العنوان هنا
مقالات 29 يونيو ، 2013

سيناريوهات ما بعد 30 يونيو

الكلمات المفتاحية

عمرو الشوبكي

​باحث مصري وبرلماني سابق ورئيس منتدى البدائل العربي للدراسات.

بدأت المعارضة المصرية في حشد أنصارها استعدادًا لموقعة يوم 30 يونيو، ودعت بعض قواها الراديكالية والشبابية إلى إسقاط أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر عبر ثورة ثانية تطيحه وتفرض مجلسًا رئاسيًا انتقاليًا أو رئيسًا مؤقتًا هو رئيس المحكمة الدستورية العليا، في حين طالب قطاع واسع من المعارضة بضرورة التمسك بآلية ديمقراطية في مواجهة الرئيس، وطالبوا بضرورة الضغط السلمي لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، أو بتغيير الحكومة وتعيين حكومة تكنوقراط من الخبراء والمستقلين إلى حين إجراء انتخابات نيابية جديدة.

ومع ذلك ظلت دعاوى إسقاط النظام والرئيس محمد مرسي سائدة في خطاب قطاع من التيارات "الثورية"، واعتبر تكتل القوى الثورية أنّ "فجر الثورة سيشرق من جديد وسندخل القصر لنعلن انتصار ثورتنا"، ورُفع غير ذلك من الشعارات التي دعت بشكل واضح إلى إسقاط الرئيس، بل وتوعدت بممارسة العنف ردًا على تهديدات الإخوان المسلمين بممارسة العنف أو التصدي للمتظاهرين.

وإذا كانت إبداعات المعارضة الشبابية المصرية منذ ثورة 25 يناير مؤكّدة، وبخاصة مع ظهور حركة "تمرد" (وهي حملة توقيعات سلمية طالبت بسحب الثقة من الرئيس وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة)، فإنّ أحد معضلات المعارضة في مصر تكمن في أنّها ما زالت أسيرة الصوت الاحتجاجي غير القادر على بناء مؤسسة حزبية أو بديل سياسي لحكم الإخوان، على الرغم من اتساع رقعة الرفض الشعبي لهذا الحكم؛ الأمر الذي يشير بوضوح إلى أنّ رفض قطاع واسع من المصريين لحكم لإخوان لم يترجم إلى تكوين إطار سياسي متماسك للمعارضة.

وقد تباينت التقديرات بخصوص تداعيات 30 يونيو بين من يتوقع أن تدخل البلاد في فوضى عارمة، وتنهار العملية السياسية ويسقط حكم الإخوان، وبين من يحلم بالمخلّص الذي لن يأتي؛ فيبحث عن "عبد الناصر جديد" و"يوليو أخرى"، وربما وجد هؤلاء جزءاً من ضالتهم في البيان الأخير لوزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي (الذي أعلن فيه أنّه لن يسمح بترويع الشعب المصري ولا بسقوط الدولة ولا بإهانة الجيش، ودعا أهل الحكم والمعارضة إلى ضرورة التوافق السياسي)، ولا يعرف أولئك أيضًا أنّ شروط المرحلة التاريخية التي جاءت بثورة يوليو وعبد الناصر مختلفة عن المرحلة الحالية، وأنّ مصير مصر اليوم متوقف على قدرة أبنائها على العمل والتوافق.

المؤكد أنّ أزمة مصر الكبيرة لا تكمن في الاستقطاب السياسي، وإن كان هذا أحد مظاهرها الأساسية، لكنّها تكمن في الأساس الدستوري والقانوني المشوّه الذي ساعد على تحويل التنافس السياسي إلى صراع دموي أصبح معه هذا الاستقطاب أحد أعراض المرض وليس سببه الأصيل.


الطريق إلى 30 يونيو

مرّ الطريق إلى 30 يونيو عبر سلسلة من الأخطاء الفادحة التي جعلت المواجهة بين تيار واسع من الشعب المصري بما فيها المعارضة الشبابية والحزبية من جهة، وبين جماعة الإخوان المسلمين من جهة أخرى شبه حتمي.

