العنوان هنا
مراجعات 12 سبتمبر ، 2011

عرض كتاب "الدولة والكنيسة"

الكلمات المفتاحية

علاء بيومي

كاتب وباحث مهتمّ بالشّؤون الأميركيّة، حاصل على شهادة الماجستير في السّياسة العامّة ودراسات السّلام من جامعة دوكين الأميركيّة، صدر له كتابان عن السّياسة الخارجيّة الأميركيّة تجاه الشّرق الأوسط، له العديد من المقالات المنشورة في الدوريّات والصّحف والمواقع العربيّة.

 
العنوان: الدولة والكنيسة

المؤلف: طارق البشري

الناشر: دار الشروق للنشر والتوزيع -مصر

السنة: الطبعة الأولى، 2011

عدد الصفحات: 103


كتاب مهم يستحق القراءة والنقاش والرد لأكثر من سبب، يأتي على رأسها مكانة مؤلّفه وتوقيت صدوره وموضوعه الذي يشغل كثيراً من المصريين، وهي أسباب ينبغي التوقف عندها قبل الخوض في محتوى الكتاب وأسلوب مؤلفه وحجّته الرئيسة وتقييمنا لما ورد فيه من أفكار.


أهمية الكتاب

أولا: مؤلف الكتاب هو طارق البشري القاضي والمؤرخ والمفكر المصري المعروف، والذي يعدّ أحد أعلام الحركة الفكرية في مصر حاليا، ولعلّ أفضل تعريف بمكانة البشري العلمية يحتويها كتاب أصدرته مكتبة دار الشروق المصرية في العام 1999 يتضمن كلماتٍ وبحوثا أُلقيت في ندوة عقدت للاحتفاء بالبشري في العام 1998 في مناسبة تقاعده من السلك القضائي بعد بلوغه السن القانونية[1].

ويحتوي الكتاب المشار إليه، عدة أبحاث تتناول سيرة البشري الذاتية ومؤلفاته وأفكاره، وشهادات بعض أعلام المشهد السياسي والفكري في مصر حاليا في حق البشري، حيث يقول د. حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية في وصفه لمكانة البشري الفكرية "ربما لا أحد يصل لقامة طارق البشري الذي يستطيع أن يحضر للجامعة (يقصد جامعة القاهرة) مناقشا لأطروحة الدكتوراه في قسم العلوم السياسية، وأن يحضر للجامعة مناقشًا لأطروحة دكتوراه في قسم التاريخ، ويحضر مناقشا لأطروحة دكتوراه في قسم الفلسفة، بنفس القدرة والتميز والكفاءة"[2].

وقد تولّى البشري في بداية العام الحالي رئاسة لجنة التعديلات الدستورية المكلّفة من المجلس العسكري الحاكم في مصر منذ ثورة 25 يناير بإدخال تعديلات على الدستور المصري - الذي أوقفت الثورة العمل به- استعدادا لمرحلة ما بعد الثورة المصرية. وقد أثارت التعديلات التي أقرّتها اللجنة جدلا واسعا بين مؤيّد ومعارض، ممّا دفع الكثيرين للنظر إلى المستشار البشري كأحد مهندسي فترة ما بعد الثورة وخصوصًا بعد فوز التعديلات الدستورية بأغلبية أصوات المصريين في استفتاء عام أُجري في آذار/مارس الماضي.

عمومًا لا يتحمّل البشري وحده، بأيّ شكلٍ من الأشكال، فكرة التعديلات الدستورية التي صاغت - إلى حدٍّ كبير - حاضر مصر السياسي منذ الثورة وحتى الآن؛ ولكن رئاسته للجنة التعديلات الدستورية وضعتْه ووضعت كتاباتِه في دائرة الضوء السياسي والإعلامي خصوصًا مع اعتقاد البعض أنّ البشري له توجّهات سياسية إسلامية، وأنّ ترؤّس لجنة التعديلات الدستورية مؤشّر على صعود، وربّما "سيطرة"، التوجّه "الإسلامي" على مستقبل مصر السياسي بعد الثورة.

