العنوان هنا
مراجعات 26 يونيو ، 2011

هل تصبح كردستان العراق قاعدة أميركية؟

الكلمات المفتاحية

هيثم أحمد مزاحم

باحث لبناني في مجالات فكرية وفلسفية وسياسية واستراتيجية مختلفة. نشر دراسات ومقالات ومراجعات كتب باللغتين العربية والإنجليزية في عدد من الصحف والدوريات والمواقع الالكترونية. صدر له كتاب "حزب العمل الإسرائيلي(1968 – 1999) الصادر عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في أبوظبي في العام 2001، وسيصدر له قريباً كتابان: "تطور المرجعية الدينية لدى الشيعة الإثني عشرية"، وكتاب "النظريات السياسية الشيعية الراهنة: من ولاية الفقيه إلى ولاية الأمة". نسق الكتابين عن "إيران" الصادرين عن مركز المسبار للدراسات والبحوث في دبي – مايو 2011 وشارك فيهما . كما شارك في ترجمة عدد من الكتب والدراسات أبرزها كتاب "المفاوضات السورية – الإسرائيلية" الصادر عن مركز باحث للدراسات في بيروت عام 2001، وكتاب غراهام فولر، "العراق في العقد المقبل: هل سيقوى على البقاء حتى عام 2002؟" الصادر عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في أبوظبي. عمل باحثاً في مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق – بيروت (1992- 1998)، ثم عمل محرراً وكاتباً ومراسلاً في صحيفة المستقبل اللبنانية (1999 – 2005)، قبل أن ينتقل ليعمل محرراً وكاتباً ومراسلاً في صحيفة البيان الإماراتية (2005-2006). في ربيع العام 2006 ، انضم إلى وزارة شؤون الرئاسة حيث عمل محللاً وباحثاً في قسم الشؤون الإعلامية حتى يوليو 2009. وفي العام 2010 عمل رئيس تحرير لمجلة "العراق اليوم" (أبريل 2010- ديسمبر 2010) في بيروت، ثم انضم ليعمل مدير تحرير في قناة "الاتحاد" الإخبارية منذ أكتوبر 2010 ولا يزال. عضو سابق في الجمعية البريطانية للدراسات الدولية (BISA )، وعضو سابق في جمعية الدراسات الدولية الأميركية ISA)).

العنوان: مستقبل العلاقات الأميركية - الكردية: هل تصبح كردستان مستعمرة أميركية؟

المؤلف: عثمان علي

الناشر:  American Muslims for Constructive Engagement -الولايات المتحدة الأمريكية

السنة: 2009


زار رئيس أركان القوات الأميركية الجنرال مايكل مولن بغداد في 20 مايو 2011، والتقى كبار المسؤولين العراقيين فيها وحضّهم على إجراء مناقشات بشأْن احتمال التّمديد لقوّات الاحتلال الأميركية في بلاد الرّافدين، ممّا شكّك في مصداقيّة التعهّدات الأميركية بانسحاب كامل للقوّات العسكرية في نهاية العام الحالي 2011.

ويأتي كتاب "مستقبل العلاقات الأميركية - الكردية: هل تصبح كردستان مستعمرة أميركية؟" للكاتب العراقي الكردي عثمان علي المقيم في كندا، ليسلّط الضوء على الخطط الأميركية للبقاء في العراق تحت ذرائع وأشكال مختلفة، سواء في السفارة الأميركية في بغداد، أكبر سفارة في العالم، أو في إقليم كردستان العراق، أو غيرهما.

يقول الباحث عثمان علي في مقدّمة الكتاب: في شهريْ نوفمبر وديسمبر من العام 2008، كانت هناك تقارير عديدة في وسائل الإعلام الأميركية والكرديّة عن إمكان إنشاء قواعد أميركية دائمة في إقليم كردستان في شمال العراق. هذه التقارير أعيد نشرُها مع شيء من المبالغة في وسائل الإعلام العربية، لمنح مصداقيّة أكبر للرؤية الراسخة لدى العرب وباقي الشعوب الشرق أوسطية، والقائلة إنّ كردستان ستكون مستعمرة أميركية، أي إسرائيل ثانية في الشرق الأوسط".

ويتناول الكتاب هذه المسألة على ضوء مواقف مسؤولين أميركيّين وأكراد وحساباتهم في هذا الشأن. ويقول عثمان علي إنه من أجل تحديد ما إذا كانت كردستان ستستضيف قواعد أميركية دائمة، يجب أن نحاول الإجابة عن الأسئلة التالية: هل يفضّل الأميركيون إقامة قواعد دائمة في كل أنحاء العراق أو في كردستان فقط ؟ هل الولايات المتحدة مستعدّة للتضحية بتحالفها الاستراتيجي مع تركيا من أجل قواعد قليلة في كردستان الأرض المقفلة أو المعزولة. وأخيراً، ما هي النتائج السياسية والاقتصادية والاجتماعيّة والأخلاقية المحتملة التي تنجم عن هذه القواعد الأميركية في كردستان؟


الاتفاقية الأمنية والقواعد الأمريكية

ينتقل الكاتب إلى استعراض العلاقات الأميركية ــ العراقية، وخصوصاً الاتفاقية الأمنية بين الدولتين في نوفمبر 2008، والتي تتحدث عن شراكة استراتيجية بين البلدين، وتحدد العلاقات التجارية والاستثمارية والدبلوماسية والثقافية والتعاون الأمني بينهما. والاتفاقية الأمنية تلك لا تتضمن أي بنود سرّية، ولا تسمح ببقاء القوّات العسكرية الأميركية ما بعد العام 2011. واستناداً إلى مراقبين سياسيين، فإنّ حكومة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي قد استخدمت رغبة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في جعل الاتّفاقية الأمنيّة إرثاً له، إذ فرض المالكي على الحكومة الأميركية أن تقبل بالشّروط العراقية في الاتّفاقية لجعلها مقبولة لدى معظم العرب المعادين لأميركا ولدى جيران العراق، وخصوصاً إيران.

مع ذلك، يرى الكاتب أنّ الولايات المتحدة لم تستثمر مواردَ ماليّة وعسكريّة وتضحّي بالكثير من جنودها كي تترك العراق من دون أن تكون لها سيطرةٌ ونفوذ جوهريّاْن في شؤونه الداخليّة والخارجيّة لعقود مقبلة. وعليه، فإنّ الحكومة الأميركية ستسعى بكلّ الوسائل الممكنة إلى تعديل الاتّفاقية الأمنية من أجل تنظيم وجود قوّاتها في العراق في المستقبل، وربّما من خلال خلق بيئة تصعيد حروب طائفيّة وعرقيّة ومدنيّة،  ممّا سيضعف الحكومة العراقية ويجعل العراق يبدو كبلد ضعيف ومقسّم ضمن أطر وحدود طائفيّة وعرقيّة. هذا السّيناريو سيدفع حكومة العراق إلى مراجعة الاتفاقيّة الأمنيّة مع الولايات المتّحدة لجعل وجود القوّات الأميركية دائماً في هذه البلاد. ويأتي هذا الاستنتاج من خلال قراءة الخطّة الأميركية الأصليّة لغزو العراق والمخطّط الذي وضع لما بعد مرحلة الرّئيس العراقي السّابق صدّام حسين، ومن خلال قراءة التّجارب الأميركية في الحروب السابقة، والرؤية الأميركية بشأن العراق التي يتبنّاها مسؤولون كبار في إدارة الرّئيس باراك أوباما، بمن فيهم وزيرة الخارجيّة هيلاري كلينتون ونائب الرّئيس جوزيف بايدن. وتدعو هذه الخطّة إلى إقامة قواعد عسكريّة أميركية دائمة في العراق تضمّ بين 40 ألف إلى 50 ألف جندي ولمدّة 50 عاماً على الأقلّ.

واستناداً إلى صحيفة "لوس أنجلس تايمز" ووكالة أسوشيتد برس الأميركيتين في 13 مايو 2007، فقد أراد الرئيس جورج بوش أن يرى الجيش الأميركي يؤمّن استقراراً طويلَ الأمد في العراق على غرار ما يقوم به في كوريا الجنوبية، حيث تتمركز آلاف من القوّات الأميركية في قواعد منذ أكثر من نصف قرن.