ولعل الشرط الأول لنجاح عملية التحول الديمقراطي هو في طريقة التعامل مع مكونات النظام القديم، والتي اختار كثير من المصريين أن يهتف ضدها، في حين أنّه سار عمليًا على نهجها؛ فجنوب أفريقيا التي ناضلت ضد حكم عنصري وناصرها الكثير من بلدان أوروبا الشرقية وأميركا الجنوبية، تبنت مفهوم العدالة الانتقالية الذي يقوم على تخصيص دوائر قضائية وقانونية مستقلة للتحقيق في الجرائم التي جرت في العهد السابق وإغلاق هذا الملف نهائيًا بعد محاكمة كل من ارتكب جريمة. كما أنّ قلة من التجارب هي التي عُزل فيها عدد قليل من رموز النظام القديم ولفترة من الزمن كما حدث في تشيكوسلوفاكيا مثلًا التي عزلت رجال السياسة المتعاونين مع الأمن وقُدِّروا بالعشرات وليس كل أعضاء الحزب الشيوعي الذين بلغوا مئات الآلاف.

إن ّالمزايدة بموضوع الفلول على مئات الآلاف من المصريين ممن دخلوا الحزب الوطني الديمقراطي لسبب أو آخر والعمل بكل قوة على إقصائهم بحسب الطلب والحسابات المختلفة، أصبح يمثل كارثة حقيقية لأنّ هؤلاء لم يعاقبوا على جرائم محددة، ولم يتورط كثير منهم في أي قضايا فساد، وبعضهم دخل الحزب بصورة انتهازية بحثًا عن منصب أو موقع عن طريق تملّق الحزب الحاكم، وهي كلها ظواهر- في ما عدا الجرائم - تحارب بالسياسة وببناء منظومة سياسية لا تسمح طبيعتها الجديدة والديمقراطية لصعود هؤلاء.

إنّ استخدام النظام الحالي - سواء الرئيس محمد مرسي أو جماعة الإخوان المسلمين أو غيرهما من قوى سياسية - لقضية النظام القديم والحزب الوطني حوّلت الخلاف السياسي بين التيارات السياسية والحزبية إلى صراع بين الثورة والثورة المضادة، وهو مما لا يساعد على بناء نظام ديمقراطي يتساوى فيه الكل سواء من هم في الحكم أو في المعارضة، ومن عملوا مع النظام القديم أو الجديد طالما لم يرتكبوا جرائم. ومن شأن ذلك أيضًا إعادة إنتاج مفردات نظام مبارك مثل "الجماعة المحظورة" و"القلة المندسة" بخطاب "الثورة المضادة" و"الفلول"، الأمر الذي أتاح لقيادات القوى المعادية للثورة أن يكون لها امتداد جماهيري، كما أتاح لها إمكانية الحركة والمناورة الواسعة. إنّ عدم تنظيف جرح النظام القديم، وعدم الاتفاق على آلية ومعيار صارمين يتوافق عليهما أغلب التيارات السياسية في التعامل مع مكونات النظام القديم، أدخل هذا الموضوع عمليًا في دائرة المزايدة السياسية والسجال الحزبي؛ فإذا كان بعض رموز النظام القديم متعاونين مع النظام الحالي فإنهم يوصفون برجال أعمال شرفاء وتكنوقراط محترمين، أما إذا عارضوه فيصبحون فلولًا وفاسدين. إنّ هذا الأسلوب لا يحقق بناء نظام ديمقراطي ودولة قانون بأي صورة من الصور؛ فالقضية ليست في قبول التحالف مع رجال النظام السابق أو رفضه، بل في ازدواجية المعايير وتغيّرها حسب المصلحة، فطالما لا يوجد أي نص دستوري أو قانوني يحول دون هذا التحالف، فإنّ الأمر يصبح خاضعًا للحسابات السياسية لكل تيار سياسي، ويترك الأمر لعموم المصريين أن يحكموا على صحته من عدمه. 

 أما الشرط الثاني لنجاح التحوّل الديمقراطي فهو وضع الأسس والقواعد القانونية والدستورية للنظام السياسي الجديد قبل تسليم السلطة لأي فصيل سياسي، وهذا ما فعل عكسه المجلس العسكري خلال إدارة المرحلة الانتقالية.