ثانيا: السبب الثاني لأهمية الكتاب هو موضوعه والذي يدور - كما سنشرح تباعا -على اندماج المسيحيّين المصريين، وهو موضوع بالغ الأهمية لأنه يرتبط بأقلية دينية كبيرة في مصر والعالم العربي، ولأنه يتعلق بقضايا الدين، والعلاقة بين المسلمين والمسيحيين التي تثير عادةً حساسياتٍ كبيرة تجعل الكتابة فيها عملية صعبة للغاية. يُضاف إلى ذلك الجدل اليومي في الصحافة المصرية عن الدور السياسي للكنيسة المصرية، وموقف قيادات الكنيسة من النظام السابق، والعلاقة بين المسلمين والمسيحيين في فترة ما بعد الثورة المصرية، وهي فترة شهدت صعودا للتيارات "السلفية"، وبعض حوادث العنف الطائفي، ومظاهرات ضخمة للمسيحيين المصريين. ولا يخفَى على أحد تصاعد ملف التوتر الطائفي في مصر؛ وكلها أسباب تجعل من الكتاب دراسة جاءت في وقتها.

ثالثا: السبب الثالث هو طبيعة الكتاب نفسه، فنحن - في هذا الكتاب _ لسنا أمام دراسة بحثيّة أو تقرير أو حتّى كتاب في العلوم السياسية أو في التاريخ، وإنما أمام حجّة فكرية سياسية وتاريخية يقدّمها البشري باقتدار بمنهج المفكّرين والمؤرّخين الكبار. فالكتاب صغير للغاية من حيث عدد صفحاته (103 صفحات من الحجم المتوسط)، ولكنه استراتيجي الطابع، إذ يبدو للقارئ أنّ مؤلفه (طارق البشري) مؤرّخ صاحب رؤية واسعة لتاريخ مصر والمصريّين ومستقبلهم، وأنه غير معنيّ بإنتاج كتاب بحثي على غرار كتب علماء السياسة، بل يقدّم في المقابل كتابًا يتناول عددًا من الأفكار الرئيسة المتعلقة بموقف قادة الكنيسة المصرية من الدولة المصرية.

وهي أفكار تتسلسل تباعًا وتشير باستمرار وبحجج منطقية وقوية، إلى وجود مشكلة واضحة وخطيرة في علاقة قيادات الكنيسة المصرية بالدولة المصرية وبالجماعة الوطنية المصرية، وهي مشكلة قديمة عمرها ثلاثة عقود على الأقل ومتعدّدة الجوانب.

و يعود البشري - عبر صفحات الكتاب - إلى عدد من الأحداث والوقائع والتواريخ المهمة التي تبرهن على فكرته، والتي تشعرك أيضا بمصداقية الكتاب وحجّته القويّة خصوصًا أنّ لغة الكتاب مختلفة عمّا هو سائد عند تناول العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في الوقت الراهن، كما أنه ذو نظرة واسعة لتاريخ مصر والمصريين ومستقبلهم لا يجدها القارئ في كثير من الكتابات الشائعة.


خطاب البشري

لعلّ أبرز ما يلفت انتباه القارئ عبر صفحات الكتاب هو اللغة أو الخطاب الذي يتحدث به البشري، ولا نقصد هنا اللغة كمفردات وكأسلوب في الكتابة، وإن كانت كلمات البشري تبدو مختلفة عن الخطاب الدارج في الصحف المصرية، فلغته قانونية إلى حدٍّ ما وراقية وقديمة نسبيًّا تشعرك بلغة كتاب مصر الكبار الذين عاشوا في النصف الأوّل من القرن العشرين وأسلوبهم.