لقد اعتقد الرئيس بوش أنّ القوّات الأميركية ستنهي دورها القتالي في العراق لكن الحاجة إليها ستظلّ متواصلة لردع التّهديدات والمساعدة في مواجهة الأزمات السياسيّة المحتملة في العراق، كما فعلت في كوريا الجنوبية.

وقد لخّص الصّحافي ديفيد سانغر من صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية مقاربة الحكومة الأميركية بشأن العراق مستخدمة المثال الكوري، قائلاً: "مسؤولو الإدارة وكبار القادة العسكريّين يرفضون الحديث علناً عن خططهم الطويلة الأمد في العراق. ولكن عند الحديث من دون ذكر اسم المصدر((out of record، يقومون بوصف تصوّر مفصّل جداً. فهم يدعون إلى قيام ثلاث أو أربع قواعدَ كبيرة في البلاد، تكون كلّها خارج المناطق المدنيّة حيث سقطت الأعداد الكبيرة من الضّحايا. وقد تضمّ قاعدة الأسد في محافظة الأنبار، وقاعدة بلد الجنوبيّة والتي تبعد خمسين ميلاً إلى الشّمال من بغداد، وقاعدة طاليل الجويّة في الجنوب".

كما قال الرّئيس السّابق جيمي كارتر في الثالث من فبراير 2006: "يوجد أشخاصٌ في واشنطن لم يرغبوا إطلاقاً في سحب القوّات العسكريّة من العراق. والسّبب هو أنّ هذه القوّات دخلت العراق لإقامة قواعدَ عسكريّة دائمة في منطقة الخليج. ولم أسمع أبداً أياً من قادتنا يقول إنّهم سيلتزمون للشّعب العراقي لعشر سنوات من الآن بأنه لن تكون هناك قواعد عسكرية أميركية في العراق". فالولايات المتحدة قد بادلت قواعد عسكريّة لها في السعودية بقواعدَ جديدة في العراق. ومن أجل التغطية السّياسية خلال الإعداد لغزو العراق في العام 2003، سحبت الحكومة الأميركية تقريباً جميع قوّاتها وبناها التحتيّة العسكريّة من السعودية. كما أنّ قطر تستضيف حالياً مركز القيادة الجوّية الأميركية المشتركة، فيما آلاف الجنود الأميركيين متمركزون في الكويت، حيث يجرون تدريبات، ولديهم قدرة على الوصول السهل إلى قاعدة الإمداد في الدوحة ويمكنهم دعم عملياتهم العسكرية في العراق. مع ذلك، فإنّ الجزء الأكبر من البنية التحتية قد تمّ نقله إلى العراق.

وبالإضافة إلى ذلك، فعندما بدأ التمرّد العسكري للمقاومة العراقيّة يكسب جاذبيّة وسقطت بغداد في فوضى وحرب طائفيّة، بدأ مخطّطو الإدارة الأميركيّة في بناء مجمع عسكري هائل ومحصّن، مؤلّف من عشرين مبنى في قلب المنطقة الخضراء في العاصمة العراقيّة بغداد، وبكلفة 600 مليون دولار، ليكون أكبر سفارة على وجه المعمورة، تملك استقلالية في التزود بالكهرباء والمياه والغذاء وغيرها.

وستكون هذه المنطقة مكان عمل وسكن لما لا يقلّ عن اثنيْ عشر ألف دبلوماسي وجاسوس وحارس ومتعاقد في شركات الأمن الخاصّة وعمّال أجانب يعملون في خدمة سكّان المجمع الأميركي. والمنطق الأميركي في ذلك بسيط جداً: الرّهانات الاستراتيجية عالية. مع أخذ التاريخ وأهميّة نفط الشّرق الأوسط في الحسبان، أضحى العراق بالنسبة إلى الكثير من الأميركيين "المركز الجيوسياسي للمعركة من أجل الطّاقة في العالم".

يقول الباحث عثمان علي إنّه استناداً إلى أداء الحكومات الأميركيّة في العديد من البلدان التي تمّ غزوها فإن الولايات المتّحدة لن تتخلّى عن أيّ منها من دون الحصول على موطئ قدم دائم فيها. ويذكر مثالاً على ذلك خليج غوانتانامو في كوبا بعد الانتصار في الحرب الأميركية ــ الإسبانية في العام 1898، وكذلك مثاليْ ألمانيا واليابان بعد الحرب العالميّة الثانية، والفلبين بعد الغزو الأميركي، وكوريا بعد الحرب الكورية، والخليج العربي بعد حرب الخليج عام 1991. ففي كلّ واحدة من هذه المناطق كان ينجم عن الانتصار العسكري الأميركي، إنشاء قواعد أميركية عسكريّة دائمة ذات أهداف بعيدة المدى.

ويعتقد الباحث عثمان علي أنّ إدارة أوباما ستجد صعوبة في قلب هذا الوضع نتيجة الصّعوبات الاقتصادية التي تعاني منها الولايات المتّحدة الأميركية في الوقت الرّاهن ووعودها بالتغيير. فالإمبراطورية الأميركية ــ على غرار الإمبراطوريات الأخرى ــ كي تستمرّ في البقاء، تحتاج إلى مستعمرات وكذلك إلى تموضع لقوّاتها العسكريّة لفرض نظامها الرأسمالي وحماية طرق مصادر الطّاقة الاستراتيجيّة، وخصوصاً النّفط والغاز.  ويجب أن ينظر إلى احتلال أميركا لكلّ من أفغانستان والعراق ضمن هذا السّياق. فأوباما لا يستطيع تحدّي النفوذ العظيم لجماعتيْ الضّغط (اللوبي) مجمع التصنيع العسكري ومجموعات المصالح النفطية.

وفي انتهاكٍ واضح لوعوده التي قطعها خلال حملته الانتخابية بشأن انسحاب جميع القوّات الأميركية من العراق في غضون ستةَ عشرَ شهراً، أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما في الثالث من فبراير 2009 أنه سيترك نحو خمسين ألف عسكري في العراق حتى نهاية العام 2011. ويرى الكاتب أنّ هذه السياسة تشير إلى عودته إلى عقيدة سلفه بوش، وتظهر فيها بصمات هيلاري كلينتون وجوزيف بايدن. ولم يعد الدبلوماسيون الأميركيون الكبار يخْفون أمر إبقاء بعض القوّات العسكريّة في العراق إلى ما بعد العام 2011 لمساعدة الحكومة العراقية في مسائلَ أمنيّة ولحماية الدبلوماسيّين الأميركيين في العراق.


الإمبراطورية الأميركية

خلال العقدين الأخيرين، كسبت القوّات العسكريّة الأميركية قواعدَ عسكريّة أكثر من أيّ وقت مضى في التاريخ. ويقول تشالمرز جونسون، أبرز مؤرّخ عسكري أميركي، في هذا الصّدد:

"إنّ جيشنا ينشر أكثر من نصف مليون جندي وجاسوس وتقني ومعلم وموظّفين ومتعاقدين مدنيّين في أمم (أو دول) أخرى، من أجل الهيمنة على محيطات العالم وبحارِه، فقد أنشأنا نحو ثلاث عشرة قوّة بحريّة على متن حاملات الطّائرات التي تحمل أسماء تلخّص إرثنا الحربي.. ندير العديد من القواعد السرّية خارج أراضينا لمراقبة ما تقوم به شعوب العالم، بمن فيهم مواطنونا، وما يقولونه وما يرسلونه بالفاكس أو البريد الالكتروني إلى بعضهم البعض. الحرب على الإرهاب ليست أكثر من شعار.. فالولايات المتّحدة ترفعه كي تخفيَ طموحها الإمبريالي. لكن الحرب على الإرهاب هي في أفضل حالاتها جزءٌ صغير من الأسباب التي تقف وراء كل تخطيطنا العسكري. فالسّبب الحقيقي لبناء هذه الحلقة من القواعد الأميركية على مدار خطّ الاستواء هو لتوسيع إمبراطوريّتنا وتعزيز هيمنتنا العسكريّة على العالم".

ويقول الكاتب إنّ وسائل الإعلام تنقل لنا فقط قصصاً عن هذه الإمبراطوريّة الأميركية كتلك التي تتحدّث عن تحرير الجنود الأميركيّين للنّساء الأفغانيّات من الأصوليّة الإسلاميّة، ومساعدتهم لضحايا الكوارث الطبيعيّة في الفلبين، أو حماية البوسنيّين والكوسوفيّين أو الأكراد العراقيّين من التّطهير العرقي، ولكن ليس الأمر نفسه بالنسبة إلى الرّوانديّين والأكراد الأتراك والفلسطينيّين الذين يتعرّضون لنفس التّطهير العرقي من حلفاء أميركا.


