الحزبين التاريخيين، الاشتراكي والديغولي. وسواء أفازت في انتخابات الرئاسة الفرنسية الوشيكة أم فشلت، فإنّ تقدّم تيار لوبين وحزبها يرجح أن يتعزز إلى أن تجد الديمقراطية الليبرالية مخارج من مأزقها الشامل، وتقرر فتح حوار مجتمعي واسع وصريح حول بدائل لسياساتها وخياراتها، يعيد إحياء البعد الاشتراكي للسياسة الأوروبية، ويرى فيه عامل تجديد روحي للمجتمع، لا بد منه لمواجهةٍ مشتركة بينها وبين العنصرية بوصفها تيارًا يعجز اليوم عن تأمين ما هو ضروري من أفكار وآليات عمل لكبحه واحتوائه وفي الختام دحره.

على الديمقراطية الليبرالية أن تنفتح على نسخةٍ جديدة وموسعة من العدالة الاجتماعية والقراءة الإنسانية المتجددة لقيم الحضارة المدنية البرجوازية، وإلّا انهارت في زمن غير بعيد. هذا إذا لم يقع صدام دولي يتسبب فيه زعيمان فاشيان، يجلس أحدهما في الكرملين وثانيهما في البيت الأبيض. بينما تنزلق البشرية نحو زمن فوضى شاملة وبربرية من النمط الذي طبّقه بوتين وأوباما في سورية، وتنحدر إلى دركٍ من الوحشية سيطبع حياة المجتمعات المتقدمة أيضًا بطابعٍ يخلو من القوانين والقيم والمبادئ الناظمة لعيش البشر المشترك، ستنتجه الديمقراطية الليبرالية التي لطالما اتهمت الاشتراكية بالتسبب فيه، مكذبةً بذلك نبوءة فوكوياما حولها بوصفها نظامًا نهائيًا لا بديل منه لبنِي الإنسان.