وما نقصده هنا هو خطاب البشري الفكري والسياسي، فالبشري لا يتحدّث خلال الكتاب ككاتب مسلم أو كإسلامي يخاطب المسيحيين المصريين، بل هو يتحدث كمفكر مصري معنيّ بالوطنية المصرية. بمعنى آخر، يرفع البشري شعار الوطنية المصرية، ويعيد القارئ إلى فكرة تبدو مختفية أو نادرة التكرار في الخطاب الإعلامي المصري الراهن، وهي فكرة الوطنية المصرية وأهمية بناء تيّار عام واسع يضمّ المصريين جميعا ويجمعهم على القواسم المشتركة.

وهي فكرة تشغل البشري كثيرا، وكتَب عنها كتبًا منفردة قرأنا منها كتابا مختصرا وهو كتاب "نحو تيار أساسي للأمّة"، وفيه يقول البشري:

عندما نتكلم عن التيار الأساسي وعن كيفية صياغته، لا نقصد بذلك الحديث عن تنظيم سياسي واحد، وأنا أحمد الله سبحانه أنّي لم أدع إلى ذلك قط، لأن التعدد والتنوع هما ساقا الحركة وبهما يقوم التوازن الحركي وبغيرهما نواجه توازن الجمود.

يُقصد بالتيار الأساسي الإطار الجامع لقوى الجماعة، الإطار الحاضن لهذه القوى الذي يجمعها ويحافظ على تعدّدها وتنوّعها في الوقت ذاته. إنه ما يعبّر عن القاسم المشترك لجماعات الأمّة وطوائفها ومكوّناتها السياسية والاجتماعية. التيار السياسي الأساسي هو ما يعبّر عن وحدة الجماعة من حيث الخطوط العريضة للمكوّن الثقافي العام من حيث إدراك المصالح العامّة لهذه الجماعة دون أن يخلّ ذلك بإمكانات التعدّد والتنوّع والخلاف داخل هذه الوحدة.

إنّ صياغة التيار السياسي الأساسي وبلورته لا تنفي إمكانات الخلاف بين مكوّناته واحتمالات الصراع بين تلك المكوّنات، بل إنّ صيغته صيغة حركية تضبط الخلاف والصراع من جانب وتتعدّل وفقا لحاصل هذه الخلافات والصراعات، وهذا بعينه ما تجري تسميته في السنوات الأخيرة باسم المشروع الوطني"[3].

وهنا يبدو البشري مشغولاً بالبحث عن المشروع الوطني المصري الذي يجمع المصريّين على القواسم المشتركة التي توحّدهم بوصفهم أمة واحدة مستقلّة وقوية في مواجهة تحدّيات الخارج والداخل على حدٍّ سواء، لذا يتحدث في كتابه عن اندماج المسيحيين وعن رفض عزلتهم وعن القيادات المصرية الوطنية التاريخية من مسلمين ومسيحيين وحرصهم المتبادل على وحدة المصريين، وهنا يقول البشري:

"عندما يتكلم المسلمون مع الأقباط في مصر، إنما يجب أن نبحث عن الجامع المشترك، أي عن وحدة الانتماء التي تضم الفريقين وهي المصرية، ونجعل المصرية هي الحكم وهي الإطار الجامع، ونجعلها مناط الالتزام على المندرجين فيها في علاقاتهم مع بعضهم البعض، ووحدة الانتماء هي الجامع لهذين. وهي من حيث كونها الجامع لهما، فهي مناط الالتزام في علاقاتهما المتبادلة، وهي تشكل صالحا لهما، يتحاسبون وفقا لها"[4].

ويقول في مكان آخر إنه يتوجّه بكتابه إلى "من يقرأه من جمهور المصريين، المسلمين والأقباط"، وإنه يضع مؤلّفه "في إطار الجماعة الوطنية الكافلة للمزج بين المصريين كافة"، ويقول أيضا إنه لا يقصد بالدولة المصرية "رئيسها أو فردا فيها"، وإنما يقصد الدولة التي بناها المصريون على مدى قرنين من الزمان "إنها نتيجة جهود بناء مؤسَّسي وثقافي تراكمي عمره قرنان من الزمان"[5].