الفيدرالية وتقسيم العراق؟

تحدّثت هيلاري كلينتون وجوزيف بايدن، أعلى مسؤولين في إدارة أوباما، أيضاً في مناسبات عديدة عن دعمهما لعراق لا مركزي اتّحادي (فيدرالي). كما كانت هناك دعوات مماثلة من السّفير الأميركي السابق بيتر غالبرايث، وليسلي جيلب الباحثة في مجلس العلاقات الخارجيّة (التابع للكونغرس الأميركي)، تروّج لنهاية العراق كدولة موحّدة، وتدعو إلى تسهيل تقسيمه رسمياً إلى دويلات كرديّة وشيعيّة وسنّية.

ويعتبر الباحث أنّ هذه الدّعوات الأميركية لا تهدف فقط إلى الحدّ من امتداد دمار الحرب الأهليّة العراقية، بل أيضاً إلى احتفاظ الولايات المتّحدة بأكبر قدر ممكن من السّلطة والنّفوذ في المنطقة. فنائب الرّئيس جوزيف بايدن، قد اقترح مراراً وتكراراً، خلال تولّيه رئاسة لجنة العلاقات الخارجيّة في مجلس الشّيوخ الواسعة النّفوذ، تحويل العراق إلى دولة فيدرالية مؤلّفة من ثلاثة أقاليم مستقلّة. وكانت خطّته تقوم على إبقاء نحو عشرين ألف عسكري أميركي في كردستان إضافةً إلى المزيد من القوّات في أماكنَ أخرى في جميع أنحاء العراق. فبايدن قريب جداً من جماعة الضّغط الموالية لإسرائيل في واشنطن. هذا اللّوبي الذي يفضّل رؤية عراق مشرذم وضعيف وحكومة غير مركزيّة في العراق.

ويرى الكاتب أنّ نشوب حرب أهليّة في العراق مجدّداً وعلى مستوى جدّي أكثر أمر ممكن، لافتاً إلى بناء الأميركيين لمؤسّسات مدنيّة وعسكريّة وأمنيّة عراقية لا تعمل على أساس المصلحة الوطنيّة العراقية وإجماع العراقيّين. ويشير في هذا الصّدد إلى هيمنة الشّيعة على الحكومة العراقيّة وإلى تهميشهم للعرب السنّة فيها وفي قوّات الأمن والجيش، وإلى إنشاء قوّات "الصّحوة" السنيّة التي أظهرت خلال مناسبات عدّة أنّ ولاءهم للضبّاط الأميركيين الذين يدفعون لهم وليس للحكومة العراقيّة.

ويستنتج الباحث أنّه على الرغم من المواقف المتكرّرة للمسؤولين العراقيّين بشأن المصالحة الوطنية إلاّ أنّ خطوات عمليّة ملموسة قليلة قد اتّخذت في هذا المجال. وفي المقابل فإنّ العرب السنّة لا يزالون غير مستعدّين لتغيير عقليّتهم التي حكمت سلوكهم خلال عقودٍ طويلة بشأن مركزيّة الحكم وقبول الأكراد والشّيعة شركاء متساوين في البلاد.

ويذهب الباحث عثمان إلى القول إنّ معظم المسؤولين العراقيّين(شيعة وسنّة) مستعدّون لمواصلة السّياسات القديمة للرّئيس السابق صدّام حسين تجاه الأكراد، من خلال رفضهم تطبيق المادّة 140 من الدستور العراقي التي تبطل فصل مناطق كرديّة عن إقليم كردستان من قبل نظام صدام حسين، في إشارة إلى منطقة كركوك. فالأكراد الذين يعتبرون هذه المسألة ذات أهميّة كبيرة قد فقدوا الثّقة بحكومة نوري المالكي نتيجة هذه السّياسة التي تحاول المماطلة وتأجيل حلّ هذه المشكلة. في المقابل يعتقد العرب والتّركمان أنّ الأكراد يحاولون استخدام سلطتهم الجديدة لحرمانهم من حقوقهم المشروعة في المناطق الشّماليّة المختلطة. ويشير الكاتب إلى تصاعد العداء ضدّ الأكراد بين العرب والتّركمان في الشّمال وإلى أنّ كركوك قد أضحت قنبلة موقوتة، على غرار العاصمة البوسنيّة سراييفو التي أشعلت الحرب البوسنيّة، ممّا قد يشعل حرباً في العراق وعلى مستوى أوسع وأكثر خطورة.

ويخلص عثمان علي إلى أنّ الولايات المتّحدة الأميركية على دراية تامّة بهذه القنابل الموقوتة المحتملة، وأنّها لن تتردّد في استخدام هذه المشكلات من أجل إطالة وجودها في العراق. وإذا لم ترغم الحكومة الأميركية لأسباب مختلفة على مغادرة العراق، فإنها لن تتخلّى بسهولة عن مصلحتها في العراق من خلال قواعد أميركية محدودة ودائمة في إقليم كردستان. 


العلاقات التركية - الأمريكية

خلال خمسين عاماً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بنت الولايات المتحدة وتركيا علاقة عمل أطلق عليها الرئيس الأميركي بيل كلينتون في العام 1999 "شراكة استراتيجية". وهذه السياسة ولدت من مصالح البلدين المشتركة. أميركا كقوّة عظمى حفظت مصالح تركيا العالميّة عبر حمايتها من الشّيوعية خلال الحرب الباردة فجعلت من تركيا شريكاً في دهليز الطّاقة من بحر قزوين، ومن خلال مساندة ترشيح أنقرة لعضويّة الاتّحاد الأوروبي. وتركيا كقوّة إقليمية، منحت أميركا دعماً في محيطها الإقليمي ابتداءً من البلقان إلى القوقاز وصولاً إلى الشّرق الأوسط.

والسّؤال اليوم هو إذا ما كانت تركيا لا تزال تمنح أميركا مثل هذا الدّعم، ألا تزال أنقرة مهمّة استراتيجياً لواشنطن؟

بعض النّاس يعتقدون أنّ واشنطن لم تعد في حاجة إلى تركيا. لكن بالـتأكيد لا تحتاج واشنطن اليوم إلى تركيا للأسباب عينها كما في الماضي. ويرى الباحث سنور كاغابتي من المجلس الأميركي ــ التركي في واشنطن أنّ أميركا ستظل على المدى الطويل محتاجة إلى تركيا. فعلى سبيل المثال: المساعدة التركية في العراق، سواء من خلال قوّات حفظ السّلام أو المساعدة في إعادة البناء، ستفيد الولايات المتّحدة في تأمين الأمن والاستقرار هناك. ستحتاج الولايات المتحدة إلى تركيا خارج منطقة الشّرق الأوسط أيضاً، في بحر قزوين، المنطقة المضطربة والتي تضمّ ثاني احتياطي نفطي عالمي. فعلاقة أنقرة التقليديّة الجيّدة مع بلدان بحر قزوين تجعل تركيا شريكاً مطلوباً لواشنطن في مواجهة التحدّيات التي تنتظرها في المنطقة.

يمكن لواشنطن وأنقرة مواصلة التّعاون في مسائلَ عديدة بدءاً من الشّراكة التركيّة ــ الإسرائيلية في "الحرب على الإرهاب". فتركيا لديها سجلٌّ حافل في مكافحة الإرهاب، من خلال إدارة أفغانستان ما بعد الحرب، إلى تشارك المعلومات الاستخباراتيّة مع أميركا ضدّ المجموعات الإرهابيّة.

ولأسباب رمزيّة وتشاركيّة في بيئة ما بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001، ستظلّ أميركا مهتمّة بنجاح تركيا كمجتمع مسلم مزدهر ومسالم. فواشنطن تحتاج إلى أنقرة، ولكن السّؤال هل تحتاج تركيا إلى الولايات المتّحدة؟

إجابة الباحث سنور كاغابتاي عن هذا السؤال هي نعم. فتركيا سوف تحتاج إلى شريك عالمي، وخصوصاً عندما بات واضحاً منذ سنوات عدّة أنّ الاتّحاد الأوروبي غير قادرٍ على منح تركيا عضويّة فيه خلال وقت قريب. ويستدلّ كاغابتاي بأنّ تركيا وهي قوّة إقليمية ذات قوّة محدودة خارج محيطها، ستبقى في حاجة إلى أميركا للحفاظ على مصالحها العالميّة.

