العنوان هنا
تحليل سياسات 11 يناير ، 2024

مصر وغزة: ما قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وبعده

نجلاء مكاوي​

مؤرخة مصرية، وباحثة زائرة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. حاصلة على الدكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر من جامعة المنصورة. عملت سابقًا في العديد من المؤسسات البحثية وقدّمت لها الدعم العلمي. صدرت لها عدة كتب، منها: "مشروع سورية الكبرى"، و"الحرب الباردة في أميركا اللاتينية"، والاستراتيجية الإيرانية في الخليج العربي"، و"التوظيف السياسي للدين والقانون في مشروع محمد علي"، و"اليسار الجديد في أمريكا اللاتينية"، إضافة إلى مشاركتها في تأليف كتب أخرى في تاريخ العرب الحديث ونشرها الكثير من الدراسات والمقالات العلمية.

تمتد الحدود أربعة عشر كيلومترًا بين غزة ومصر، الدولة العربية الوحيدة المتاخمة للقطاع، التي أضحت منفذه الوحيد إلى العالم الخارجي بعد حصاره وتطويقه. وإضافة إلى الاعتبارات الجيوسياسية والأمنية، ثمة اعتبارات عربية وإقليمية جعلت مصر، دائمًا، طرفًا رئيسًا ومؤثرًا في أي معادلة تتعلق بغزة، وفي المعادلة الفلسطينية. فمنذ بداية العدوان الإسرائيلي الحالي على غزة (7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023)، حامت أسئلة عدة حول موقف مصر وتصوراتها وما يدور في عقل صنّاع القرار فيها. بيد أن كثيرًا من تلك الأسئلة لم تستقر له إجابة واضحة، وبقي موقف مصر ودورها الأكثر ارتباكًا وتشوشًا، وربما غموضًا، خاصة أنه تشابك مع شؤون مصرية داخلية وخارجية، وعلى رأسها ما يُعدّ "قضايا الأمن القومي المصري"، وفق تعريف النظام الحاكم لها، التي تتموضع داخلها غزة والسياسة تجاهها وإدارة العلاقة معها، بوصفها إحدى تلك القضايا.

تدور الأسئلة حول محاور رئيسة: معبر رفح، فتحه وإغلاقه؛ واحتمال تهجير الغزيين إلى سيناء من عدمها، والعلاقة بين حماس والنظام المصري، وبين الأخير وإسرائيل، ودور مصر في الوساطة لوقف الحرب، وموقعها في التسويات الإقليمية القادمة التي فرضت ضرورتها فرضًا المقاومة الفلسطينية بإطلاقها معركة "طوفان الأقصى". وإن أردنا الوصول إلى بعض الإجابات، فلا يسعنا سوى العودة إلى ما قبل انفجار السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، والاقتراب من تلك المحاور والملفات، سعيًا للفهم.

قبل أن نشتبك مع ذلك كله، ونحاول استيضاح أبعاد الصورة، تتعيّن الإشارة إلى ثلاثة تواريخ مهمة علينا أخذها في الحسبان، ونحن نحاول فهم الموقف المصري؛ لأنها السبب في تشكيل محدّدات السياسة الخارجية المصرية تجاه غزة والقضية الفلسطينية عمومًا. الأول، هو تاريخ العدوان الثلاثي على مصر (تشرين الأول/ أكتوبر 1956) الذي شاركت فيه إسرائيل، بسبب غزة التي كانت تحت الإدارة المصرية، وتحديدًا بسبب عمليات الكتيبة الفلسطينية الفدائية 141 التي أمر بتشكيلها جمال عبد الناصر وأسند قيادتها إلى مدير الاستخبارات الحربية في قطاع غزة البكباشي (المقدم) مصطفى حافظ، فقد أدت عملياتها الفدائية الجسورة إلى قتل نحو 1400 إسرائيلي في ثلاثة عشر أسبوعًا (ما بين نيسان/ أبريل وتموز/ يوليو 1956) وضرب أمن إسرائيل، وتهديد المشروع الصهيوني برمّته. لكن من نتائجها أيضًا عدوان إسرائيل على مصر وغزة، ومن ثم استقرار الدولة المصرية وأجهزتها السيادية والعسكرية على موقف رافض لتحمّل مسؤولية غزة على أي مستوى، بصرف النظر عن أي تحوّلات تالية في السياسة الخارجية المصرية.