ولهذا يعود البشري إلى التاريخ تكراراً في كتابه، وإلى الفترة الأولى من القرن العشرين على وجه الخصوص، حيث يرى البشري أنّ ظروف المصريين في تلك الفترة تتشابه مع ظروف المصريين حاليًّا، وهنا يرى البشري أنّ استقلال المصريين مازال منقوصًا، وأنّ تدخلات الخارج واضحة، وأن زعماء مصر التاريخيين من مسلمين وأقباط واجهوا ظروفا مشابهة للظروف التي يعيشها المصريون حاليا، وأنهم قدّموا إجابات مهمة ومشروعًا وطنيا يجب أن يتعلم منه المصريون المعاصرون.

وبهذا، يخرج البشري عن ضيق الجدل الراهن ومحدوديته تجاه العلاقة بين المسلمين والأقباط في مصر حاليا، والذي عادةً ما يتناول قضايا كالإسلاميّين والتوتّر الطائفي وموقف النظام المصري السابق وحقوق الأقليات ومواقف القوى الدولية.

فمشروع البشري يبدو أقدم وأوسع من ذلك، وهو مشغول بمشروع وطني اندماجي قديم، ويقول كثيرا في كتابه إن أجداد المصريين - من مصريين ومسيحيين - وضعوا مشروعا وطنيا ليمشي عليه أحفادهم، وإن مِن هؤلاء الأجداد مسيحيين فهموا الإسلام والتراث الإسلامي بدقة وقدّروه، ومنهم مسلمون لا يمكن تسميتهم بالإسلاميين كما يحدث حاليا بل كانوا مسلمين وطنيين لا أكثر ولا أقل.


أزمة قادة الكنيسة المصرية

"نحن لا نتكلم عن الأقباط من المواطنين المصريين، والمصريون يتعاملون مع بعضهم البعض في كل مجالات العيش المشترك، يتشاركون في الأعمال ويتزاملون في المهن والحرف ويتبادلون في التجارة ويمشون معا في الأسواق، ويتزاورون في الدور ويتجاورون في القبور، كما أننا لا نتكلم عن الكنيسة القبطية بحسبانها مؤسسة ذات وضع ديني بالنسبة إلى الأقباط، ولكننا نتكلم عن الإدارة الكنسيّة، أي هؤلاء الذين يتربّعون على قمّة النفوذ في البناء الكنسي الهرمي ويصدرون من القرارات ما يؤثّر في سلوك القبط وفي تعاملهم مع مواطنيهم، وحتى هؤلاء لا نتكلّم عنهم جميعهم، فهم بحكم طبيعة الأمور يكونون متعدّدي الاجتهادات فيما لا يمسّ ثوابتهم الدينية والمذهبيّة، إنّما الذي يعنينا هنا أنّنا نتكلّم على وجه الخصوص عن الاتجاه السائد في الإدارة الكنسيّة في هذه السّنين، وهو قد ساد فيما يظهر الآن في عهد البطريرك الحالي، وفي ظروف نموّ تأثير ما يسمّى بأقباط المهجر في العقود الأخيرة"[6].

تلخّص السطور الأخيرة جزءًا هاما من حجّة الكتاب وخاصّة في ما يتعلّق بالمخاطب الرئيس في كتاب البشري، فالكتاب لا يتحدّث عن سلوك المسيحيين المصريين، ولكنه يتحدث عن قيادات الكنيسة المصرية، وعن التيار السائد فيها وعن مواقف البابا الحالي، ويشير الكتاب في مواطنَ أخرى إلى ما يبدو أنه مشكلة سياسية نابعة من سلوك قيادات الكنيسة.