وينقل الباحث عثمان علي عن تقرير للجنة الشّؤون الخارجيّة في مجلس الشّيوخ الأميركي لتقييم أهمية تركيا بالنسبة إلى الولايات المتّحدة ولحلف شمال الأطلسي )الناتو(، نشر في 15 مارس/آذار 2007، تحدّده هذه الأهميّة في كونها الدولة الوحيدة العضو في حلف الأطلسي التي تحدّ سوريا والعراق وإيران، كما أن لدى تركيا مئات الجنود على أرض لبنان)ضمن قوّات اليونيفيل(، وهي تتمتّع بعلاقات قويّة مع إسرائيل، وهي عنصر جوهري في ممرّ الطاقة من الشّرق إلى الغرب لتزويد أميركا وأوروبا ببديل لطريق إمدادات الطّاقة )النّفط والغاز( القادمة من الشّرق الأوسط المضطرب وروسيا. كما أنّ حكومة رئيس الوزراء التّركي رجب طيب أردوغان ما زالت منخرطة بشدّة في أفغانستان، وهي تعارض البرنامج النّووي العسكري لإيران. ويضيف تقرير اللجنة بالقول: إنّ تعاون تركيا ضروري لقوّاتنا في العراق. فغالبيّة الإمدادات العسكريّة الضروريّة التي تستخدمها القوّات الأميركية في العراق تنقل جواً إلى تركيا ثمّ تنقل إلى العراق)براً(. وعلى سبيل المثال، فإن 79% من الشّحن الجوّي إلى العراق يتمّ نقله عبر قاعدة إنجليرك )التركية(... فتركيا هي جزء من التّحالف الدولي الذي يعمل على إنجاز حلّ دبلوماسي لاستمرار إيران في عدم التزامها بواجباتها النوويّة الدولية. إنّ تعاوننا مع تركيا في هذه الجهود هو برهان على علاقة العمل الوثيقة بيننا لتشجيع السّلام والأمن العالميّين".

ونتيجة لهذه الاعتبارات، وفّرت الولايات المتّحدة كلّ الدّعم العسكري والمالي واللوجستي للجيش التركي في حربه ضدّ حزب العمال الكردستاني خلال عاميْ 2007 و2008. وخلال زيارة أردوغان إلى واشنطن في العام 2007، وصَف المسؤولون الأميركيّون حزب العمّال الكردستاني بأنه "منظّمة إرهابيّة". وقالت وزيرة الخارجيّة الأميركية آنذاك كونداليزا رايس: "تركيا وأميركا تتشاطران عداءً مشتركاً مع حزب العمّال الكردستاني".

إنّ عداء رئيس حكومة إقليم كردستان، مسعود البرزاني، الشّديد لتركيا يَحول دون أيّ إمكانيّة لأيّ تحالف أميركي ــ كردي. والكثير من المسؤولين الأكراد ينظرون إلى العلاقات التركيّة ــ الأميركية كلعبة "المجموع ــ صفر": إمّا أن تواصل واشنطن صداقتها مع إربيل، عاصمة كردستان، أو أن تتحالف مع تركيا. معظم المسؤولين الأكراد لا يفهمون أنّ هاتين العلاقتين لا تحتاجان إلى أن تكونا حصريّتين بشكل متبادل. كذلك، كانت السّلطات الكرديّة غالباً ما تبلغ مسؤولين أميركيّين زائرين بأنّ كردستان العراق ستكون حليفاً أفضل بكثير من تركيا. فهم لا يدركون سعة العلاقة الأميركيّة - التركيّة ولا الحصيلة الفقيرة للمطالب الكردية حيث تغربل واشنطن تحالفاتها من خلال مصالحها مع أيّ دولة أخرى.

على سبيل المثال: كلّ من إسرائيل والسّعودية تتمنّى أن ترجّح واشنطن علاقتها معها على حساب الدّولة الأخرى، لكنهما تقبلان بأنّ ذلك لن يحدث. لكن البرزاني ليس لديه مثل هذه المقاربة المعقّدة، ويبدو أنه يعتزم إرغام البيت الأبيض على الاختيار بين أنقرة وإربيل. و إذا أصبح الأمر كذلك، سيخيب أمل القيادة الكرديّة.

إنّ التّدقيق في الشّهادات الآنفة الذّكر يظهر الطّبيعة الاستراتيجيّة للرّوابط التركيّة ــ الأميركية. هذه الروابط لها أبعادٌ جوهريّة كثيرة من الصّعب تجاوزها لمصلحة علاقات للولايات المتّحدة مع أيّ حكومة إقليميّة أخرى، فكيف بالعلاقة مع إقليم صغير ومعزول مثل كردستان العراق؟ 


العلاقات الأميركية ــ الكرديّة: مسألة القواعد في كردستان

برزت مسألة القواعد الأميركية الدّائمة في كردستان في وسائل الإعلام الأميركية والشّرق أوسطية منذ سقوط  نظام صدّام حسين. هذه المسألة أثارت اهتماماً أكثر عشيّة المفاوضات الأميركية ــ العراقيّة بشأن الاتّفاقية الأمنيّة. ويقول الباحث عثمان علي إن فهم هذه المسألة، يتطلب مراجعة العلاقات الأميركية - الكردية، وفحص المواقف تجاهها من قبل المسؤولين الأميركيين والأكراد. ويعرض الكاتب لتاريخ هذه العلاقات، حيث يظهر جليا أنّ الولايات المتّحدة كانت تنظر دوماً إلى المسألة الكرديّة في الشّرق الأوسط كمسألة ثانوية، بسبب أولويّة المصالح الأميركيّة الواسعة في إيران وتركيا والعراق.

في العراق، لم تكن السياسة الأميركية مختلفة عن ذلك، ولن تكون مختلفة. وكما كتب فرانسيس ريتشارديوني، وهو دبلوماسي أميركي ومسؤول سابق في وزارة الخارجية: "نتعامل مع الأكراد العراقيّين على غرار تعاملنا مع كلّ الأحرار العراقيّين، ضمن سياق سياستنا تجاه العراق. هذه السّياسة واضحة: ندعم وحدة العراق ووحدته الجغرافيّة كضرورة للسّلام والاستقرار الإقليميّين. وسوف نعارض إنشاء دول أو دويلات منفصلة سواء للأكراد أو لأيّ مجموعة عرقيّة أو طائفيّة عراقية".

كانت المصالح الأميركية في المنطقة خلال عقود معاندة لطموحات الأكراد، فعقيدة الرئيس ترومان لعام 1947 تجاه الشّرق الأوسط هي التي وجّهت السّياسة الأميركية خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثّانية، إذ جعلت احتواء الشّيوعية هدفها الأوّل في تركيا وإيران والعراق. وكان هذا يتطلّب أن تدعم الحكومة الأميركية الوحدة الجغرافيّة لأراضي هذه البلدان الثلاثة. وكانت أهداف الحركة الكرديّة، في معظم الأحوال، تناهض هذه السّياسة الأميركية التي عاملت الأكراد، باعتبارهم أداة محتملة وغير ثابتة للاتّحاد السوفياتي يستخدمها لزعزعة استقرار الشّرق الأوسط.

وقد قام مصطفى البرزاني، والد مسعود البرزاني، مع قادة أكراد آخرين بجهود مثابرة وعديدة للحصول على تأييد أميركي للأكراد، لكن هذه الجهود لم تسفر عن نتيجة. فقد تلقّى الدبلوماسيون والملحقون الأميركيون تعليماتٍ واضحة من الإدارة الأميركية بتجنّب أيّ اتّصال علني مع ناشطين أكراد في الشّرق الأوسط أو أيّ مكان آخر، وذلك لحماية الرّوابط الأميركية مع حكومات العراق وإيران وتركيا. واستمرت هذه السّياسة حتّى عهد الرئيس بيل كلينتون باستثناء فترة بين عامي 1972 و1975. مع ذلك فقد رفض كلينتون والرئيس جورج بوش الأب من قبله لقاء قادة أكراد، إلاّ إذا كانوا جزءاً من وفد عراقي.