التاريخ الثاني أخرج غزة وفلسطين كلها من الدائرة المصرية، وذلك في حزيران/ يونيو 1967، تاريخ الهزيمة المصرية والعربية. فإضافة إلى أنها رسّخت أقدام المشروع الصهيوني، وكانت بمنزلة تأسيس جديد وحقيقي له، فإنها فرضت واقعًا جديدًا على النظام الناصري؛ إذ كان عبد الناصر قبل الهزيمة يَعدّ فلسطين جزءًا من الأمة العربية، وقضيتها قضية تلك الأمة التي تتقدّمها مصر الناصرية، وفي هذا الإطار، كان الداعم الرئيس لتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964 برئاسة أحمد الشقيري، كما كان ذلك حرصًا منه على أن يكون للفلسطينيين كيان رسمي حتى لا تترك قضية فلسطين بيد شعبها ومنظماته الفدائية وثورته المسلحة التي قد تورّط مصر في صدام مع إسرائيل. أما بعد الهزيمة، فقد عمل عبد الناصر في مسارين، مع الفصل بينهما بحسم، أحدهما مصري والآخر فلسطيني، فمن أجل أن "يزيل آثار العدوان" ويحرر بلاده، ألقى بفلسطين وقضيتها على عاتق أصحابها، ودعم المقاومة الفلسطينية، ومدّ يد التعاون إلى حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، وحثّ قادتها على تصعيد أعمالها الفدائية ضد العدو، وأخذِ قضيتهم بأيديهم. وجاء دعمه حفاظًا على القوة العسكرية للمقاومة، وهي عنصر أساسي في المواجهة مع إسرائيل، وفي الوقت نفسه، كانت محاولة لتطويع الثورة الفلسطينية واستيعاب منظمات المقاومة التي كانت القوة العسكرية العربية الوحيدة المستقلة، والقادرة على أن تكون التجسيد الملهم للحركة الشعبية العربية والمصرية المعادية لإسرائيل في مواجهة أي محاولة للتسوية مع الأخيرة. وجاء دعم السلطة الناصرية للمقاومة مشددًا على الفصل بين الجيش المصري والقوى الفلسطينية المسلحة، وتحرير سيناء، وفلسطين كلها، ومصالح الشعبَين الفلسطيني والمصري. في حين تطوّر الأمر حتى قبول عبد الناصر "مبادرة روجرز" في 23 تموز/ يوليو 1970، وهي مبادرة أعلنها وزير الخارجية الأميركي وليام روجرز William Rogers مع تصاعد المقاومة الفلسطينية وحرب الاستنزاف على الجبهة المصرية – الإسرائيلية، وتضمّنت وقف إطلاق النار، وإجراء مباحثات تحت إشراف الأمين العام للأمم المتحدة، للوصول إلى اتفاق حول إقامة السلام العادل والدائم، على أساس قرار مجلس الأمن رقم 242 (22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967)، أي لتحقيق اعتراف متبادل بين الدول العربية وإسرائيل وانسحابها من الأراضي التي احتلتها في عام 1967. بعد ذلك، توترت العلاقة بين عبد الناصر والفلسطينيين؛ إذ نددت الفصائل الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية بقبوله المبادرة، وشنّت عليه هجومًا حادًا، واعتبرت قبوله بها خطوة في مسار تصفية القضية والحلول الاستسلامية؛ ما وسّع الهوّة بين مَن أراد إزالة آثار العدوان وتحرير الجزء المحتل من بلاده (سيناء)، ومن أرادوا تحرير بلادهم المحتلة كاملة (فلسطين)، فدخلت المقاومة الفلسطينية في تناقض علني مع داعمها العربي الرئيس.

ما جرى بعد ذلك كان طبيعيًا، وتحديدًا التاريخ الثالث، المؤسِّس لعلاقة مصر بفلسطين إلى الآن، وهو تاريخ توقيع أنور السادات اتفاقيات "كامب ديفيد" (أيلول/ سبتمبر 1978) مع إسرائيل، الذي على أساسه عقدت مصر مع إسرائيل معاهدة سلام، حُيِّدت بها مصر رسميًا في الصراع العربي - الصهيوني، وأقامت أساسًا حاكمًا للسياسة الخارجية المصرية، ربطها منذ ذاك التاريخ وإلى الآن، بمصالح الولايات المتحدة ومواقفها، وبتحالفها الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني، مع حرص نخبتها الحاكمة دائمًا على تأمين "كامب ديفيد"، والالتزام المشدد بها وبالخيارات كلها المستندة إليها، والالتزامات المترتبة عليها.