فالكتاب يقول عبر صفحاته إنّ قيادات الكنيسة تبحث عن نفوذ ما وتريد أن تلعب دورا يتخطّى دورها الديني، فهي تريد أن تجعل من نفسها وسيطًا بين الدولة والمسيحيين المصريّين؛ ولتحقيق هدفها هذا سعت إلى تعميق سيطرتها على المسيحيين المصريين، وعزْلهم عن محيطهم المصري، وسعت إلى التحدث باسمهم دينيا وسياسيا. بمعنى آخر سعت إدارة الكنيسة إلى لعب دور الوسيط السياسي بين المسيحيين والدولة المصرية وخصوصًا رأسها متمثلا في رئيسها السابق (محمد حسني مبارك).

ويقول الكتاب إنّ الدور السياسي السابق يؤدّي إلى عزلة كبيرة للمسيحيين المصريين عن الجماعة الوطنية المصرية، وإلى تقوقعهم على أنفسهم داخل المجتمع المصري، وإلى شقّ عرى وحدة الجماعة المصرية وتفتيت الدولة المصرية أيضا.

فعزلة مكوّن أساسي للجماعة الوطنية المصرية بحجم الأقلية المصرية المسيحية وأهميتها ، لن يؤدّي إلاّ إلى شرخ عميق في بنية الدولة المصرية وقدرتها على مواجهة التحدّيات الداخلية والخارجية على حدٍّ سواء.

ويقول البشري إنّ توجّه إدارة الكنيسة المصرية هذا، زاد تحت قيادة البابا الحالي وأصبح أكثر وضوحاً خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وإن إدارة نظام مبارك السيّئة للحياة السياسية المصرية ولملف العلاقات المسلمة المسيحية ساعدت على ذلك، وإن الأمور ازدادت سوءا مع صعود ما يسمّى بنفوذ أقباط المهجر وزيادة التدخل الدولي وخاصة الأميركي في قضايا "حقوق الأقليات" في مصر.

وهنا يستخدم البشري عبارات قوية للغاية في نقد بعض مواقف أقباط المهجر الأخيرة قائلاً:

"وإذا كنّا اليوم نعاني من الهجوم الأمريكي الصهيوني علينا في كلّ مجالات النشاط، وبكل الوسائل العسكرية والاقتصادية والثقافية والإعلامية ثم نجد مواكبا لذلك حركة أقباط المهجر وصراخهم ضدنا واستقواء الكنيسة القبطية بما لا يخطئه مراقب لشؤوننا على مدى السنوات القليلة الأخيرة وسكوت العاملين من الأقباط في شؤون العيش المشترك والجماعة وهو سكوت يتراوح بين الضعف والهوان أو التأييد الصامت إلاّ ما ندر منهم، فهل يكون لنا أن نعيد كلمة المؤتمر المصري لسنة 1911م التي ألقاها أحمد لطفي السيد وصحبه وعاب على من يتذرّعون بمطالب قبطية "حتى يصلوا بمعونة إنجلترا المسيحية إلى أن يكون لهم في مصر - وهم الأقلية الضعيفة - حقّ السيادة على الأكثرية المسلمة العظمى".

ويضيف البشري قائلا ومحذّرا:

"إن أمر العلاقات الخاصة بالجماعة الوطنية لا يجوز أن ينظر إليها في إطار أوضاع سياسية تتعلق بنصر أو هزيمة في ظروف قصيرة المدى لأن حساباتها ينبغي أن تكون على أساس الآماد البعيدة، ونحن مازلنا نذكر الحروب الصليبية منذ ألف سنة والاحتلال الفرنسي من مائتي سنة ونحسب تاريخيا بمواقف وآثار مازالت تترتب نتائجها ومازلنا أيضا نذكر الجنرال يعقوب الذي استعانت به الحملة الفرنسية على أهل بلده من المصريين".