الروابط بين البرزاني والولايات المتحدة  (1972 ــ 1975)

في الفترة 1972 ــ 1975 وافقت الولايات المتحدة على دعم الحركة الكرديّة بزعامة البرزاني في التحرك ضدّ النظام العراقي، وذلك بطلب من شاه إيران. فقد ذكر وزير الخارجيّة الأميركي آنذاك هنري كيسينجر في مذكّراته أنّ سنوات الدّعم التي قدّمها البيت الأبيض للبرزاني لم تكن سياسة أميركية أو مبادرة أميركية، بل كانت إرضاء لحليف إقليمي، أي إيران، كان يشعر بتهديد من نظام عراقي مُوالٍ للسّوفيات. هذا الدّعم المالي المؤقّت للأكراد، بمساعدة من جهاز الاستخبارات الإسرائيلي)الموساد( وعبر جهاز الاستخبارات الإيراني (السافاك)، كان جزءاً من السّياسة الواقعيّة والبراغماتيّة، التي طبعت السّياسة الخارجيّة الأميركية في عهد إدارة نيكسون ــ كيسينجر. وقد انتهت هذه السّياسة في الخامس من آذار/مارس 1975 عندما وقّع شاه إيران اتّفاقاً مع صدام حسين. كما أنهى هذا الاتّفاق تقريباً وظيفة البرزاني، التي دامت نصف قرن كقائد للحركة الكرديّة، ووظيفة قوّاته المقاتلة "البشمركة".

ويروي الكاتب الكثير من التفاصيل والشّواهد التاريخيّة عن هذه المرحلة وكيف استخدم الشّاه الحركة الكرديّة ضدّ نظام صدّام حسين وكيف أوقف دعمه لها بعد اتّفاق الجزائر، وكيف التزمت أميركا بدورها وقطعت دعمها للأكراد، على الرّغم من مساعي البرزاني الحثيثة لإقامة علاقات مع الأميركيّين الذين عقد آماله وأحلامه على دعمهم.

فالأكراد ــ بخلفيتهم الريفيّة والفلاحيّة والشّرقية ــ كانوا يروْن في أميركا منقذاً لهم، بينما كانت واشنطن تستغلّهم في لعبة الأمم، لعبة العلاقات الدوليّة، من أجل تحقيق سياسة محدّدة، خصوصاً ضدّ النظام العراقي القريب من السوفيات آنذاك، ضمن استراتيجيّة أميركا العالمية لمواجهة النّفوذ السوفياتي في الشّرق الأوسط.

وكان تقرير للاستخبارات المركزية الأميركية )سي اي ايه( قد كشف أنّ السوفيات حضّوا البرزاني والأكراد على الانضمام لحكومة جبهة وطنيّة في العراق تضمّ الشيوعيّين والنّاصريّين والأكراد تحت قيادة حزب البعث. وتوفرت لديها تقارير في بداية العام 1972 عن توقيع معاهدة سوفياتية مع العراق وأخرى مماثلة مع مصر. وبعدها تجنّبت وزارة الخارجيّة الأميركية ووكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركية أيّ اتصال مباشر مع الحركة الكرديّة وتركتا لإيران وإسرائيل القيام بذلك الدّعم.

وفي مقابل الدّعم السوفياتي للعراق ومحاولته ضمّ البرزاني إلى هذا الحلف، استقبلت الولايات المتحدة وفداً كردياً أرسله البرزاني في حزيران/تموز 1972، حيث حاول الأكراد إقناع الأميركيين بأهميّة الأكراد في مواجهة النظام العراقي والسوفيات، وبأن مصادر النفط العراقي تتركّز في معظمها في المنطقة الكردية، وأنّ كردستاناً قويّة ستكون صوتاً مسموعاً في السياسات النفطية للحكومة العراقية. لكن السياسة الأميركية لم تتأثّر بذلك ولم تتغيّر بشأن الموقف من وحدة أراضي العراق، ولم تتصوّر تلك السياسة تقسيم العراق وجعْل كردستان قاعدة مستقلّة للسّياسة الأميركية في الشرق الأوسط.

وبين عاميْ 1976 و1998، عادت السياسة الأميركية تجاه الأكراد إلى سابق عهدها ما قبل فترة 1972 ــ 1975، وذلك إثر قيام الجمهورية الإسلامية في إيران. فخلال فترة الحرب العراقية ــ الإيرانية (1980 ــ 1988) لم تدعم الحكومة الأميركية تعاون القيادة الكردية مع إيران، بل كانت تطلب من القادة الأكراد العراقيين وفي مناسبات عديدة الابتعاد عن جهود طهران لإسقاط نظام صدام حسين. كما رفضت الولايات المتحدة في آذار/مارس 1988 إدانة استخدام العراق للأسلحة الكيميائية ضدّ المدنيّين الأكراد في بلدة حلبجة. وحاولت الخارجية الأميركية تبرئة نظام صدام حسين من هذه الجريمة من خلال تحميل المسؤوليّة للحكومة الإيرانيّة.

كما قدّمت إدارة الرئيس رونالد ريغان أكثر من ثمانية مليارات دولار كقروض ودعم مالي للحكومة العراقية، إضافة إلى الدعم الإعلامي. وقد استمرّ هذا الدّعم حتى تاريخ غزو النّظام العراقي للكويت عام 1990.

وعلى الرغم من هذه السّياسة السّلبية والتجاهلية الأميركية للأكراد، فقد حرضت القيادة الكردية السكّان الأكراد على الانتفاضة ضدّ النظام العراقي في العام 1991 بعد حرب الخليج وتحرير الكويت. لكن الرئيس جورج بوش الأب ــ ومن أجل الحدّ من قوّة المجموعات الشّيعية الموالية لإيران في العراق ــ سمح لقوّات صدام حسين بقمع الانتفاضة الشّعبية في العراق.

وقد أسفرت ضغوط كلّ من الرّئيس التركي تورغوت أوزال ورئيس الوزراء البريطاني جون ميجور عن صدور قرار من مجلس الأمن الدولي لحماية الأكراد في شمال العراق وإنشاء منطقة آمنة لهم في كردستان. وأظهرت الأحداث أنّ الأكراد كانوا عاملاً ثانوياً في السّياسات الأميركية تجاه المنطقة. فقد رفضت واشنطن في السّنوات التي أعقبت حرب الخليج استثناء منطقة كردستان من العقوبات الاقتصادية الدولية التي فُرضت على العراق، ممّا خلق أوضاعاً صعبة عانى منها السكّان الأكراد، الذين كابدوا حصاراً مزدوجاً من النظام العراقي وعقوبات الأمم المتّحدة.


القواعد الأميركية في كردستان

قبل أيّام من توقيع الاتّفاقية الأمنيّة بين الولايات المتّحدة والعراق، صرّح مسعود البرزاني في واشنطن قائلاً: "كلّ الجهود ستؤدّي في الوقت الراهن إلى توقيع الاتّفاقية الأمنيّة، ولكن إذا لم توقّع وإذا طلبت الولايات المتّحدة أن تبقي قوّاتها في كردستان، أظنّ أنّ البرلمان والشّعب والحكومة في كردستان سيرحّبون بحرارة".

وقد أعادت صحيفة "خابات"، الناطقة باسم الحزب الديمقراطي الكردستاني نشر تصريح البرزاني ذاك، ونقلته وسائل الإعلام العراقية ممّا أثار جدلاً حامياً داخل الأوساط السياسية العراقية. وأعلن أنصار رجل الدّين الشّيعي مقتدى الصدر رفْضهم لتعليقات البرزاني. وقال الناطق باسم التيّار الصدري، الشيخ صالح العبيدي: "هذا الموقف يذكّرنا بأنّ الأكراد يريدون الانفصال. يوجد دستور في هذه البلاد وعليهم احترامه". كما طالب عددٌ من النوّاب العراقيّين البرزاني بالاعتذار عن تصريحه في واشنطن.

بدوره، قال الرئيس العراقي جلال الطالباني، وهو كردي أيضاً ورئيس الاتحاد الوطني الكردستاني، إنّ واشنطن قد تقيم قواعدَ عسكريّة لها في العراق، وحتّى في المنطقة الكرديّة، ولكن بموافقة الحكومة في بغداد. وأوضح أنه "ليس ممكناً أن تبقى قوّات أميركية في كردستان من دون موافقة الحكومة المركزية العراقية.. فإقليم كردستان جزءٌ من العراق وكلّ القوانين الدستورية للبلاد تنطبق عليه".