 فعلى الرغم من تسليم المجلس العسكري السلطة لرئيس مدني منتخب، فقد تخلى عن واجبه في المرحلة الانتقالية في وضع الأطر القانونية والدستورية لهذه السلطة؛ فهو إذ لم يحرص على الاحتفاظ بالسلطة ولم يتآمر من أجل ذلك كما توهم البعض، فإنّه أيضًا لم يحرص على أن يضع أي قاعدة قانونية ودستورية تحكم العملية السياسية - مثلما تقول تجارب النجاح - قبل أن يسلم السلطة للإخوان أو غيرهم. فتعديل دستور عام 1971 والاستمرار به لحين إجراء الانتخابات كان خيارًا منطقيًا ومنجزًا، كما أنّ التوافق على دستور جديد قبل بدء الانتخابات كان حلمًا أيضًا ولكنه صعب المنال، وكلاهما كانا جزءًا من خيارات النجاح؛ أي التوافق على القواعد الدستورية والقانونية قبل انطلاق العملية السياسية.

وقد عمّق من هذه المشكلات إدارة الإخوان المسلمين للمرحلة الانتقالية ونهمها للسلطة؛ مما جعل حزب النور، الحليف السابق للإخوان، يعلن رفضه ما سمّاه بأخونة الدولة، ويقدِّم للرئيس 12 ألف اسم زرعهم الإخوان في مفاصل الدولة المختلفة. كما تمسَّك رئيس الجمهورية برئيس وزراء اعتبرته المعارضة وقطاع واسع من الشعب المصري هو الأفشل في تاريخ البلاد، والمدهش أنّ الرئيس تمسَّك بحكومة أغلبها من أعضاء جماعة الإخوان ومناصريها متجاهلًا الدستور الذي ينص على ضرورة أن تنال الحكومة ثقة البرلمان، وأن تكون معبرة عن أغلبية حزبية داخله، وهو ما لم يحدث نظرًا لحل مجلس الشعب.


ليس بالصندوق وحده تحيا الأمم

من المؤكد أنّ الرئيس محمد مرسي هو أول رئيس منتخب بشكل ديمقراطي منذ 60 عامًا، وأنّه جاء من خلال "صندوق الاقتراع"؛ ولذا فإنّ تغييره كما يرى كثيرون يجب أن يكون من خلال الصندوق أيضًا. وإذا كانت الانتخابات التمثيلية وشفافية الصندوق هما أساس شرعية أي نظام سياسي، فإنّهما بالتأكيد ليسا الأساس الوحيد، فالنظم الحية هي التي تنجح في دمج القوى السياسية الجديدة والشبابية داخل العملية السياسية والانتخابية ولا تستخدم الأخيرة كوسيلة لإقصائها.

وعلى الرغم من أنّ ثمة تجربتين من تجارب النجاح (البرازيل وتركيا) التي حقق نظامهما الحاكم إنجازات اقتصادية وإصلاحات سياسية وديمقراطية هائلة، فإنّ الأمر لم يخلُ من وجود احتجاجات واسعة نظرًا لوجود أجيال وتيارات جديدة لديها طموحات تتجاوز النخبة الحاكمة ولا تستطيع العملية الانتخابية دمجها في العملية السياسية وتمثيلها بشكل جيد في المجالس المنتخبة.

إنّ العملية السياسية الناجحة هي نتاج لنظام سياسي ناجح - وليست أساسًا لانتخابات ناجحة - قادر على الانفتاح على الجديد الذي يتشكل داخل المجتمع، وعلى دمجه داخل العملية السياسية والديمقراطية، وعلى دفعه إلى الاقتناع بجدوى المشاركة في العملية السياسية والانتخابات، وعلى مساعدة القوى الجديدة والثورية على تغيير جانب من خطابها لتعترف بشرعية الصندوق والمسار السياسي والشرعي. وثمة أمثلة على تجارب النجاح هذه كالتيارات الثورية اليسارية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ومنها ما حدث في فرنسا مع ثورة الطلاب في عام 1968 التي تحول معظم شبابها الثوري والشيوعي والتروتسكي إلى قيادات في أحزاب إصلاحية اشتراكية.

والحقيقة أنّ دور النظام السياسي هو خلق عملية سياسية فعّالة وقادرة على دمج معظم القوى السياسية فيه، وهذا ما حدث عكسه تمامًا في عهد نظام حسني مبارك، ولذلك كان سقوطه مدويًا، بعد أن مارس عملية إقصاء كاملة لكل التيارات السياسية الفاعلة وعلى رأسها التيار الإسلامي. ولو أنّه قام بدمج، ولو جزئي، لهذا التيار وأتاح له فرصة التفاعل مع نظام سياسي ودولة ودستور وقوانين موجودة وشبه راسخة لتطور هذا التيار - أو على الأقل جانب كبير منه - بشكل تدريجي، ولوجدنا تيارًا إسلاميًا ديمقراطيًا ليس هدفه الوحيد الاستحواذ على السلطة وإقصاء الجميع.