شواهد وتوجهات

للبرهنة على حجته السابقة يرصد البشري عددا من الوقائع الحديثة مثل امتناع الكنيسة الأرثوذكسية والبابا شنودة عن تنفيذ حكم ملزم أصدرته المحكمة الإدارية العليا في آذار/مارس 2008 يلزم الكنيسة والبابا باستخراج تصريح زواج لشخص مسيحي مطلّق، وهو موقف رأى فيه البشري "خروجا على الدولة قضاءً وقانونا بما تمثله الدولة من تعبير عن الجماعة الوطنية"[7].

ويرصد تصريحات أساقفة تفيد بأن الكنيسة تشترط على الشاب المسيحي أن يستخرج بطاقة انتخابية أولاً لإتمام إجراءات الزواج، وهي مواقف رأى البشري فيها "هدفا سياسيا واضحا"، وهو "أن البطريرك بعد أن امتلك ناصية الغالبية الغالبة من القبط بغير منافس له عليهم، يريد أن يجعلهم قوة انتخابية تثقل موازينه لدى رئاسة الدولة في انتخابات الرئاسة أو المجالس النيابية"[8].

كما يرصد موقف الكنيسة من بعض المسيحيات اللاتي أعلنّ إسلامهن، وبعض الجرائم التي ارتُكبت في الأديرة المسيحية، وتصريحات البابا بخصوص أعداد المسيحيين في مصر والتي يذكر فيها أنه لا يهمّه العدد المعلن.

وهي مواقف توضّح - كما يرى البشري - أنّ قيادة الكنيسة المصرية الحالية تتخطّى دورها الديني ومؤسسات الدولة المصرية، وتحاول أن تقوم بدور تلك المؤسسات القضائي والأمني والإحصائي، وتبحث لنفسها عن دورٍ سياسي على حساب سلطات الدولة المصرية - الضعيفة في عهد مبارك - وبلا تقدير لمصالح الجماعة الوطنية المصرية، التي تتخطى حقبة مبارك، إلى ضرورة الحفاظ على الدولة المصرية ذاتها ومؤسساتها.

هناك شواهد أخرى يسوقها البشري مثل نشاط ما يسمّى "التنظيمات الشبابية القبطية" وتزايد أعدادها، وتنامي الأدوار التعليمية والاجتماعية والترفيهية للكنيسة ممّا زاد من عزلة الشباب القبطي ، وتعمّد إدارة الكنيسة تخطّي أجهزة الدولة - كالقضاء والشرطة ومؤسّسات الحكم المحلية والوطنية - في القضايا الخلافية ومخاطبة رئيس الدولة مباشرةً، وكأن بطريرك الكنيسة هو رئيس شعب (الأقباط) داخل الشعب المصري (المسلم) يخاطب نظيره (مبارك) مباشرة.

ويقول البشري إن الحوادث السابقة تبرهن على ضرورة إخضاع دور الكنيسة المصرية السياسي، وليس الديني، لمزيد من النقاش العام، حيث يؤكّد البشري أكثر من مرة عبْر كتابه أنه لا يتحدث في الدين أو عن الدين أو عن دور الكنيسة الديني، ولكنه يتحدث عن موقف إدارة الكنيسة السياسي وسلوكها في ما يتعلق بقضية الاندماج والجماعة الوطنية المصرية.

ويخشى البشري كثيرا من أن تُغلِّب إدارة الكنيسة السياسي على الديني، وتدفع في اتجاه عزلة الأقباط المصريين وإضعاف اندماجهم في المجتمع المصري. ويقول إن المسلمين المصريين اجتهدوا كثيرا من أجل الوقوف على الفهم الراهن للجماعة الوطنية المصرية، وهو فهم متقدم يساوي بين المسلمين والمسيحيين المصريين تماما وفي حقوقهم انطلاقا من الشريعة الإسلامية. ويبدو أحيانا أن موقف الكنيسة يريد العودة بالمصريين إلى الوراء. وهنا يشير البشري إلى تصريحات بعض قادة الكنيسة التي تشير إلى أن المسيحيين في مصر يعيشون بجوار "جيرانهم المسلمين" في حين يرى البشري أنّ المسلمين في مصر يعيشون بجوار "إخوانهم المسيحيين"، كما ينتقد أيضا حديث بعض الكتابات المسيحية المتكرر عن "الغزو العربي والإسلامي" لمصر