ويرى الكاتب عثمان علي أنّ فحصاً دقيقاً لتصريح البرزاني المذكور أعلاه يشير إلى أنه كان يتحدّث بعبارات نظريّة ومشروطة. ويعتبر الباحث أنّ كلام البرزاني من حيث التّوقيت، والجهة التي طرحت عليه السّؤال خلال ندوة في واشنطن، يؤكّدان أنّ هذا الموقف هو - من دون شكّ - استخدام تكتيكي للورقة الكردية من قبل الولايات المتحدة لدفع القادة العراقيّين إلى توقيع الاتّفاقية الأمنيّة.

يشعر الأكراد بالأمان والطّمأنينة بوجود القوّات الأميركية في محيطهم نتيجة أجواء عدم الثقة بينهم وبين العرب. فقد شعروا بأنّ حياتهم تحسّنت خلال الأعوام التي أعقبت الغزو الأميركي للعراق عام  2003، نتيجة للاستثمارات الغربية في إقليم كردستان وازدهار الاقتصاد المحلّي.

ويذكر الباحث أنّ الأكراد قد عانوا من تجاربَ قاسية من الدّول القومية في الشّرق الأوسط والتي قلّصت آمالهم بالعيش في سلام مع جيرانهم. فالأكراد الوحيدون الذين قُبلوا من قبل القوميين العرب والأتراك والإيرانيين هم أولئك الذين أدانوا قوميتهم الكردية، إذ أن جيران الأكراد يعتبرون تطلّعات الأكراد القوميّة غير مقبولة.

ويقول الكاتب إنّ حكومات العراق وتركيا وإيران لم تتردّد في توقيع تحالفات مدعومة غربياً لمقاتلة الأكراد، بما في ذلك حلف بغداد، وعضويّة تركيا في حلف الأطلسي (الناتو)، وتحالف إيران الوثيق مع الولايات المتّحدة وإسرائيل خلال عهد الشاه. ولكن أيّ محاولة كرديّة لإجراء ترتيبات مماثلة مع الغرب تم تصنيفها في خانة الخيانة غير المقبولة. ويشير إلى أنّ السّياسات الاستفزازيّة الأخيرة (2009) لحكومة المالكي ضدّ الأكراد قد أقنعت معظمهم أنّه، بغضّ النّظر عن أيّ أيديولوجيا تحكم في بغداد، لا يمكن للأكراد أن يثقوا بالعرب. كما أنّ جارات العراق، وتحديداً تركيا وإيران وسوريا، قد أعلنت عدم رضاها عن الحكم الذّاتي الإقليمي الكردي في إطار عراق اتّحادي، وهي تلتقي دورياً لمراقبة الوضع الكردي.

كما يشير الكاتب إلى قيام هذه الدّول بالضّغط على المالكي لسحب جميع حقوق الأكراد التي اكتسبوها وتمّ إدراجها في الدّستور العراقي. ويذكر بتغطية وسائل الإعلام التركيّة والعربيّة المعادية للأكراد في تصوير لهيمنتهم على العراق وطردهم للعرب من مناطقَ في الموصل وكركوك. كما تتحدّث وسائل الإعلام التركيّة عن اضطهاد التركمان في كركوك. ونتيجة ذلك، يشعر الأكراد بعدم الأمان ويعتقدون أنّ أملهم الوحيد هو في وجود قوّات أميركية في كردستان من أجل ضمان الأمن في الإقليم.


العوامل المشجّعة لوجود القواعد الأميركية في كردستان

ثمّة عوامل تشجّع إقامة قواعد أميركية دائمة في كردستان. فالأكراد هم القطاع الأكثر ولاءً للأميركيّين في المشهد السّياسي العراقي، والجنود الأكراد في الجيش العراقي، والميليشيا الكردية، البشمركة، هم الأكثر موثوقيّة والذين يعوّل عليهم بين القوّات الأمنيّة في العراق، نتيجة معرفتهم الكبيرة بالسكّان والأرض المحليّين، وهي المعرفة الضّرورية لنجاح القوّات الأميركية في محاربة تنظيم "القاعدة" في العراق والمنظّمات المتشدّدة والمجموعات "الإرهابيّة" الأخرى.

كما أنّ القوّات الأميركية لا ينظر إليها في كردستان، كقوّات "محتلّة" أو "عدوّة"، بل كقوّات "محرّرة". ويثير ذكْر الرئيس جورج بوش الابن الابتسامة وليس الاستهزاء. وقد تم الترحيب بالقوّات الأميركية كثيراً عندما تمركزت في الإقليم في بداية غزو العراق، كما قال مسعود البرزاني. وأضاف بفخر: "لم يقتل جندي واحد في الإقليم، ولا حتّى في حادث سير". وأجاب عن سؤال في مقابلة إن كان سيتمّ استقبال القوّات الأميركية مجدّداً في كردستان، قائلاً: "بالتأكيد".

ويرى البرزاني أنّ على الولايات المتحدة أنْ تدع الشّعب العراقي يقرّر إن كان يريد إقليماً واحداً أو إقليمين أو ثلاثة" لكن التقسيم "موجود بالفعل. فهو موجود كأمر عملي". فكردستان هي تقريباً دولة قد نبت ريشها بشكل كامل. والأكراد ما عادوا يتكلّمون العربية بل يتحدّثون بلهجات مختلفة من اللّغة الكردية في المدارس والدوائر الرسميّة على امتداد 74 ألف ميل مربّع هي مساحة المحافظات في إقليم كردستان. فهم يرفعون علَمهم الخاصّ، ويؤمّنون خدماتهم الخاصّة، ويُنشئون جيشهم الخاصّ، البشمركة. وهم قد عزّزوا تدريجياً أمرهم الواقع(de facto).  لكن هذه الدولة مقسّمة إلى قسمين: الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة مسعود البرزاني، وقاعدة سلطته في شمال كردستان، والاتّحاد الوطني الكردستاني بزعامة رئيس الجمهوريّة العراقية جلال الطالباني، وهو يتمركز في جنوب الإقليم.

ويشير الكاتب إلى أنّ رفض تركيا الانضمام إلى الولايات المتّحدة في غزو العراق لإسقاط النّظام العراقي في العام 2003، قد أضعف مكانة تركيا الاستراتيجيّة لدى واشنطن، وعزّز الأهميّة الاستراتيجيّة للقوّات الكرديّة العراقيّة لتحقيق الأهداف الأميركيّة. فقد تمّ إنزال القوّات الأميركية بالمظلاّت في إربيل، بدلاً من نقلها براً من تركيا. كما أنّ قوّات البشمركة قد شاركت بقوّة وفعاليّة في الحرب ضدّ النّظام العراقي إلى جانب قوّات التّحالف بقيادة أميركا، حيث شكّلوا القوّة الثانية من حيث العدد في التّحالف.

وبالنّتيجة، يرى عثمان علي أنّ القواعد العسكريّة الأميركيّة ستبقى في كردستان العراق حتّى في ما بعد انسحاب القوّات الأميركيّة من الأجزاء الجنوبيّة والوسطى في البلاد. كما أنّ الرئيس جورج بوش قد أنشأ بالفعل بنيةً تحتيّةً لنشر القوّات الأميركية في كردستان.

ويذكر الكاتب أنّ الرئيس الأسبق بيل كلينتون، زوج هيلاري، قد كشف، خلال حملة لجمع الأموال لحملتها الانتخابيّة عام 2008، أمام خمسين من المؤيّدين الأغنياء، أمرين في سياسة هيلاري كلينتون قد لا يعجبان بعض "الطهوريين". لكنه يعتقد "أنها محقّة تماماً وأنها يجب أن تترك بعض القوّات في المنطقة الكردية في الشّمال لأنهم تصالحوا مع بعضهم البعض ويتمتّعون بسلام وأمن نسبيّين.. و إذا تركناهم.. ربما لن يعودوا فقط للدّخول في حرب أهليّة طويلة.. بل إنّ الأتراك قد يحاولون مهاجمتهم لأنهم لا يحبّون حقيقة أن مقاتلي حزب العمال الكردستاني يتسلّلون إلى داخل شمال العراق ويختبئون بعد تنفيذهم هجمات في تركيا".