وبما أنّ هذا لم يحدث في عهد مبارك، وبما أنّه أيضًا لم يحدث في المرحلة الانتقالية التي يديرها الإخوان الذين أصروا على عدم الالتفات إلى كل من يطالبهم بمراجعة الأساس الذي بنيت عليه العملية السياسية، وبما أنّ البلاد تتفاقم أزمتها الاقتصادية والسياسية كل يوم، فهم يرون أنّه لا توجد مشكلة، وأنّ الأمر لا يتجاوز أعراض الزكام الذي سنتعافى منه حتمًا على الرغم من مبالغات المعارضة.


سيناريوهات ما بعد 30 يونيو

هذا هو الطريق الذي أوصلنا إلى 30 يونيو: سلسلة من الأخطاء الجسيمة ارتكبها من أداروا المرحلة الانتقالية، وجعلنا أمام ثلاثة سيناريوهات:

  • السيناريو الأول: أن يشارك ملايين المصريين في احتجاجات 30 يونيو، وينهار نظام مرسي، ويجبر على إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. ويستلهم هذا السيناريو ما جرى مع مبارك في مظاهرات الـ 18 يومًا التي أدت إلى تنحيته عن السلطة، لكن يتناسى من يعتقدون بهذا السيناريو أنّ نظام مرسي يعتمد على جماعة عقائدية (أو شبه عقائدية) ما زال قطاع واسع منها يعتبر أنّها تدافع عن الحق في مواجهه الباطل، وهناك جزء فاعل من الشعب المصري ما زال يؤيد مرسي وجماعته وهو أمر يختلف عن مظاهرات "الهواة" التي أيدت مبارك أثناء ثورة 25 يناير. لذا، هناك تشكك في أن يكون سيناريو الانتخابات الرئاسية المبكرة من السيناريوهات السلسة والسلمية خاصة في ضوء خطاب مرسي في 26 حزيران/ يونيو 2013.
  • السيناريو الثاني: أن تستمر التظاهرات الكبيرة لبعض الوقت، ثم يأتي شهر رمضان والأجواء الحارة ويبدأ الناس في العودة إلى بيوتهم بعد أن فشلوا في إسقاط الرئيس، ويستعدون لجولات أخرى ستحسم بالنقاط وليس بالضربة القاضية.
  • السيناريو الثالث: هو تكرار لسيناريو مبارك ولكن بصورة أعنف؛ أي أن تستمر المظاهرات ويتخللها عنف، ليحسم مسارها الجيش (الذي أثبت أنّه جيش الدولة وليس النظام)، والذي لن يتدخل بـ"يوليو جديدة" بل للسيطرة على العنف، ثم الضغط على السلطة السياسية إما من أجل اختيار حكومة جديدة تضم فقط المستقلين والتكنوقراط، أو إطلاق عملية سياسية جديدة تجرى فيها انتخابات رئاسية مبكرة. ولكن الجيش لن يكون في كل الأحوال طامحًا، وربما غير قادر (لاعتبارات داخلية ودولية) على تولي السلطة بطريقة انقلابية.

ستشهد مصر - على الأرجح - صدامات عنيفة وواسعة عقب 30 يونيو، ومن المؤكد أنّ القوى السياسية لن تستطيع بمفردها حسم معركة السلطة في مصر، وأنّ دور الجيش سيكون حاسمًا كما جرى مع مبارك حين تخلى عنه؛ فحسم المعركة في 18 يومًا. ويبقى أنّ طبيعة هذا الدور ستتراوح من الوسيط بين الأطراف السياسية إلى الضامن لعملية سياسية نزيهة وجديدة.

وسواء بقي مرسي في الحكم أو قبل بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة؛ فإنّ مصر معرّضة لخطر السقوط في براثن الدولة الفاشلة من فوضى وحرب شوارع وغياب للأمن، وتلك تحديات يجب مواجهتها قبل فوات الأوان.