"لقد جاهدنا جهادا تاريخيا - بمسلمينا ومسيحيينا - على طول القرنين التاسع عشر والعشرين، لكي نتجاوز نظام الملّة وننشئ الجماعة الوطنية المصرية بما يكون لدولتها من هيمنة على جميع المواطنين بها وبالتساوي في المعاملة، سواء في الشؤون الخاصة أو شؤون الولايات العامة. ولقد جاهد المسلمون منا في التجديد في الفقه الإسلامي بما يسع مفهوم الجماعة الوطنية وأوضاع المساواة الكاملة في الولايات الخاصة والعامّة وفي فرصها، وإن اختلفت الأديان.

وبعد أن استقرّ هذا الوضع كأصول ثابتة في الفكر السياسي السائد لدى النخب المعبّرة عن الرأي العام الفعّال والفكر الراجح لديه، فوجئنا من بعض القائمين على الإدارة الكنسية، بمن يريد العودة من جديد لنظام الملة ويسنده إلى أسس إسلامية يراها جديرة بالاتباع"[9].

لذا يطالب البشري بإخضاع دور الكنيسة المصرية السياسي لمزيد من النقاش العام، وبمساواتها بغيرها من المؤسسات والتيارات الدينية المسلمة التي تتعرض لنصيب لا بأس به من النقاش والجدل العام والمطالبة بالشفافية من قبل الرأي العام المصري، كما يطالب بمساواة الكنسية مع المؤسسات المصرية الدينية الأخرى في ما يتعلق برقابة الدولة المالية والقانونية.

وينصح البشري في نهاية كتابه الكنيسة المصرية - والنخب المصرية العلمانية ضمنًا- بأن تسعى إلى فهم التراث الإسلامي ومواقفه المختلفة كما فهمه أجداد المصريين من مسلمين ومسيحيين، وأن يفهموا أنّ مصر دولة ذات أغلبية وهويّة مسلمة واضحة، وأنّ الهوية الإسلامية هي مصدر قوّة لا ضعف وضرورة لاستقلال مصر الحضاري لا تقلّ أهميةً عن الاستقلال السياسي والاقتصادي. كما يرى أيضا أنّ تلك الهوية تقتضي من المصريّين السعي إلى إيجاد حلول لمشاكلهم المعاصرة من داخل التعاليم الإسلامية نفسها أولا قبل خارجها، فالعثور على تلك الحلول من شأنه أن يقوي تماسك الجماعة الوطنية المصرية لا أن يضعفها - بدعمه الاجتهاد في الفقه السياسي الإسلامي.


نقد وتقييم

إنّ صغر حجم الكتاب (103 صفحات ) ميزة وعيبٌ في الآن نفسه، فهو سهل القراءة ممّا يجعله في متناول الكثيرين، ولكنه قد يترك القارئ بكثير من الأسئلة التي لا يجد لها إجابات بين صفحات الكتاب، مثل نظرة الكاتب إلى المستقبل وسبل الحل والمقترحات العملية والسياسة الواجب اتّباعها لتخطّي الوضع الراهن المأزوم.

كما قد يشعر القارئ بالحاجة إلى مزيد من المعلومات عن قضايا هامّة يتناولها الكتاب، مثل طبيعة الكنيسة المصرية نفسها وبنيتها الإدارية الداخلية، وعلاقتها بالطوائف المسيحية المصرية الأخرى، وعلاقتها بالتيارات "الإسلامية" والعلمانية في مصر؛ وإلى مزيد من المعلومات عن "أقباط المهجر" وطبيعة نفوذهم وتوجهاتهم، وهي جميعا أسئلة متعلقة بموضوعات وقضايا أثارها الكتاب ولا يتناولها بالتفصيل المناسب.