وكان وراء هذه الفكرة مسعود البرزاني وجلال الطالباني الذي قدّم اقتراحاً بهذا الصّدد إلى الرئيس بوش خلال زيارته البيت الأبيض. وقد رحّب الرئيس باراك أوباما بالفكرة خلال زيارته بغداد في 21 تموز/يوليو 2008، فهو يعتقد أنّ وجود قوّات أميركية مقاتلة في كردستان لن يشكّل أيّ خطر حقيقي على أرواح الجنود الأميركيّين، وأن ذلك سيكون ملائماً لإعادة نشر هذه القوّات بشكل دائم في المستقبل. ولكن هذا التّغيير يعني أنّ على الولايات المتّحدة أن تنفق بشكل كبير على قواعدَ أميركية جديدة في كردستان وتتخلّى عن منشآت ضخمة في أماكنَ أخرى في العراق كلّفت مليارات الدولارات. كما لا توجد مطاراتٌ عسكريّة كبيرة أو قواعد كبيرة في أيّ من المحافظات الثّلاث في كردستان.

وقد نقلت صحيفة "غلف نيوز" الإماراتيّة عن مسؤول عسكري كردي ترحيبه بإقامة قواعدَ أميركية في كردستان ولكن في سياق اتّفاق أميركي - عراقي - كردي. وتنقل عن عماد الهمذاني، الضّابط في الجيش العراقي، قوله إنّ "قوّات عسكريّة أميركيّة دائمة ستبقى في قاعدة الحرية الجوّية في محافظة كركوك، وفي قاعدة الغزلاني الجويّة في الموصل". لكنه يقول إنّ وجود هذه القوّات في هاتين المدينتين ليس هو الحلّ الأنسب لأنّ ذلك سيغذّي المقاومة المسلّحة (السّلفية والبعثية). ويقترح الحلّ في إعادة تمركز القوّات الأميركيّة في داخل المنطقة الكرديّة. ويكشف أنه "على الرغم من نفْي المصادر الأميركية والكرديّة وجود نيّة لبناء قاعدة جوّية أميركية قرب بلدة حلبجة في محافظة السليمانية، قرب إيران، فإنّ بعض المصادر الكردية المستقلّة تقول إنّ الولايات المتّحدة تعتزم إقامة وجود دائم في المنطقة الكردية سيكون بالتأكيد أقرب إلى الحدود العراقية - الإيرانية".

يعتقد الدبلوماسي الأميركي السابق في الشّرق الأوسط، بيتر غالبرايث، أنّ الولايات المتحدة قد خسرت الحرب في العراق الذي سيبدو بعد الانسحاب الأميركي - تماماً كما هي حاله اليوم - أرضاً مقسّمة بحسب خطوط عرقيّة إلى دولتين عربية وكردية، وأنّ حرباً أهليّة ستنشب في القسم العربي. ويشير إلى أنّ فشل أميركا في إنجاز مهمّتها في قيام عراق موحّد وديمقراطي يعتمد على نفسه سيكون هزيمة للولايات المتّحدة، رافقها تصاعد النّفوذ الإيراني في المنطقة.

ولدى غالبرايث اقتراحٌ قد يحظى بتأييد هيلاري كلينتون وديمقراطيّين آخرين وبعض الواقعيّين جداً في الحزب الجمهوري، وهو تراجع الجيش الأميركي إلى منطقة آمنة في كردستان.

ويرى الباحث عثمان علي أنه لهذه الأسباب لم يستبعد صانعو القرار الأميركيون تماماً خيار إقامة قواعد دائمة في كردستان. وهذه القواعد ستكون على الأرجح جزءاً من السّياسة الأميركية تجاه العراق ما بعد العام 2011. كما أنّ الحكومة الأميركية لن تتجاهل القلق التّركي بهذا الشّأن، فإذا تعارضت إقامة مثل هذه القواعد في كردستان مع المصالح الأميركية الأوسع في تركيا، فإنّ المصلحة مع تركيا تتغلّب.


التداعيات المحتملة لقواعد أميركية في كردستان

يبحث الكاتب في هذا الفصل النتائج المحتملة لإنشاء قواعدَ أميركية في كردستان وذلك استناداً إلى تجارب القواعد الأميركيّة في دول أخرى، على غرار القواعد العسكريّة في اليابان وكوريا الجنوبيّة والفيليبين. فالقواعد الأميركيّة في كلّ من هذه الدول قد أثّرت بشكل جوهري في النّسيج السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبلدان المضيفة، وكردستان لن تكون استثناءً في هذا المجال.

وكتب الخبير الياباني ماساماتشي س. آينوي يقول: "الجيش الأميركي هو مؤسّسة عالميّة مرنة، تتكوّن من طبقة من المنظّمات المحليّة والقوميّة والفوق قوميّة.. فهو يحافظ على قواعد في تسعٍ وخمسين بلاداً على الأقلّ وله قدرةٌ ضخمة على دخول الحياة المحليّة والـتأثير فيها وحتّى تشكيلها في العديد من زوايا العالم..".

من جهته، عبّر المؤرّخ العسكري الأميركي تشالمرز جونسون عن مخاوفَ مماثلة من دوافع القواعد الأميركية في الخارج، مؤكّداً أنه مهْما كان السّبب الأصلي لدخول الولايات المتّحدة إلى بلاد ما وإقامة قاعدة عسكريّة فيها، فإنها تبقى فيها لأسباب إمبرياليّة استعمارية تتعلّق بالهيمنة الإقليميّة أو الدّولية، منع وصول المنافسين إلى مناطقَ معيّنة، فتح الطريق للشّركات الأميركية، الحفاظ على الأمن والاستقرار أو المصداقيّة كقوّة عسكريّة، وقوّة الاستمرار.

وفي عرضه لواقع تجارب القواعد الأميركيّة في اليابان وكوريا الجنوبية والفيليبين، يذكر الباحث أمثلةً عن المفاسد الناتجة عن هذه القواعد، بدءاً من التلوّث البيئي النّاجم عن وجود طائرات ضخمة (بي 52) وأسلحة معيّنة، إلى ظاهرة الفساد والعلاقات الجنسيّة غير الشّرعية والتي تسفر عن حمل فتيات كثيرات وإنجابهنّ لأطفال غير شرعيّين وترك الجنود الآباء لأطفالهم وإنكارهم لهم. فضلاً عن ظاهرتيْ الاغتصاب ونشر الجنود الأميركيين للمخدّرات، ثمّة ظاهرة سلبيّة أخرى هي كذب الادّعاء الأميركي بأنّ هذه القواعد ستعزّز الديمقراطية في الدّول المضيفة. ففي هذه النّماذج الثلاثة، كانت الولايات المتحدة وقوّاتها العسكريّة تدعم الحكومات الديكتاتورية في هذه الدول (حكومة جزيرة أوكيناوا الدكتاتورية في اليابان، حكومة ماركوس في الفلبين، وتعميق الانقسام بين الكوريّتين في كوريا الجنوبية).


استنتاجات الدراسة

من خلال هذه الدّراسة، رأى الباحث عثمان علي أنّ وجود القواعد الأميركية في العراق ستكون له نتائج بعيدة المدى بخصوص الاستقرار والأمن وتطوير المسار الديمقراطي في المنطقة. وهو يخلص إلى أنّ احتمال إقامة قواعد أميركية في كردستان - سواء كجزء من بناء قواعد عسكرية دائمة في العراق، أو في ترتيب خاصّ مع حكومة إقليم - قويّ. فقسم معتبر من المجتمع الكردي يعتقد أنّ وجود مثل هذه القواعد سيردع إيران وتركيا عن التدخّل في الشّؤون الداخلية للإقليم. فالوجود الأميركي سيمنح الأكراد فرصةً لتعزيز هدفهم المكتسب حديثاً بحصولهم على كيان آمن وشبه مستقلّ في عراق فيدرالي.

لكن الباحث يرى أنّه مع ذلك، فسوف يسبّب وجود القواعد الأميركية في كردستان، من بين أمور أخرى، مزيداً من التوتّر في المنطقة، وسيصدع بشكل عظيم علاقة الولايات المتّحدة مع الحكومات الإقليميّة. فالعامل التركي سيؤثّر بقوّة في القرار الأميركي في إقامة مثل هذه القواعد في كردستان، لكن لا يستبعد احتمال إذعان تركيا أمام وجود هذه القواعد، على الرغم من أنّ أنقرة تفضّل بقاء الولايات المتحدة والقوى الغربيّة بعيدةً عن المشكلة الكردية.