والواضح أنّ لطارق البشري كتباً سابقة في موضوع الكتاب نفسه - وللأسف لم تسمح لنا الظروف بالاطّلاع عليها قبل كتابة العرض الحالي - وقد يكون فيها مزيد من التفصيل عن الموضوع وإجابات عن الأسئلة السابقة.

كما قد يرى البعض أن الكتاب لا يتعرض إلى التيارات الدينية الإسلامية التي ترفع شعارات متشدّدة في موقفها من المسيحيين المصريين ومن الكنيسة المصرية، وتأثير تلك التيارات في مواقف الكنيسة المصرية التي ينتقدها الكتاب.

والواضح أيضا أنّ جزءًا مهما من الكتاب أُعدّ قبل الثورة المصرية، لذا تشعر أنّ الكتاب يفتقر إلى نظرة إلى مصر بعيون 25 يناير، نظرة تحاول تخطّي مشاكل النظام السابق.

وبناءً على قراءتنا للكتاب أعتقد أننا يمكن أن نخرج منه بالتوصيات التالية:

أوّلاً: ضرورة الخروج من ثنائية الإسلامي المسيحي بتقوية التيار الوطني المصري وجعل مبادئه حاكمة في علاقة جميع التيارات والجماعات المصرية.

ثانيا: ضرورة تعميق فهم المصريين لتراثهم التاريخي والوطني، فلا يُعقل مثلاً أن يقف مصري موقفاً سلبياً من الشريعة الإسلامية وموقفها من الأقباط المصريين، دون دراسة هذا الموقف دراسة واعية ودون الوعي بأبعاده المختلفة. وهذه قاعدة يمكن أن نطبّقها على كثير من الظواهر السياسية المعاصرة، وهنا يجب الإشارة إلى أنّ الكتاب يتضمن فصلاً عن المادّة الثانية من الدستور، ودور الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع في الدستور المصري، ويتضمّن الفصل عددًا من الأفكار المهمة والمتميزة عن هويّة مصر الإسلامية ومعناها وعلاقتها بالدستور، وكونها - بصيغتها الراهنة - ضمانة لحقوق المسيحيين المصريين ليس انتقاصا منها، وهي قضية تستحقّ دراسة أو متابعة مستقلة.

ثالثا: هناك أيضا حاجة لمزيد من الشفافية المعلوماتية فيما يتعلّق بموقف الدولة المصرية من المؤسّسات والجماعات المختلفة، وبطبيعة تلك المؤسّسات وحجمها ومواقفها؛ فاستمرار الضّبابية وقلّة المعلومات لابدّ من أن يعمّقا المخاوف والشّكوك.

رابعًا: بناء دولة مصرية قوّية ديمقراطية وعادلة تبسط نفوذها على الجميع وبالتساوي دون إجحاف، لابدّ من أن يصبّ في صالح الجميع.


[1] إبراهيم البيومي غانم وآخرون، طارق البشري: القاضي المفكر، الكلمات والبحوث التي ألقيت في الندوة العلمية الأهلية للاحتفاء بالمستشار طارق البشري، بمناسبة انتهاء ولايته القضائية في مجلس الدولة المصري، الطبعة الأولى، (القاهرة: دار الشروق، 1999).

[2] المصدر نفسه، ص 51.

[3] طارق البشري، نحو تيار أساسي للأمة، الطبعة الأولى، (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، 2008)، ص 32-33.

[4] طارق البشري، الدولة والكنيسة، الطبعة الأولى، (القاهرة: دار الشروق، 2011)، ص 86-87.

[5] المرجع نفسه، ص 34-35.

[6] المرجع نفسه، ص 47.

[7] المرجع نفسه، ص 12.

[8] المرجع نفسه، ص 17.

[9] المرجع نفسه، ص 27.