ستكون إيران الأكثر تأثّراً بوجود هذه القواعد، بسبب العِداء بينها وبين الولايات المتّحدة منذ قيام الجمهوريّة الإسلاميّة عام 1979. فإيران سترى في هذه القواعد الأميركيّة في كردستان الخطوة الأخيرة في عمليّة استكمال تطويقها. فالجمهوريّة الإسلامية هي حالياً محاطة بأنظمة عديدة موالية لأميركا والقوّات الأميركيّة ترابط على حدودها مع أفغانستان والعراق والكويت وأذربيجان. كما أنّ وجود قواعد أميركية في كردستان سيخدم كضمانة لحكومة الإقليم الكردي ويجعلها أكثر جرأة على دعم الأكراد الإيرانيّين في تحقيق تطلّعات قوميّة مماثلة. وهذا سيضع حكومة كردستان في مواجهة مباشرة مع إيران، لا يمكن تجنّبها. فقد تمارس طهران  نفوذها على الأوساط السياسيّة الشّيعية في بغداد وتشجّعها على اتّخاذ وضع مواجهة مع حكومة إقليم كردستان.

كذلك، فإنّ تركيا وإيران تشكّلان الشّريانين الحيويّيْن اللّذيْن يؤمّنان بقاء اقتصاد كردستان. وفي حال أيّ مواجهة عسكريّة محتملة بين الولايات المتّحدة وإيران، ستشتعل كردستان بحمّى هذا الصّراع. كما أنّ وجود هذه القواعد سيجعل كردستان هدفاً مشروعاً خلال أيّ مواجهة عالميّة مستقبليّة بين الولايات المتّحدة والقوى الكبرى الأخرى.

ويخلص الباحث إلى أنّ الوجود الأميركي في كردستان لن يجعلها بالضّرورة مزدهرة اقتصادياً على غرار اليابان، التي استفادت من الوجود الأميركي بعد الحرب في إعادة بناء الاقتصاد والمجتمع المدمّرين. لكن ذلك يعود بشكل واسع إلى تقدّم اليابان العلمي والاقتصادي ما قبل الحرب، ومؤسّسات الدّيمقراطية لديهم. في المقابل، لعبت القواعد الأميركية في أوكيناوا وكوريا الجنوبية والفيليبين دوراً ارتدادياً حيث فضّلت الإدارة العسكريّة الأميركية العمل مع حكّام مستبدّين طالما كانوا يخدمون المصالح الأميركية.

وفي كردستان، اتّبع المسؤولون العسكريّون الأميركيون نموذجاً مماثلاً. ويعرض الباحث لغياب الديمقراطيّة في إقليم كردستان ومظاهر الاستبداد لدى حكومة الإقليم في فرعيْها الشّمالي)البرزاني( والجنوبي )الطالباني(. فالحزبان يهيمنان على الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة في الإقليم ويحتكران المؤسّسات والوظائف في الحكومة والقضاء والجيش والأمن والمؤسّسات التعليميّة. كما يقمع الحزبان المعارضة والصّحافة والإعلاميّين ومنظّمات المجتمع المدني، فضلاً عن انتشار الفساد والمحسوبيّة وهيمنة عائلتيْ البرزاني والطالباني كلّ في منطقته في الإقليم. فالبرزاني يواصل سيطرته الاستبداديّة على محافظتيْ دهوك وإربيل، بينما يسيطر الطالباني على محافظة السليمانية.

ويكشف الباحث أنّ البرزاني والطالباني قد جمعا ثروتين كبيرتين من خلال وجودهما في المنصب. فبلغت ثروة الأوّل أكثر من ملياريْ دولار فيما بلغت ثروة الثاني أكثر من 400 مليون دولار. ويشير إلى أنّ البرزاني قد اشترط الحصول على عشرة في المئة من العائدات المستقبليّة للشّركات النفطية كي تحصل على عقود للاكتشاف والتطوير في إربيل ودهوك. كما يشير إلى عمل أجهزة استخبارات الحزبين الكرديين على تعذيب السياسيّين والصّحافيين المعارضين حتّى رجال الأعمال الذين يرفضون دفع العمولات والرّشى لقادة الحزبيْن. كما تتجسّس الاستخبارات على المواطنين الأكراد والضّيوف، والصّحافيين الأجانب وتقيّد حركتهم، حتى لا يتمكّنوا من الحصول على معلومات لا تريد السّلطات فضحها. حتى منظّمات المجتمع المدني لا يمكنها العمل بشكل مستقلّ عن رعاية القيادة الكرديّة.

لا توجد شفافيّة ولا محاسبة ولا ديمقراطيّة في كردستان. إضافة إلى التّزوير في الانتخابات، وممارسة الضّغوط على المرشّحين والنّاخبين المعارضين والمستقلّين.


الخلاصة

عندما أبلغ البرزاني المستثمرين عن خططه لتحويل إقليم كردستان إلى دبي جديدة، لم يفهم أنّ فساد إدارته سوف يؤخّر النّجاح. فمع اتّساع الهوّة بين الأغنياء والفقراء، فيما البرزاني والطالباني يستعملان آليّات للسّيطرة على المعارضين، سوف تنمو الأحزاب الإسلاميّة وتصبح أكثر شعبيّةً. وقد قامت هذه الأحزاب بهجمات، ليس بسبب رؤاها الدّينية بل لأنّ الأكراد يعتبرونهم البديل "النظيف" الوحيد للاتّحاد الوطني الكردستاني والحزب الدّيمقراطي الكردستاني. فقد أصبح الاتّحاد الإسلامي الكردستاني أكثر شعبيّةً وسوف تكون لانتقاده الشّديد للسّياسة الأميركية ونظريّاته عن المؤامرة و نوايا الولايات المتّحدة، جذورٌ عميقة في المجتمع الكردي.

ويرى الكاتب أنّ استضافة كردستان لوجود عسكري أميركي طويل الأمد قد يتيح للقوّات الأميركية الخروج من بقيّة مناطق العراق حيث التّرحيب بها أقلّ، لكن هذا الخيار قد جعله سلوك البرزاني غير حكيم. فربما يبدو قيام قاعدة أميركية في كردستان، نظرياً، رصيداً استراتيجياً لوزارة الدفاع الأميركية)البنتاغون )، لكنه في الواقع قد يكون عبْئاً عليها. وذلك لأنّ تسهيل البرزاني ــ إن لم يكن تمويله ـ لإرهاب حزب العمّال الكردستاني ضدّ تركيا، سوف يجعل الوجود الأميركي في كردستان يعفيها من المحاسبة ومن الانتقام التركي. وعليه فإنّ قيام أيّ قاعدة أميركية في كردستان قد يقود إلى نزاع كبير، طالما استمرّ البرزاني في السّلطة. وعلى البنتاغون أن يتوقّع، في حال أراد إقامة قاعدة في كردستان،  تصاعد مشكلة حزب العمّال الكردستاني واستفزاز البرزاني للدّول المجاورة. فالبرزاني يريد وجود القوّات الأميركية في إقليمه لنفس الأهداف التي يريدها مستبدّون آخرون مُوَالون للولايات المتّحدة في العالم، أي حماية صعوده وفساده.

ويخلص الباحث إلى أنّ الوجود الأميركي في كردستان لن يكون من دون كلفة، فالمصالح المحليّة والعناصر المحافظة في المنطقة تجد أسباباً لإدامة وجود هذه القاعدة. لكن الشّعب الكردي يجب ألاّ يعتبر أنّ علاقته بالغرب والوجود الأميركي في أرضه هما خياره الوحيد كي يعيش في أمن وسلام. "فالوجود الأميركي في العراق والشّرق الأوسط هو مرحلة عابرة وعلى القيادات الكرديّة أن تبحث عن بدائلَ أخرى. فالاعتماد على الذّات وكسب ثقة الشّعب الكردي من خلال إقامة إدارة ديمقراطية فعّالة وخالية من الفساد يمكن أن يمنحا الشّعب أرضيّة أكثر صلابةً يبني عليها مستقبل كردستان. كذلك، سواء اعتقدنا أنه مقدّر لنا أو مصابون بلعنة الاعتبارات الجيوسياسيّة أو أنّنا مباركون بالإسلام وبالخلفيّة التاريخيّة المشتركة مع جيراننا، فلا خيارَ أمامنا إلاّ في بناء جسور مع الأمم الأخرى في منطقتنا كي نعيش في سلام".

ويختم الكاتب إنّ العراق قد تغيّر بعد سقوط نظام صدام، أمّا كردستان فلم تتغيّر.